وهناك كلام نفيس جداً لـشيخ الإسلام رحمه الله ينقله الشيخ بعد هذا الكلام، يقول: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد قسم الأخبار إلى: تواتر وآحاد، فقال بعد ذكر التواتر: وأما القسم الثاني من الأخبار) يعني الآحاد فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل، ونحوه ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له. كخبر عمر رضي الله تعالى عنه: ( إنما الأعمال بالنيات... ) وبقية الأخبار التي ذكرنا.
يقول: (فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، سواء الجماهير من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع)، ولم يقل أحد من الصحابة والتابعين من السلف: إن خبر الآحاد لا يؤخذ -والحمد لله- فهو إجماع على ذلك، (وأما الخلف، فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل: السرخسي و أبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ و أبي حامد الإسفراييني ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، والقاضي أبي يعلى و ابن أبي موسى و ابن الخطاب وغيرهم من الحنبلية، وأبي إسحاق السراييني و ابن فورك و أبي إسحاق النظام من المتكلمين) حتى من المتكلمين من هو على مذهب الجمهور وعلى مذهب السلف، وإنما نازع في ذلك طائفة كـابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي و الغزالي ،وهؤلاء أشاعرة .
إذاً فالذي خالف في ذلك المتكلمون الأشاعرة ، و ابن عقيل ، ثم تعرض لكلام أبي عمرو بن الصلاح الإمام الحافظ في مقدمته : علوم الحديث، وأنه رحمه الله تعالى ذكر القائلين بهذا القول، لكن لم يستوفهم ولم يبينهم، فيظن الظان الرآي لكلامه أنه لم يقله إلا هؤلاء، وبين ابن القيم رحمه الله السبب في ذلك، وهو أن الذين يبحثون في هذه المسألة ينقبون في كتب المتأخرين ولا يتقدمون، فإنه يكون غاية ما يرجعون إليه كلام ابن الحاجب ، فإن ارتفعوا في السند أخذوا كلام الآمدي صاحب الأحكام و أبكار الأفهام وغيرهما من الكتب، فإن ارتفعوا عن الآمدي ارتفعوا إلى ابن الخطيب وهو ابن الفخر الرازي ، وإن ارتفعوا أكثر فإلى الغزالي و الجويني و الباقلاني ، فهم لا ينقلون كلام الأئمة من القرون الثلاثة وغيرهم، إلى أن قال: (والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقاً وعملاً يعد إجماعاً منهم) لا بد أن نضيف كلمة: (يعد) أو (يكون) إجماعاً منهم (والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ) أي: أن الواحد من الصحابة أو التابعين يمكن أن يخطئ في الحفظ وفي النقل، لكن الأمة بمجموعها لا تجتمع على خطأ، والحمد لله.
يقول: (الأمة معصومة عن الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها) وهذه عبارة عظيمة، والرواية المراد بها: نقل الحديث -بمعناه العام- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معصومة في النقل والرواية، والرأي هو اجتهاد، فإذا اجتهد علماء الأمة وفقهاؤها، ثم أجمعوا على أمر واتفقوا عليه؛ فإنه يكون معصوماً بإذن الله تعالى، إذ لا يمكن أن يجتمعوا على الباطل أو يخرج الحق عنهم، والرؤيا: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا أصحابه؟ قال: ( أرى رؤياكم قد تواطأت أنها في العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر )، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم تواطؤ الرؤيا، فكيف بتواطئ روايتهم، والذي يشاهدونه وينقلونه على الحقيقة؟ وهذا استدلال قيم منه رحمه الله فيقول: ( أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ).
ثم قال رحمه الله: (واعلم أن جمهور أحاديث البخاري و مسلم من هذا الباب) أي: من باب ما تلقته الأمة بالقبول؛ لأن المنتقد عليهم أحاديث معدودة، والمنتقد لهم منازع في انتقاده أيضاً، كالإمام الدارقطني رحمه الله تعالى، فإما أن يجاب عنه إجابة كلية، وإما إجابة تفصيلية، فنجمل الإجابة فنقول: إن ما تلقته الأمة بالقبول فهو مقبول وثابت، وإن كان قد ينازعك فيقول: أنا من الأمة وقد خالفت، ونقول: ما انتقد عليهما منه ما كان النقد في غير محله، بمعنى: أن الخطأ من الناقد والحق معهما، وهذا أكثر ما انتقد على البخاري ، مع أن الحق معه رحمه الله، وليس مع الدارقطني ولا غيره، وهذا أحد الأجوبة.
