فهؤلاء رضي الله تعالى عنهم كانوا من شدة حذرهم من الطغيان والزلل، ومن شدة عنايتهم وتجنبهم للطغيان حقاً، أنهم كانوا شهداء لله تعالى في أرضه، عدولاً فيما ينقلون وما يقولون، وهكذا
أئمة الرجال وعلماء الحديث كانوا في غاية العدل، فيذكرون عبادتهم إن كان له عبادة، ويذكرون حفظه إن كان حافظاً متقناً، ومع ذلك يذكرون صدقه إن كان -مثلاً- صادقاً أو في صدقه شيء، ثم مع ذلك يقولون: كان فيه البدعة الفلانية، فلا يحيفون ولا يجيرون عليه، وإنما ينقلون الحقيقة كاملة، فيبينون ما له وما عليه، فيأتي الذي بعدهم وقد استطاع بهذا الميزان الدقيق أن يأخذ الرواية أو أن يردها؛ لأن الأمر أمامه واضح؛ ولذلك حتى لو كان الرجل ممن يكذب في الحديث لا يكتفون بأن يقولوا: إنه يكذب، وينتهي الأمر، بل إن كان له فضل في جانب آخر، كالزهد أو في أي عبادة، فإنهم يقولون: كان صاحب عبادة، ولكنه يضع الحديث، فهم أناس تجردوا عن أي نيل أو هوى أو تعصب، ولا يعني ذلك أن عبادته تنفعه مع كونه وضاع، لكن تنقل الحقيقة، ولا يعني ذلك أن صاحب البدعة ينفعه ثناء الناس عليه بالحفظ والعلم والإتقان عند الله تعالى، لكن ينقل أنه كان صاحب علم، أما إذا قيل: إنه لا خير فيه مطلقاً؛ لأنه صاحب بدعة أو ليس لديه علم، فلا، حتى لو كان شاعراً، فهذا
الخطيب البغدادي والحافظ
ابن حجر رحمهما الله تعالى يذكرون بعض الشعراء، كـ
أبي نواس و
أبي تمام و
الفرزدق وغيرهم، فيذكرون أن شعرهم في القمة، وكان في غاية الجودة، لكن يقولون: وكان قاذفاً -مثلاً- للمحصنات، أو كان فاسقاً، أو كان سكيراً، أو كان كذا، فما يظلمون أحداً شيئاً أبداً، فهؤلاء هم ميزان الأمة، إذ تستطيع أن تعرف حقيقة الأمة: مبتدعها وسنيها من كلامهم، بدون أي حيف ولا جور، فلا يأتون على إمام من أئمة
أهل السنة فيقولون: كان إماماً من أئمة
أهل السنة ، محارباً للبدع، وبالتالي فهو ثقة ثبت، وكل حديثه صحيح، لا؛ لأنه قد يكون من أئمة
أهل السنة ، من المدافعين عنها، من المحاربين للبدع، لكن عنده أخطاء أيضاً، كأن يكون ضعيف الحديث مع إمامته، فيقال: ضعيف في الحديث، وهكذا ميزان لا نظير له على الإطلاق، ولذلك نحن نحاكم رجال
الشيعة و
المعتزلة و
الخوارج و
أهل السنة إلى هذا الميزان، نحاكمهم إلى ميزان علماء الجرح والتعديل من أئمة
أهل السنة والجماعة ، لكن لو أننا تركنا هذا الميزان وجئنا إلى ميزان أهل البدع والعياذ بالله، فماذا نجد؟ الشيعي إذا كان رافضياً، وروى أحاديث في فضائل أهل البيت غريبة وشاذة، وفيها مبالغات وتهاويل، عظموه وقدسوه وبجلوه من أجل هذه الروايات!ولهذا قال بعض الأئمة: لو أنني أطعت
الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة. أي: يقولون له: ضع أحاديث في فضل
علي وإمامته، في فضل أهل البيت و
غدير خم ، في سب الشيخين، فإذا فعل ذلك ملئوا بيته ذهباً وفضة، لكن حاشا أن يكون أحد من أئمة السنة كذلك
[وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك] فلو قتل أحدهم قتلاً على أن يقول: إن هذا الكلمة موضوعة، لا يقبل أبداً، ولا يمكن أن يتسامح في كلمة توضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يقولها بنفسه ويزيدها من عنده وينسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
[وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم] وبالتالي هم الذين تحملوه وسمعوه فأدوه كما سمعوه، فنظر الله تبارك وتعالى وجوههم
[فهم تزك الإسلام]، واليزك -كما ذكر المعلق- هي كلمة فارسية، وأظنها والله أعلم منقولة من كتاب
حادي الأرواح ، وقد كانوا يرتبون الجيش منذ أيام
المعتصم ، وأصبح القيادة للفرس، أي: تمكنوا من أيام
المأمون ، ثم أيام
المعتصم تمكنوا جداً، وأصبح الجيش بكل أنظمته على الطريقة الفارسية، وأسماء القادة والمراتب والعطايا والهبات وغير ذلك مأخوذة من الطريقة الفارسية، ومنها هذه الكلمة، فاليزك هم الطلائع والقادة المدافعون عنه، أي: كأنك قلت: هم حماة الدين،
[وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الحديث، فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخَبَر -بفتح الباء- صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه].