المادة    
هذه القضية سهلة وواضحة في مذهب أهل السنة والجماعة ؛ فإن الناس يتفاوتون في الإيمان، وتبعاً لذلك يتفاوتون في أخذ أسمائه وأحكامه وحقوقه.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لهم علينا من حق التقدير والإجلال والترضي عنهم والتعظيم لهم وتوقيرهم ما ليس للتابعين، لأنهم أعظم وأكمل إيماناً، فحقهم علينا أكبر، والتابعون حقهم علينا أعظم ممن بعدهم، والأئمة الهداة المتبوعون لهم أيضاً فضل، والعلماء المقتدى بهم لهم فضل وحق عظيم.
والذي على تقوى وإخلاص وعبادة وجهاد ودعوة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر له من الحق والحب والموالاة أعظم مما لذلك الذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، ولكنه على حال دون ذلك، وأقل منه الذي يأتي بعض المحرمات، والذي يأتي بكبيرتين أكبر جرماً من الذي يأتي بكبيرة واحدة، وهو أخف جرماً ممن يأتي بثلاث كبائر.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بكل وضوح، والفطرة تشهد له، حتى عند من لم يتفقه في الدين؛ ولهذا كان أهل السنة والجماعة ينطلقون في هذه المسألة من قضية واضحة جداً؛ فهناك الإيمان المطلق، وهناك مطلق الإيمان، فلا نثبت لمرتكب الكبيرة الإيمان المطلق الذي لا قيد فيه، بل نثبت له مطلق الإيمان، وذلك يصدق على أي قدر من الإيمان، فهو مطلق الإيمان، أما الإيمان المطلق فمعناه: الإيمان التام الكامل الذي لا قيد فيه.
فإذا نفينا عنه الإيمان فإننا نستخدم معه سلب العموم لا عموم السلب، فلا نقول: كل مرتكب كبيرة ليس مؤمناً، فهذا غير صحيح، بل نقول: ليس كل مرتكب لكبيرة مؤمناً؛ لأنه يوجد من يرتكب الكبيرة وهو كافر، ويوجد من يرتكبها وهو مؤمن، فيكون كافراً إذا شرب الخمر مستحلاً لها جاحداً لتحريمها، أو ترك الفريضة مستحلاً للترك جاحداً للوجوب.
والمقصود أن مرتكب الكبيرة إيمانه يزيد وينقص، فمرتكب الكبيرة ليس هو المؤمن الذي يأخذ صفات الإيمان الكامل، الممدوح في مثل قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))[الأنفال:2] لكن أيضاً ليس مرتكب الكبيرة هو ذلك الذي ينطبق عليه قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ))[آل عمران:21] أو قوله تعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))[المائدة:5] وإنما هو في حالٍ بينهما، وهي نقص الإيمان بحسب المعصية.
فأصل فكرة المعتزلة يمكن أن نعتبرها صحيحة، وهي أنه لا يمكن أن نعتبره مؤمناً، ولا يمكن أن نعتبره كافراً، لكن الخطأ جاء من تصورهم أن الإيمان شيء واحد، إما أن يذهب كله أو يبقى كله، فاحتاروا في مرتكب الكبيرة، فقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، ولو قالوا: الإيمان يتجزأ ويتبعض ويتركب، لما كان هناك أيُّ إشكال، والله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز قد ذكر بدلالة صريحة ما يبطل كلام المعتزلة، ويوضح منهج أهل السنة والجماعة، وذلك قوله تعالى في سورة الحجرات: ((قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] والذي يفهم من هذه الآية أن هناك فرقاً بين الإيمان والإسلام، فيكون الإيمان شيئاً زائداً على الإسلام، فمرتكب الكبيرة الذي لم يستحل ولم يجحد يبقى مسلماً، وإن لم يكن مؤمناً كامل الإيمان.
ومدح المرء بالإيمان درجة لا ينالها إلا من ترك الكبائر وفعل الواجبات، ومن أخل بشيء من ذلك لا يستحق هذا المدح.
ثم المؤمنون أنفسهم متفاوتون في الدرجات، بل المحسنون متفاوتون، فأفضل المحسنين هم الرُسُل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في الإيمان، ومتفاوتون في الدرجة، فأولو العزم أفضل من غيرهم وأكمل إيماناً بلا ريب، وأكمل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[البقرة:253].