والأمر الثاني: أن يكون الناقد نظر إلى الشرط، بمعنى: أن هذا الحديث ليس على شرط البخاري ، لكنه يصح على غير شرطهما، لكن فقط الانتقاد موجه إلى أنه ليس على ما اشترطاه.
وأمر آخر: أن يكون ما انتقد عليهما حق، لكنه في الشواهد والمتابعات وليس في الأصل، وهذا كثير عند مسلم .
وأمر آخر أن يقال: إن ما ضعفته أيه المنتقد قد صححاه، وليس قبولنا لتضعيفك بأولى من قبولنا لتصحيحهما، إذ هما أئمة ثقات أثبات بهذه الدرجة من العلم، والواحد منهما إن لم نقل: إنه أوثق منك فهو مثلك، فليس أخذنا لكلامك بأولى من أخذنا لكلامهم، فأقل ما في الأمر أنهما تساويا، لكن الأمة أجمعت على تلقي هذين الكتابين بالقبول، فيكون تلقي الأمة لهما بالقبول مرجحاً لهما، ورد على انتقادك لهما، والشيخ رحمه الله تعالى عبارته دقيقة، إذ قال: (واعلم أن جمهور أحاديث البخاري و مسلم). فقال: جمهور الأحاديث وليس كل لفظ فيها.
إذاً ما كان من المتابعات والشواهد، ما كان من الألفاظ في الصحيحين غيره ثابت معترض عليه باعتراض صحيح لا يدخل في هذا؛ لأنه ليس كل لفظ في الصحيحين ثابت، أما الحديث فصحيح، ففرق بين هذا وهذا، فلو جزمنا أن كل حديث في الصحيحين صحيح قطعاً فلا يلزم من ذلك أن كل لفظ فيهما صحيح قطعاً، بل هناك أربعة أحاديث يمكن أن يجزم بأنها غير صحيحة بجميع ألفاظها، وهي في صحيح مسلم بينها ابن تيمية رحمه الله تعالى.
إذاً يقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله: (إن الأمة معصومة في تلقيها لأحاديث الصحيحين بالقبول، والأمر ليس كما قال الفخر الرازي : إنهما ما كانا عالمين بالغيوب، وأن الزنادقة وضعوا أحاديث، وكان الذي في قلوبهما يقبلان أحاديثهما، فأدخلوا في الصحيحين أحاديث مكذوبة وموضوعة، وليس الأمر كذلك، إذ إن الطعن في الصحيحين طعن في عدالة وتواطؤ وتلقي الأمة لهما بالقبول).
لكن قد يرد سؤالاً وهو: إذاً فالاعتبار بكلام من؟
قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: (ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداه من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم -من العلوم- كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء). هل يقبل كلام الأطباء أو المتكلمين في الأحكام الفقهية؟ لا، فإذاً الاعتبار في الإجماع في كل فن هو باعتبار أهل ذلك العلم، وحملة ذلك الفن، وكذلك يقول: (لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث أو عدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين لأقوال متبوعيهم) أي: إذا جاءك الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو المالكي وقال: أنا متأكد أن هذا الكلام قاله إمامي، وهو مروي براوية فلان ابن فلان عنه، فنقول: عناية واهتمام المحدثين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من عنايتكم بكلام إمامكم المقلد المتبوع.
إذاً لا بد أن يكون كلامهم حقاً، فلذلك إذا قال أحد: هذا ليس من مذهب مالك ، أو هذا من مذهب مالك ، لأني أعرف طرقه وأصوله، قلنا: فكذلك علماء الحديث يجزمون ويعلمون أن هذا الحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليس من كلامه؛ لمعرفتهم لكلامه صلى الله عليه وسلم.