قول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ]، فالسلف رضي الله تعالى عنه ولا سيما الصحابة كان الفقه عندهم أعم من مفهومه عند المتأخرين، فإذا قيل: الفقه أو الفقهاء في عرف المتأخرين؛ فهو -كما نعرفه اليوم-: الاشتغال بالأحكام التفصيلية والمسائل العملية التي يستفتي فيها الناس، لكن الفقه عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أعم من ذلك، فمن جملة ما يدل عليه: حقيقة العلم، العلم النافع الذي يعرف الإنسان به ما هو أعظم من الأحكام العملية؛ وهي معرفة الله تبارك وتعالى، أو ما نسميه نحن الآن: العقيدة، فالفقه عندهم يدخل في العقيدة كما يدخل في الأحكام أو في الشريعة.
ولذلك نجد أن الإمام أبا حنيفة مثلاً نسب إليه كتاب: الفقه الأكبر ، وكذلك ينسب للشافعي كتاب في الفقه الأكبر، فلما اشتغل الناس بالفروع وسموها: الفقه؛ سمى أولئك العلماء الاشتغال بالأصول الفقه الأكبر، فهذا فقه، وهذا فقه.
وهناك جانب آخر من جوانب الفقه كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتكلمون فيه وهو ما يسميه المتأخرون من الصوفية وغيرهم: علم السلوك، وهو الذي يسمى في العرف أو في الاصطلاح المعاصر: بالتربية؛ أو التربية للنفس، أو التربية للغير، والتربية تسمية صحيحة على أي حال، ولكن الأولى منها أن نقول: التزكية؛ لأنها هي التي جاءت في القرآن، قال تعالى: (( وَيُزَكِّيهِمْ ))[البقرة:129]، وقال: (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ))[الشمس:7-9]، فالتزكية هي اللفظ الشرعي الأفضل، والتربية أيضاً معناها صحيح كما في قوله تبارك وتعالى: (( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ))[آل عمران:79]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [ الرباني هو الذي يعلم صغار العلم قبل كبار ] فالمقصود: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قبل أن تفتّق هذا العلوم والفنون وتصنف وتبوب كانوا يسمون هذا كله: فقهاً، والفقه الذي يقصده أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه هنا هو: فقه التربية، أو بمعنى أصح: فقه التزكية، وكذلك ما يتعلق بمعرفة الله، فهو عنده من الفقه.
قال: [ من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه ] أي: مما يدل على أنه عالم وفقيه: أن يتعاهد إيمانه، فهو فقيه في دينه ومن فقهه: أنه يتعاهد إيمانه، كما أن الإنسان يتعاهد كل شيء ثمين لديه، ويحرص عليه، فيتعاهده ويتفقده وينظر ما حاله وما شأنه، فأعز عزيز لديك، وأحرص شيء عندك تحرص عليه وتتعاهده وتتفقده فيجب أن يكون إيمانك كذلك، وهذا من علامة فقه الرجل، ومن علمه وحرصه على التزكية: أن يتعاهد إيمانه، وما نقص منه.
قال: [ ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ] أي: أن يقيس إيمانه فينظر هل يزداد إيمانه أم ينتقص، وينظر هل حاله اليوم خير أم حاله فيما قبل ذلك، ومن أسرار ذلك أن تعلم أنه ما من يوم يمر عليك، بل ولا لحظة أو ساعة إلا وهي تقربك إلى الآخرة، وتقربك إلى لقاء الله، فيجب عليك أن تستعد لهذا اللقاء، وأن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وأن تتهيأ لهذا الموعد، فهذا حال الناس في دنياهم: كلما اقترب منك موعد أو أمر عظيم كنت أكثر شغلاً به، وتفكيراً، وحرصاً، واهتماماً، فما يأتي عليك يوم إلا ويزيدك من الآخرة قرباً، ويزيدك عن الدنيا بعداً، فكيف يأتي عليك يوم وإيمانك على حاله؟! وأسوأ من ذلك أن يأتي عليك يوم جديد وإيمانك أقل من اليوم الذي قبله.
