إذاً: أولئك الذين حكموا الكشف أو العلم الباطل أو منهج التصوف وما أشبهه، قد كفونا مئونة أنفسهم بما وقع بينهم من الجهل والاضطراب والتخبط الكبير؛ لأنهم يرجعون معرفة الحق إلى أمر غير منضبط، فهذا أبو حامد الغزالي وهو ممن يمثل هذا الاتجاه، وهو من خيرتهم وأمثلهم، يقول في كتابه الإحياء: (معرفة ما يؤول وما لا يؤول من الصفات لا يمكن إلا عن طريق الكشف) لكن هذا الكشف من أين يأتي؟ إنه يأتي من عند الله تعالى، فإذاً أحال إلى أمر غير منضبط، فقد يقول أحدهم: وقع في قلبي أن أءول صفة اليد، والآخر يقول: كشف لي أو وقع في قلبي أني لا أءولها، وإنما أءول القدم مثلاً، فما الذي يجعلنا نعرف الحق من الباطل؟ أو إلى شيء نتحاكم؟ لقد أحال إلى أمر غير منضبط، والمقصود أن هذا المنهج كله وأهله هذا ديدنهم، لكن أهل الكلام أو علماء الكلام -وهم ليسوا بعلماء إلا كما نقول: علماء، ونعني به من علم شيئاً سواء كان حقاً أو باطلاً- يقولون: نحن نحاكم إلى قواعد يقينية وقواطع وبراهين عقلية، سواء كان ذلك في باب الصفات، أو في باب القدر، أو في باب الإيمان، أو في أي باب من أبواب العقيدة الأخرى، كما في كلام الرازي فيما نسميه: القانون الكلي للتعارض، ومن هنا لبسوا على كثير من الناس أنهم أصحاب العقول، ولو تأمل الواحد في دوائر المعارف كما تسمى أو ما أشبهها مما يتعرض له الفكر الإسلامي كما يسمى، أو الفكر الفلسفي في الإسلام إلى غير ذلك من التسميات، لوجد أنه يجزم أو يحكم بأن أهل الكلام وأهل الاعتزال -وأشهرهم المعتزلة كما قال عبد الله بن المبارك - يمثلون حرية العقل، وحرية التفكير، واستخدام العقل والمنطق والحجج والبراهين.
أما أهل الحديث فهم الذين يأخذون النصوص مجردة من غير فهم، قد يقال وقد لا يقال، المقصود كأنهم حرفيون، يأخذون مجرد العبارات دون فهمها ويقولون: آمنا وتمسكنا بها وانتهى الأمر، وهذا يؤدي إلى أن يعتقد أو يظن البعض أن الكتاب والسنة إنما هي مجرد أخبار أو نصوص، وليست قواعد ولا حججاً ولا بيانات ولا براهين تفيد اليقين، وهذا ما صرح به المتكلمون، وهذا ما يجب أن يبطل وأن يدحض؛ لأن هذا الدين -كما وضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بأطول وأجود البيان- أو هذا القرآن، أو هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تبارك وتعالى بالحجة والبيان والبرهان.
ولهذا يضرب الله تعالى الأمثال الحسية العقلية؛ ليبين أن هذا الدين حق، وأن كل قضية من قضايا العقيدة حق يضرب الله مثلاً حسياً على البعث، وهو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، الذي عجب العرب وأكثر الأمم اليوم في الأرض كيف أن الله يبعث الناس بعد موتهم ويحاسبهم ويجازيهم؟
إن هذه القضية مهمة، إذ إن كثيراً من الخلق يؤمن بأن الله حق موجود، لكن المشكلة أنه لا يؤمن بالآخرة، فيضرب الله تعالى مثلاً حسياً بالأرض أو بالزرع أو بالنبات، وذلك في مواضع كثيرة، وهو مثل حسي يشاهده أي إنسان، إذ إنه يرى الأرض هامدة أو خاشعة، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج، وأصبح فيها كذا وكذا مما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام وغيرها من الحب المتراكب والنخل الصنوان وغير الصنوان وأصناف أخرى، كل ذلك جعله الله تعالى آيات شاهدات يراها كل أحد من الناس، وكذلك المثل العقلي أو الدلالة العقلية التي لا يشك فيها عاقل، فعندما يتساءل المشركون: كيف يبعثنا الله سبحانه وتعالى؟ من يحيي العظام وهي رميم؟ فيأتي البيان والبرهان العقلي القاطع بقوله: (( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[يس:79]، فهذا برهان عقلي وليس مجرد خبر أن الله يحييها مثلاً، إذ لو كان كذلك للزم منه الدليل العقلي، لكن المقصود ليس مجرد الخبر، بل هو حجة عقلية ملزمة مفحمة، فإن الناس جميعاً يعلمون أن من صنع آلة معينة، ثم وجدت مفككة متحللة فإنه قادر على أن يعيد تركيبها؛ لأنه هو الذي صنعها أول مرة أو ركبها.