والصديقون درجات، فهم متفاوتون أيضاً، فـأبو بكر رضي الله عنه صدِّيق، وفي الأمة أيضاً صديقون، ولكنهم أقل درجة من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم بعد ذلك يأتي الشهداء كما في آية: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا))[النساء:69] والشهداء متفاوتون، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه؛ فقتله} والشهيد الذي قتل في سبيل الله عز وجل -وهو يجاهد الكفار- أفضل ممن يأخذ الشهادة حكماً، كالمطعون والمبطون إلى آخر من يثبت له حكم الشهادة ممن صرح النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وجمعهم بعض العلماء فزادوا على العشرين؛ كلهم ممن يستحق أن يوصف بالشهادة وينال أجر شهيد، لكنهم ليسوا مثل الشهيد في سبيل الله.
كذلك الفجار والمجرمون هم أيضاً متفاوتون.
والكفر كذلك يتفاوت، فكفر فرعون أشد وأعظم وأعلى أنواع الكفر، ثم من دونه ثم من دونه، وهكذا.
ومن يرتكب مع الخمر زناً يكون أشد جرماً ممن يشرب الخمر ولا يزني، فإذا ارتكب ثلاث كبائر؛ زنى وشرب الخمر وأكل الربا، فهو أشد ممن ارتكب كبيرتين.
فهذه -والحمد لله- مسائل واضحة، يعرفها الإنسان من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها نعلم الردَّ على المعتزلة في هذه الدعوى، حينما يسلبون عن الإنسان اسم الكفر ويسلبون عنه اسم الإيمان، ويقولون: هو في منزلة بين المنزلتين.
وهذا حكم مرتكب الكبيرة عند المعتزلة في الدنيا، أما في الآخرة فهم متفقون مع الخوارج في الحكم، بمعنى أنهم مختلفون مع الخوارج في الاسم لا في المسمى، وهذا مما نعلم به ضلال المعتزلة في قولهم: هو في منزلة بين المنزلتين.
فإذا كان المعتزلة يعتقدون أن مرتكب الكبيرة إذا مات غير تائب فهو خالد مخلد في النار، فما الفرق بين قول المعتزلة: لا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً، بل في منزلة بين المنزلتين، وبين قول الخوارج ؟! فليست إذاً إلا نظرية وهمية، ونتيجتها هي نتيجة ما قاله الخوارج.
  1. الرد على المعتزلة بما ردوا به على الخوارج في مسألة الإيمان

    يقال للمعتزلة : إن الدليل الذي رددتم به على الخوارج دليل عليكم، وهو تفريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحدود.
    فإن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل بعض الناس كفراً؛ لأنهم كفار مشركون، أما من رجم أو جلد أو قطعت يده من أصحاب الكبائر، فهؤلاء لهم حكم الإسلام، هذا التفريق استدللتم به أنتم معشر المعتزلة على الخوارج بأن مرتكب الكبيرة لا يكفر، ونحن أيضاً نستدل به عليكم بأنه لا يخلد في النار.
    أفي الدنيا تتفاوت الأحكام، ويكون العدل الرباني، والعدل النبوي، وفي الآخرة يظلمون بالتخليد في النار؟! حتى لو قال المعتزلة: يخلد في نار أخف من نار الكفار الأصليين؛ فمجرد التخليد لا يليق، وإن زعمتم أن هذه أسماء شرعية، وهذه أحكام شرعية، فلنرجع إلى الشرع.
    ومما يرد على المعتزلة وعلى جميع فروع الشيعة؛ الزيدية وأشباههم ممن يخلطون في هذه المسألة: ثبوت الشفاعة؛ فهي رد جليٌّ صريح على المعتزلة والخوارج ومن اتبع مذهبهم، ولو آمنوا بالشفاعة، لرجعوا عن كثير من ضلالاتهم؛ لكنهم تمادوا في ضلالات مركبة تسلسلت وأفضى بعضها إلى بعض، وانتهى بهم الأمر إلى حالة غريبة جداً، وهي أن المعتزلة -على هذه الشدة في حكم مرتكب الكبيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- كانوا من أفسق الناس، وكثير من أئمتهم كانوا لا يصحون من شرب الخمر، ولا يتورعون عن سماع الطرب والملاهي، وأكل الحرام، والكذب والبهتان، وقول الزور... إلخ.
    فالعقيدة الفاسدة -وإن كانت في صورة متشددة في الدين- لابد أن تورث صاحبها تقصيراً، فما أراد أحد أن يزيد في هذا الدين إلا وينقص منه، وما ابتدع قوم بدعة إلا وتركوا من السنة مثلها، وهذه هي العبرة التي نأخذها حين ندرس هذه الطوائف بضلالاتها وبدعها، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعافينا وإياكم من ذلك.