قال: (وأما ما يرجع إلى المخبر به فإنه الحق المحض) والمخبر به هو الوحي أو الدين أو الشرع (وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي، فهو أصدق الصدق، وأحق الحق بعد كلام الله، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو البصيرة السليمة) ولهذا تقدم كلام
معاذ رضي الله تعالى عنه في وصيته: [
اقبلوا الحق فإن على الحق نوراً ]. حتى لو جاء من منافق أو بلغه كذاب، فهو صدق في بلاغه هذا، فالحق عليه نور، وهذا أمر جعله الله لأهل الفطر السليمة، ولهذا فإن الكذوب أو الكاذب قد تحتف به قرائن تجعل كلامه محتملاً، أو أقرب أن يكون صدقاً، كما أن الصادق أو المتقن الضابط الحافظ قد تحتف به قرائن تجعلنا نقول: إن كلامه بخلاف الواقع، أي: ليس كل من يكذب يكذب في كل ما يقول، أو ليس كل كذاب أو متهم بالكذب يكذب في كل ما يقول، ولا نقول: إن المنافق لا يقول إلا باطلاً محضاً؛ لأنه قد يقول الحق، فإذا كان المنافق أو الكذاب قد يقول الحق، فإن هناك إمارات وعلامات تدل على أنه قال الحق في غير الدين والبلاغ، والمقصود أنه في خبر ما يخبر به إذا كان الأمر كذلك، فكيف إذا كان المخبر هو الأمين الصادق العدل الثقة ابتداءً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بالعدول الثقات من هذه الأمة؟!يقول: (فبين المخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين المخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار، والضوء والظلام، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره) وهذا حق، فهو متميز عن غيره من الكلام، أي أنه يقول: الكلام حتى لو كان صدقاً، حتى لو كان حقاً، فإن كلام النبوة متميز عن كلام غيره من الحق، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلاماً، وقال بعض الصحابة أو التابعين كلاماً، وقال بعض العلماء كلاماً؛ فإن هذا حق وذاك حق، وهذا صدق وذاك صدق، لكن كلام النبوة متميز عن الحق الذي يقوله غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشتبه به عند الخبير الناقد، فكيف بالفرق بين كلام النبوة، وكلام الدجل والكذب؟ أي: إذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم يتميز عن كلام الصحابة والتابعين وغيرهم، أو أي كلام من الحق، فكيف لا يتميز عن كلام الكذابين أو الدجالين؟ قد ذكرنا سابقاً عن الشعراء أو الكهنة أو غيرهم ممن قيل: إن هذا الوحي من كلامهم كما ادعى المشركون، فأبطل الله تبارك وتعالى ذلك -كما ذكرنا- بالفارق الواضح الجلي بين ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يلقي إليه الملك، وما يقوله الشاعر أو الكاهن ويلقي إليه الشيطان.يقول: ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسنته، أي: أن الذي يعرف هم الفرق العلماء بسنته صلى الله عليه وسلم، الذين لهم عناية ودراية واهتمام بكلامه، إذ إنهم يستطيعون أن يميزوا كلامه من كلام غيره، وهذا أمر معلوم، فلو أنك أكثرت من القراءة لعالم معين، ثم وجدت قطعة من كتاب أو ورقة لاستطعت أن تعرف أن هذه من كلام فلان من العلماء، مثل: شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله، وكذلك من أكثر -مثلاً- من القراءة للحافظ
ابن حجر ، ووجد ورقة من
فتح الباري ليس لها عنوان؛ فإنه يقول: هذه من
فتح الباري مثلاً؛ لأنه عرف أحواله، وعرف أسلوبه وطريقته في العرض مثلاً، وهكذا فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يميزه ويستطيع أن يعرف أن هذا الكلام خرج من مشكاة النبوة، ولا يمكن أن يتقوله أحد، أو إن كان أحد وضعه وافتراه عليه، هذا من كان عالماً وخبيراً به، أما المتكلمون وأمثالهم فإنهم لا يدركون ذلك كما سيبين الشيخ رحمه الله، يقول: (فإذا قالوا) أي: أهل العلم بأحاديثه صلى الله عليه وسلم (أخباره وأحاديثه الصحيحة). هو يتكلم عند ضدهم، لكن الصحابة والتابعون لو قالوا: أخباره تفيد العلم، فهم يخبرون عن أنفسهم أنهم استفادوا منها علماً، أما الآخرون فيقول: (ومن سواهم) أي: ومن سوى هؤلاء (في عمى عن ذلك، فإذا قالوا) أي: من عدا هؤلاء (أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم، فهم أيضاً مخبرون عن أنفسهم أنهم ما استفادوا علماً) لأن الحجاب الغليظ الذي بين قلوبهم وبين نوره من الشهوات والشبهات والجهل والبدعة -والعياذ بالله- والزيغ الذي في قلوبهم، يجعلهم لا يميزون هذا عن هذا، فيقولون: نعم هذا الحديث رواه
البخاري ، لكن لا يفيد العلم، ما استفادوا علماً؛ لما في قلوبهم من المرض، وليس بأنه لا يفيد العلم في ذاته، فهم يقولون: صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم، كاذبون في إخبارهم: أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة، فنقول: ما أخبرتم به عن أنفسكم فنصدقكم فيه؛ لوجود مانع ذاتي فيكم، وأما أن تقولوا: إن ذلك لا يفيد العلم لـ
أهل السنة فلا، فـ
أهل السنة والحمد لله يفيدهم كلامه صلى الله عليه وسلم إذا صح وثبت لديهم العلم اليقيني، وهذا ما يرجع إلى المخبر به.