المادة    
نتكلم هنا عن معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط في ذاته وحقيقته، وحكمه عند أهل السنة والجماعة، وعن ضلال المعتزلة وغيرهم فيه.
وقد رأيت أن يكون الكلام من الفصل الذي كتبه شيخ الإسلام رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن كتاب الحسبة، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى (28):
  1. حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن" وذلك في قول الله تعالى: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))[آل عمران:104]، "ولما كان الجهاد من تمام ذلك، كان الجهاد أيضاً كذلك".
    والمنكر الأكبر في الوجود هو الشرك، والمعروف الأكبر هو التوحيد، فإذا لم يدخل أهل الشرك في دين الله تبارك وتعالى ويدعوا ما هم عليه من الشرك إلا بالقتال والجهاد، كان الجهاد -الذي يمكن به إزالة هذا المنكر الأكبر وتحقيق ذلك المعروف الأكبر- من تمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ديننا كله معروف أو أمر بمعروف، ولذلك كان {ذروة سنامه الجهاد} والغاية منه قلع الفتنة من جذورها، قال تعالى: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ))[الأنفال:39]، فيكون دين العبد كله لله، لا للشيطان ولا للشهوات ولا للكبراء ولا للزعماء، ولا لكل من صد عن سبيل الله من الطواغيت.
    يقول رحمه الله: "فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه، أثم كل قادر بحسب قدرته"، والمقصود بذلك: هو أن إزالة عين المنكر واجبة على الكفاية، فمتى أزيلت عين المنكر، سقطت الفرضية، وسقط الوجوب عن الباقين، أما الإنكار في ذاته فهو على درجات، الدنيا منها هي الإنكار بالقلب، ولا تسقط عن المؤمن أبداً، وهذا ما سيوضحه رحمه الله.
  2. درجات إنكار المنكر

    يقول: "إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
    فلا بد للإنسان من أن ينكر المنكر، لكن إنكار المنكر غير إزالته، فالمسلم إذا رأى المنكر لا بد أن ينكره بقلبه، ولا بد أن يحرص على إنكاره باليد، فإذا أنكره غيرك وأزاله باليد، سقط عنك الإثم وأجرت على مبادرتك ومعاونتك لمن أنكره، فإن لم يكن باستطاعتك أن تغير باليد، فلا بد من الإنكار باللسان، فإن لم يمكن ذلك فلا يسقط عن أحد الإنكار بالقلب.
    ولو أن المسلمين ينكرون المنكر بقلوبهم، لما تفشت المنكرات وانتشرت في المجتمع، فالإنكار بالقلب هو الحد الأدنى، ومع ذلك فإنه مفقود عند عامة المسلمين إلا من رحم الله، ولهذا تنتشر المنكرات، بل يصير الذين لم ينكروا المنكر -ولو بقلوبهم- من فاعلي المنكر، وهذا دليل على أنهم لم ينكرو بقلوبهم، ولو أنكرو المنكر لما اقترفوه.
    يقول: "وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر".
    هذه قاعدة عظيمة؛ فلو أردت أن تأمر بالمعروف وأتيت بمنكر، فأنت ممن يجب أن ينكر عليه، ولست ممن يأمرون بالمعروف في الحقيقة.
    يقول: "وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح"، أي: إنما بعثت الرسل وأنزلت الكتب للقضاء على الفساد، وللدعوة إلى الصلاح والإصلاح، فإذا دعا الإنسان وأفسد، فإن ذلك ليس أمراً بالمعروف ولا نهياً عن المنكر، بل هو بذلك قد خالف الغاية التي يدعو إليها الدعاة، وعلى رأسهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، "وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع؛ فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به"، فإن الله لا يأمر بالفساد، "وإن كان قد تُرِكَ واجب وفُعِلَ محرم"، فمن كان يترتب على إنكاره مفسدة أعظم من المفسدة الحاصلة، فعليه أن يمتنع حينئذٍ عن الإنكار.
    يقول: "إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم"، قال تعالى: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56].
    يقول: "وهذا معنى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))[المائدة:105]، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات؛ لم يضره ضلال الضَّلاَّل" يعني: إذا دعوت إلى الله وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم ترتكب مفسدة أعظم، لم يضرك ضلال الضالين، وإن كان الضال قريباً لك؛ كما كان أبو إبراهيم عليه السلام، وكزوجة لوط وزوجة نوح، وابن نوح، وعم النبي صلى الله عليه وسلم.
    فإنك إذا قمت بالواجب على الوجه الشرعي الصحيح، فلا يضرك ضلال من ضل، أما إذا لم تقم بالواجب، فإنك آثم ومؤاخذ على عدم قيامك بهذا الواجب العظيم.
    يقول: "وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال، إذ لا ضرر في فعله" من رحمة الله وحكمته أن جعل ما في القلوب محفوظاً، والسرائر مكنونة، فإذا اعتقدت في قلبك بغض هذا المنكر وأهله، فإن الله سبحانه وتعالى قد حفظ ذلك، فلا يطَّلعون عليك، ولا تتضرر من ذلك، ولهذا لا يسقط عنك الإنكار بالقلب، بل يجب عليك، فإن أكره الإنسان على منكر فيكون حاله كما ذكر الله تبارك وتعالى: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ))[النحل:106]، المهم ألا يشرح بالكفر -ولا بالمنكر- صدراً؛ فالمقصود هو سلامة القلب من الإقرار بهذا المنكر.
    يقول: "ومن لم يفعله -من لم ينكر بقلبه- فليس بمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وذلك أدنى -أو أضعف- الإيمان} وقال: {ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}، وقيل لـابن مسعود : {من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً}.
    وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان" .
    يقصد رحمه الله حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في عرض الفتن: {تعرض الفتن على القلوب كما يعرض الحصير عوداً عوداً...} إلى أن ذكر صلى الله عليه وسلم حال القلب المفتون المذموم فقال: {لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه} فالذي لا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر موصوف بأنه ليس بمؤمن، وأنه قد ترك أدنى الإيمان، وأضعفه، وليس عنده مثقال خردلة من إيمان، وأنه ميت؛ لأنه لا ينكر المنكر، وهو أيضاً مفتون... إلى آخر ما ورد في ذمه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام صحابته.
    لكن: هل الذي رأى منكراً ولم يغيره بقلبه يعتبر غير مؤمن؛ بمعنى أنه خارج عن الملة؟
    الجواب: لا. وإنما ليس مؤمناً بهذا الأمر، فالذي يعلم أن الله حرم هذا الأمر، فعليه أن يعتقد حرمته، فإن لم يغيره بقلبه فليس بمؤمن بأن الله حرمه، ولا يعني ذلك أنه ليس مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ بل ليس مؤمناً بأن هذا الأمر حرام، ولو سألته: هل هذا الشيء حرام؟ لأجابك: نعم. حرام، فتقول له: لم لا تنكر مادمت معتقداً حرمته؟ فهذا يظهر لك أنه كاذب في قوله، فكلامه دعوى مجردة، أما لو كان مؤمناً في الحقيقة أن الله حرمه لأنكره، هذا هو الفهم الصحيح لمعنى الحديث.