قال: (الدليل السابع: أن الله تبارك وتعالى قال: ((
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ))[المائدة:67]، وقال: ((
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ))[النور:54]، وقال صلى الله عليه وسلم: (
بلغوا عني ولو آية ) )، وفي يوم
عرفه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت )، ومعلوم أن البلاغ واجب على النبي صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآيات وغيرها، وأن الإبلاغ عنه، ونقل هذا البلاغ إلى الأمة من الصحابة أيضاً أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ: (ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلَّغ، ويحصل به العلم، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه) ومن أوضح الأدلة على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أبلغ أمماً عظيمة من أمم الدنيا يومئذ أبلغها الدين بخبر واحد، وليس أيضاً خبراً، وإنما هو عن طريق الكتابة، والرواية عن طريق الكتابة يسميها علماء المصطلح: الوجادة، والوجادة من أضعف أنواع الرواية، والنبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أعظم ملوك الأرض حينئذ وهو
هرقل عظيم الروم، وهذا الكتاب لم يدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
هرقل مباشرةً، وإنما دفعه إلى عامله بـ
بصرى ، ثم هو دفعه إليه، وكان مقره في
حمص ، فأعطاه الكتاب، فقامت عليه الحجة بذلك، ولا يستطيع أحد أن يقول لم تقم عليه الحجة بذلك، مع أن الذي حمله واحد، ولو أنه وصل إليه خبر من رسول الله من غير كتاب وفيه: إن الله ابتعثني رسولاً بكذا وكذا؛ لقامت عليه الحجة أيضاً بذلك.وهكذا عقلاء الدنيا، فـ
هرقل لم يقل: هذا جاء به أحد الناس ولم يأت بطريق التواتر، ثم يرميه ولا تقم عليه حجه عند الله، لم يفعل ذلك، بل اهتم به، وجمع كل البطارقة والقساوسه -وهم رجال الدين- وأغلق الأبواب، وكاد -كما في القصه أن يسلم، فحاصوا إلى الأبواب، وارتج عليهم الأمر، وخافوا أن يتبع دين محمد صلى الله عليه وسلم، فرأى أن ملكه سيضيع، فأعادهم إليه وقال إنما أردت أن اختبر دينكم، ثم كتب إلى عامله بـ
فلسطين : أن ائتني بأحد من العرب، والقصة في
صحيح البخاري وغيره، فتأكد زيادةً على ذلك.فالشاهد أنه عمل هذه الأعمال، وجمع هؤلاء القوم، وأرسل وأتي بـ
أبي سفيان ، فكيف يقول هؤلاء وهم يدعون الإسلام: إن خبر الواحد لا يفيد العلم، وهؤلاء الكفار قد علموا بذلك، وأفادهم ذلك هذا العلم عنه صلى الله عليه وسلم. وكتب إلى كسرى، وكذلك كتب إلى
المقوقس عظيم القبط وغيرهم؛ ليبلغهم دين ودعوة الله، فكتب إليهم رسالةً واحدة، وبعث إليه آحاداً: إما واحداً، وإما اثنين، وحملوا الجواب إليه. وكذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد
نجران ، وقد كانوا أمة وجمعاً كبيراً من أهل
اليمن ، وكانوا على دين
النصرانية ، فلما وافقوه على الجزية طلبوا منه أن يرسل معهم رجلاً أميناً، فأرسل معهم أمين هذه الأمة وهو:
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى، فأسلم عامتهم بعد ذلك، فالذي علمهم الدين هو
أبو عبيدة ، وهو فرد واحد، ولا يعقل أنه علمهم الفروع وترك الأصول، فهذا مستحيل، فأول وأعظم ما يجب أن يعلمهم إياه هو أن يتركوا ما هم عليه من التثليث والشرك؛ فهم نصارى ، وأن يدينوا بدين التوحيد، فعلمهم الأصول، إذاً: فالواحد تقوم به الحجة، وخبره يفيد العلم في الأصول وفي الفروع. وكذلك بعث إلى
اليمن وهي أعظم أطراف بلاد العرب عدداً من حيث السكان؛ فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم
معاذ بن جبل و
أبا موسى الأشعري ،ثم بعد ذلك ذهب
علي ، وحتى لو ذهب رابع وخامس فلا يزال العدد آحاداً، ولم يعلموهم الفروع فقط، بل إن أول ما اهتموا به هي الأصول كالتوحيد.ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ
معاذ : (
إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله )، أو إلى توحيد الله، أو عبادة الله؛ على روايات كلها صحيحة، ومعناها واحد: أن أول شيء يدعون إليه هو التوحيد.إذاً: فكيف يقول هؤلاء: إن خبر الواحد لا يفيد العلم، وإن أفاد العلم ففي الفروع، والعمليات، والأحكام، لا في العمليات والأصول كما يسمونه.