ويريد المؤلف هنا أن يضع قاعدة عامة فيما جاء من الآيات والأحاديث التي يأتي فيها نفي الإيمان، وإطلاق أنه (لا يؤمن)، والقاعدة فيها -وهي قاعدة عظيمة-: أن
كل نص جاء فيه نفي الإيمان فإنه يدل على وجوب عمل أو تحريمه، أي: أن من نفي عنه الإيمان قد ترك واجباً، أو فعل محرماً، ثم بعد ذلك ننظر في هذا الواجب: هل يقتضي نفيه الخروج من الدين أو لا يقتضي ذلك، وهذه مسألة أخرى، وإنما الغرض من النص هو إثبات أن هذا الفعل واجب إذا نفي الإيمان عمن لمن يفعله، أو أن هذا الفعل محرم إذا نفي الإيمان عمن فعله، وليست هذه القاعدة مطلقة، فلا يقول خارجي: إذا وجدنا حديثاً مثلاً فيه: (
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، أو: (
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه.. ) الحديث؛ فيقول: من لم يكن كذلك فقد كفر وخرج من الملة، فلا يحق للخارجي أن يستشهد بكفر الزاني أو ناقص المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه النصوص؛ لأنا نقول: إن هذا النص يدل على أن المحبة واجب وفريضة، ويدل على أن الزنا حرام وكبيرة وفاحشة، هذا هو المراد من النص، وأما كون فاعله يخرج من الملة أو لا يخرج فلا يدل عليه مجرد النفي، بل لا بد من قرائن أخرى كأن يكون في النص ما يدل على ذلك، كقول الله تبارك وتعالى: ((
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] فهذا القاعدة منطبقة في هذه الآية، وهي تدل على أن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض وواجب متعيَّن، ومن ترك تحكيمه صلى الله عليه وسلم يكون كافراً؛ لأن الآية رتبت الدرجات فجعلتها ثلاث مقامات: التحكيم، وهذا مقام الإسلام، ونفي الحرج، وهو مقام الإيمان، والتسليم، وهو مقام الإحسان، وما قبلها من السياق يدل على ذلك.فهذه الآية وهذا الموضع أصل في أصل الدين وأساسه، وتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصل الدين وأساسه، وأما زيادة واكتمال محبته في القلب فهذا من كماله؛ أي: من كماله الواجب، فهو لا يكمل ولا يحصل الكمال إلا بمحبته صلى الله عليه وسلم، ثم كلما كمل في ذلك فهو أكمل له حتى يستكمل الكمال الواجب والكمال المستحب. فالمحبة في ذاتها -أي: محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ليس فيها غلو، وإنما يكون الغلو في خروج المحبة عن معناها وعن مقتضاها، فـ
مهما أحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعد غالياً بمجرد المحبة، وأما أن يخرج العبد عن مقتضى هذه المحبة فيظن أنه صلى الله عليه وسلم إله، ويرفعه عن مرتبة البشرية التي جاءت صريحة في القرآن، أو يطريه كما أطرت
النصارى عيسى ابن مريم؛ وقد نهى عن ذلك صلى الله عليه وسلم، أو يتخذ قبره عيداً وقد نهي عن ذلك، وهذا من فعل
اليهود و
النصارى إلى غير ذلك؛ فهذا ليس من المحبة، وإنما هو خروج عن مقتضى المحبة الحقيقي، فهذه القاعدة هي الأصل.وبعد ذلك ننظر إلى حكم المخالف: فإما أن يكون قد ترك ركناً أو أصلاً من أصول الدين؛ فيكون كافراً، وإما أن يكون قد ترك واجباً؛ فيكون مرتكباً لكبيرة، وكذلك إذا فعل كبيرة فهو مرتكب لكبيرةٍ.