فهذا من فقه السلف رضوان الله تعالى عليهم، فقد كانوا هكذا يعيشون، ولذلك كانوا في كل يوم يزدادون إيماناً، ويحرصون على زيادته ويتعاهدونه؛ لأنهم يعرفون أن الإيمان كما جاء في الحديث الآخر: ( إن الإيمان ليخلق ) أي: يبلى كما يبلى الثوب، فلا بد من تجديد الإيمان؛ لكي لا يعتريه البلى والاهتراء، فيجدد المرء الإيمان بعوامل كثيرة، ويتعاهده، ويعلم أنه يزداد من لقاء الله تبارك وتعالى، ومن الآخرة قرباً؛ فيجب أن يكون خيراً مما كان.
ومن هنا كان أخوف ما يخاف منه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم سوء الخاتمة والعياذ بالله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والعبد منهم يجتهد ألا يطلع الله تبارك وتعالى عليه على معصية، وألا يفتقده حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه.. هكذا حال الإنسان منهم؛ لأن العبد الصالح المجتهد في طاعة الله لا يأمن من نفسه أن يعمل معصية فيلقى الله، فتكون آخر ما عمل على سوء خاتمة والعياذ بالله.
وعندما تعرضنا لتفسير حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الصحيح وهو من أعظم الأدلة في إثبات القدر وتفصيله، فالقدر إما كوني شامل، وهو ما كتب في الذكر، وإما قدر خاص يبني الإنسان وهو التقدير النوعي، أي بتنوع الإنسان، كما في حديث استخراج الذرية من ظهر آدم وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي، فهذا قدر نوعي، أي يشمل النوع البشري كله، فقدر الله في ذلك اليوم أن هذا في الجنة، وهذا في النار، ثم يأتي التقدير العمري أو الفردي، أي: أنه بالنسبة إلى عمر الإنسان، والفردي نسبة إلى الفرد، وهو ما في حديث الصادق المصدوق، ثم يأتي التقدير الحولي، وهو ما يكون في ليلة القدر، ثم التقدير اليومي كما في قوله تعالى: (( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ))[الرحمن:29]، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قلنا: إن التفسير الصحيح له: هو أن الإنسان يجب عليه أن يخاف سوء الخاتمة مهما اجتهد في طاعة الله تبارك وتعالى؛ لأنه قد: ( يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )، وبذلك رجحنا هذا على القول بأنه فقط فيما يظهر للناس، وقلنا: لا يحمل هذا على هذا؛ لأن الذي يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس هو في الحقيقة عامل بعمل أهل النار، فالمقصود أعظم وأعم من ذلك في التزكية الإيمانية، فإنك لو كنت صادقاً مع الله، وتعمل بعمل أهل الجنة، وتصلي لله، وتصوم لوجه الله، وتنفق ابتغاء مرضات الله، وتحج الحج المبرور، تريد بذلك مرضات الله؛ فمع ذلك كله احذر أن تعصي الله فتلقى الله تبارك وتعالى بسوء خاتمة والعياذ بالله.
وأما حالة من يعمل العمل في ظاهره من عمل أهل الجنة، وهو في الباطن يرائي، أو هو لا يريد به وجه الله؛ فهذا في الحقيقة إنما هو عامل بعمل أهل النار، فيأتيه التخويف والوعيد من جهة أنه غير صادق، وغير مخلص في عمله، فهو من جنس النفاق، فقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر.
فهذا من فقه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فقد كانوا يتعاهدون إيمانهم أيزداد أم ينقص؛ خشية أن يوافي أحدهم الأجل وهو على قبيح وعلى معصية، ويخافون مما هو دون ذلك، فيخافون أن يأتيهم الموت وهم أقل إيماناً مما كانوا، لهذا فأفضل ما يتمنى الإنسان الموت وهو في أعلى درجات الإيمان؛ حتى ينال الدرجات العلى في الجنة عند الله تبارك وتعالى.
