ما يتعلق بالمخبر عنه
وأما المخبر عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (فإن الله تبارك وتعالى تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده، فلا بد أن يحفظ الله سبحانه وتعالى حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته). وهذا أمر يرجع إلى حكمة الله وحفظه تبارك وتعالى، فمحال في حكمة الله أن نتخيل أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الكذب على غيره؛ لأن الله تبارك وتعالى تكفل بأن ينصر هذا الدين، وأن يظهره على الدين كله، وأن يبلغ حججه وبيناته إلى الخلق أجمعين، فكل ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه عن الله من الوحيين: الكتاب والحكمة، لا بد أن يحفظ، وأن يضبط، وأن يهيء الله تبارك وتعالى، ويسخر له من يحفظه، ثم يبلغه كما وعاه حتى يؤديه إلى منتهاه، ولولا ذلك ما قامت لله تعالى حجة على العباد، ولما كان هذا الدين ظاهراً على الدين كله، فلو اختلط فيه الحق بالباطل، والضعاف والموضوعات والأكاذيب بالصدق لما كانت حجة الله تبارك وتعالى قائمة على خلقه ممن يبلغه، يقول: (ولهذا فضح الله تبارك وتعالى من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس) وهذا أمر من الله فوق طاقة البشر (قال سفيان بن عيينة : [ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث]). أي: لا يمكن أن أحداً يكذب في الحديث ويستره الله، بل لا بد أن يفضحه الله، وأن يخزيه في الدنيا، وأن يعلم الناس أنه كذاب، وأن تتجنب روايته، وهذا حفظ من الله للدين، إذ سخر له هؤلاء الرجال. يقول رحمه الله: (وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: [ لو هم رجل أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب ]) أي: لو هم رجل في الليل أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويقول: أضع غداً حديثاً أقول فيه: فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، لأصبح الناس يقولون: فلان كذاب؛ لأن الله تعالى تكفل بأن يفضح كل من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبين حاله، وهذه قصة وضاع مشهور مع هارون الرشيد عندما أمر بقتله فقال: قد وضعت أربعة آلاف حديث، فسخر منه هارون الرشيد رحمه الله وقال: مهما وضعت فإن عندنا عبد الله بن المبارك و سفيان بن عيينة وفلان وفلان يخرجونها وينقونها حديثاً حديثاً، ويبينون هذا الوضع والكذب والزيف الذي أدخلته، فلا يختلط أبداً بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياته بما جعلهم به نكالاً وعبرةً، حفظاً لوحيه ودينه، وقد روى أبو القاسم البغوي قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال: حدثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن بريدة عن أبيه قال: جاء رجل في جانب المدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا، وهذه القصة أحد الأسباب التي ورد فيها حديث: ( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، فبعض العلماء يروون القصة مع الحديث، والبعض يروي الحديث فقط، وهذا حال الأكثرين، فلا يذكرون القصة كحال كثير من الأحاديث التي يكون لورودها سبب معين، لكن لا يروي كل أحد سبب ورود الحديث إلا من ألف واختص بالتأليف في أسباب ورود الحديث كما ألف في أسباب نزول القرآن. فهذا الرجل جاء إلى جانب من جوانب المدينة فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاني عليكم، وأمرني أن أحكم فيكم بما أشاء. فأخذ يحكم في أموالهم، قال الراوي: وكان هذا الرجل قد خطب امرأة منهم في الجاهلية قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم، فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل إلى أهل المرأة، وكان غرضه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظفر بتلك المرأة، فنزل عليهم وأخبرهم، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمني في أموالكم وفي كذا وكذا، وأنه قد أمركم أن تزوجوني فلانة! ولذا صدق الله إذ يقول: (( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ))[التوبة:97]، فهم يكذبون عليه حتى في حياته صلى الله عليه وسلم، فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كذب عدو الله، وبعث رجلاً وقال له: إن وجدته حياً فاقتله )، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله لن يمهله فقال: ( وإن وجدته ميتاً فحرقه بالنار، فانطلق فوجده قد لدغته حية حتى مات -سلط الله تبارك وتعالى عليه حية، وصدق الله: (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))[المدثر:31]-، فحرقه بالنار كما أمره صلى الله عليه وسلم )، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وهو الحديث الذي يعد من جملة الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الأوازعي عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من تقول عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار )، وذلك أنه في رواية أخرى: ( أنه بعث رجلاً فكذب عليه، فوجده ميتاً قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض )، ففي هذا دليل عظيم على ذلك، وأن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره، وأن الله تبارك وتعالى حفظه، وحفظ دينه وبلاغه وبيانه من أن يدس عليه مفترٍ، أو يتقول فيه متقول، ولذلك عندما يقول المتكلمون أو الفلاسفة وغيرهم: إن أخبار الآحاد تحتمل، ويمكن لأي واحد أن يخبر، أو يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً، نقول: لا؛ لأنكم بهذا جعلتم الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الكلام على أي حاكم أو ملك أو شيخ أو مفتي، وهذا غير صحيح؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم كله حق، إذ إنه لا ينطق عن الهوى، وكل ما يبلغه أو يبلغ عنه فلا بد أن يكون شرعاً، وأن يكون ديناً، فإذا جوزنا تطرق الكذب إليه جوزنا تطرق الكذب إلى الشرع، وإلى الدين الذي أنزله الله، وتكفل بحفظه وبإظهاره على الدين كله، وجعله حجة قائمة على خلقه، فيكون هذا طعناً في حكمة الله، وفي اصطفاء الله، وفي اختيار الله تبارك وتعالى، وفي وعد الله الذي وعده، فالقياس إذاً مع الفارق الكبير، يقول: (فالله لم يقر من كذب عليه في حياته، وفضحه وكشف ستره للناس بعد مماته).