وكذلك دعوى النبوة، إذ إنها أعظم القضايا التي يترتب عليها ما بعدها، فإن من أقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لزمه أن يقر بما بعدها، فكيف جاءت النبوة أو إثبات النبوة؟ هل هي مجرد خبر أو دعوى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي كان: أنا نبي فقط؟ أم يعطيهم الله تبارك وتعالى من الآيات والبينات والبراهين والمناظرة ما يفحمون به خصومهم، وتقوم عليهم الحجة به؟
إن الله سبحانه وتعالى جعلهم حجة على عباده، وأعطاهم الآيات والبراهين كما أعطى موسى عليه السلام تسع آيات، وأعطاه تلك الحجة العقلية في مناظرته مع فرعون، وإلزامه إياه في كل قضية كما في سورة الشعراء مثلاً.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه من المعجزات أو الآيات الحسية وحدها ما يزيد أو يقارب ألف آية، وأما ما عداها وهو أعظم منها فأعطاه الله عز وجل ما لا يدخل تحت الحصر، ولو تأملته العقول إلى قيام الساعة لعجبت منه، ولما انتهى عجبها من هذه الآيات البينات، وأعظمها هو القرآن والذكر الحكيم، وما نشأ وما يتفرع عنه من أخبار وأحكام وقصص وأمور لو اجتمع أهل الكتاب كلهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بشيء منها، فهذه أعظم أدلة على أنه صلى الله عليه وسلم صادق، وهي أدلة واضحة على ذلك.
فـ المؤرخ إذا أراد أن يعرف صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يستطيع من خلال علمه بالتاريخ والمشرع كما يسمونه -كما كان يشرع الرومان وغيرهم- يستطيع أن يستدل على أن هذا الشرع من عند الله من خلال معرفته بالتشريع وضوابطه وقواعده إذا اطلع على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حتى اللغوي أو الشاعر المتعمق في اللغة يستطيع أن يجزم بأن هذا الكلام ليس كلام بشر ولا شاعر، وهكذا كل إنسان.
ويكفي أن نعلم -مثلاً- أن الله قص علينا خبر أمتين من أعظم الأمم، وهما عاد وثمود، وهما من أكثر الأمم وروداً وذكراً في القرآن، وما جاء في غير القرآن أيضاً، فهذا الحديث لا نجده في كل كتب أهل الكتاب، فإذا راجع أحد كتب أهل الكتاب كلها؛ فإنه لا يجد فيها ذكراً لعاد وثمود، وهما كانتا قبل إبراهيم عليه السلام، كما نجد ذلك ظاهراً في سياق القرآن كما في سورة هود أو يونس أو غيرها لمن تأمل السياق.
فالشاهد أن هاتين الأمتين العظيمتين بعد نوح وقبل إبراهيم عليهما السلام ما كان الناس يعرفونهما، مع أن أكبر أمة الآن تشغل بال الباحثين في التاريخ والآثار هي عاد، فأين عاد؟ وما هي حضارتها؟ وما هي ديانتها؟
كل المؤرخين ممن لم يقرءوا ولم يعرفوا شيئاً عن الدين فإنهم يهمهم أمر هذه الأمة، ويريدون أن يصلوا إلى الحق فيها، وهم لم يجدوا لها ذكراً وفي توراتهم وأناجيلهم، ومع ذلك فهي مذكورة في القرآن.
وهكذا فالأمثلة كثيرة جداً على أن هذا الدين حق، والشواهد الدالة على صدقه في الأنفس والآفاق أكثر وأعظم من أن تحصر.