ومن هنا نعلم حكمة الله تبارك وتعالى -وهذا من عجائب آيات الله في خلقه- أن الإنسان كما قال صلى الله عليه وسلم: ( يشيب ابن آدم -يعني: يهرم الإنسان ويشيب ويكبر- ويشب -أي: ينمو ويطول ويزداد- معه اثنان: الحرص، وطول الأمل )، فكل يوم تزداد أنت من الآخرة قرباً، ويزداد قلبك على الدنيا حرصاً، وحكمة الله سبحانه وتعالى في ذلك: ليظهر من يزداد إيماناً، ومن يجتهد في طاعة الله أكثر، فيكون هذا من الابتلاء.
والملاحظ الآن: أن الشاب في سن العشرين لا يبالي كثيراً إذا فقد الوظيفة، أو فقد المال، أو فقد الزوجة، لكن لو قست مبالاته بمبالاة أبيه الذي في الستين؛ لوجدت الفرق كبيراً جداً، فالأب لا يريد أن ينتقص من ماله شيء، ولا من أولاده، وأما الشاب فكأنه يقول: أنا ما زلت في أول الأمر، ولسان حاله يقول: أعوض هذا بغيره.
والله تبارك وتعالى أراد من العباد تحقيق مصالح عظيمة ونجملها في مصلحتين: المصلحة الأولى: مصلحة إعمار الدنيا بالخير، فلو أن الإنسان كلما تقدم به العمر، واقترب من القبر؛ ازداد زهده في الدنيا، وبعده عنها؛ لما عمرت الدنيا بهذا الشكل الذي نراه، والعمر سريع ويفاجئ الإنسان، فلا يكاد الشاب يستقر إلا ويبدأ يفكر في الموت فلا يعمل شيئاً، ويأتي الجيل الجديد، ويأتي الأولاد فلا يجدون أمامهم من أعمار الدنيا ما يكفيهم.. وهكذا، فكأن البشرية مع الزمن تتقهقر ولا تتقدم، لكن إذا كان الأب حريصاً على كبر سنه، والأبناء لا يبالون؛ فإذا مات الأب ورث الأبناء ما قد عمر وما قد خلف، ثم لا يكادون يعملون فيه إلا وقد جاءهم الكبر، فيبدأ يزيد عندهم الحرص، ويزيد عندهم طول الأمل، فيجتهدون أكثر.. فهكذا تظل الحياة البشرية -من حكمة الله تبارك وتعالى- دائماً أرقى وأحسن وأفضل، وهذا على المستوى العام ما لم يعرض لها عارض فهذا أمر آخر، هذا من جهة الدنيا.
وأما المصلحة الثانية: فمن جهة الآخرة؛ ولذلك ليزداد الابتلاء، فـ الإنسان إذا كان من طبعه أنه إذا كبر يزهد في الدنيا لما كان لذلك كبير أثر في زيادة إيمانه، وفي ثوابه، وفي عقابه، ولهذا -والعياذ بالله- نجد أن الأشمط الزاني شر عند الله تبارك وتعالى من الزاني الشاب، فهو قد انقطعت به أسباب الشهوة ودواعيها ومثيراتها، وقد استمتع من عمره فيما مضى بما يكفي، فما الذي يدفعه لأن يزني زنا الشاب؟! فهذا حرام وهذا حرام، وكلاهما مرتكب للفاحشة، لكن ذلك أسوأ منه بكثير كما جاء في الحديث.
فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى جعل زيادة الحرص، وطول الأمل مع الشيب، ومع اقتراب الإنسان من القبر ابتلاءً وفتنةً؛ ليزداد الإنسان إيماناً، ويتعاهد قلبه كما ذكر أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، فيعلم أنه بذلك يزداد عند الله تبارك وتعالى منزلة، وكلما قاوم هذا الميل الفطري الطبيعي إلى الحرص، وإلى طول الأمل؛ فإنه يكون أكثر إيماناً، ويكون بذلك أكثر أجراً عند الله عز وجل.