إمكانية تمييز الحق من الباطل في أحاديث الآحاد
يقول: (وقد جعل الله على الحق نوراً كنور الشمس، يظهر للبصائر المستنيرة، وألبس الباطل ظلمة كظلمة الليل، وليس بمستنكر أن يشتبه الليل بالنهار على أعمى البصر والعياذ بالله، كما يشتبه الحق والباطل على أعمى البصيرة والعياذ بالله. قال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه في وصيته) أي: عند موته ووصيته ثابتة بالأسانيد الصحيحة وهي وصية عظيمة جداً، ذكر فيها ما يجب على طالب العلم قال: (تلق الحق ممن قاله، فإن على الحق نوراً). قالوا: كيف نتقي جدال المنافقين بالقرآن؟ وكيف نقبل كلمة المنافق وإن كانت حقاً؟ قال: اقبل الحق أو تلقى الحق؛ فإن على الحق نوراً ولو كان القائل به منافقاً. أي: خذه واقبله وصحح قلبك؛ لأنك إذا جليت قلبك ونظفته يعرف الحق؛ لأن على الحق نوراً يقبله القلب السليم، ويصدقه بإذن الله، وتأمل هذا الكلام العظيم لـابن القيم رحمه الله: (ولكن لما أظلمت القلوب، وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال، التبس عليها الحق والباطل). وهذا حق، فوالله ما ضل الناس، وما التبست عليهم الحقائق إلا عندما أظلمت القلوب، وعميت البصائر بالإعراض عن منبع الوحي النقي، والأخذ من الكتاب والسنة الصحيحة أخذاً مباشراً، والأخذ من كلام السلف أخذاًَ مباشراً، واكتفوا بالآراء والأقيسة وكلام الرجال وما أشبه ذلك، فضاعوا وتاهوا إلا من رحم الله، فكيف بالضياع العظيم وهو الإعراض عن هذا الدين بالكلية؟ حتى ما كان من اجتهاد البشر، ككلام الفقهاء وأمثاله، والأخذ من النظريات والمناهج والفلسفات الجاهلية اليونانية أو الأوروبية الحديثة، أو أي نظرية، فهذا لا شك أنه العمى المطبق، والظلمة الكاملة التامة لأهلها والعياذ بالله، والحق والنور إنما يأتي بالأخذ والتلقي المباشر من الكتاب والسنة، وكلام علماء السلف من الصحابة ومن بعدهم، ثم بعد ذلك الاستعانة على ما غمض وصعب بأفهام العلماء، لكن أن يبدأ الإنسان، أو أن يضل مكتفياً بآراء الرجال وخلافاتهم، فإنه يتوه ويضيع وتلتبس عليه الأمور، وليس هذا مجال التفصيل فيه هنا، لكن نقول: عندما حدث هذا الالتباس والاشتباه جوزت هذه القلوب على أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذباً، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلفة التي توافق أهوائها أن تكون صدقاً فاحتجت بها، ثم عاد ليقول: (وسر المسألة أن خبر العدول الثقات الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذباً وخطأً، ولا ينصب الله تبارك وتعالى دليلاً على ذلك؟ من قال: إنه يوجب العلم يقول: لا يجوز ذلك، بل متى وجدت الشروط الموجبة للعمل به وجب ثبوت مخبره في نفس الأمر)، أي: ما دام قد تحققت شروط العمل به، فلا يجوز أن يشرع الله لنا ما يجب علينا أن نعمل به إلا وهو حق ثابت في نفس الأمر، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، قال: (وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه. أي: وقع الخلاف في تكفير من لم يعمل بحديث الآحاد؛ لكونه من الحجج العلمية، كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع). أي: أن من رد الخبر الصحيح اعتقاداً لغلط الناقل أو كذبه، أو لاعتقاد الرازي أن المعصوم لا يقول هذا، أو لاعتقاد نسخه ونحوه، فرده اجتهاداً وحرصاً على نصر الحق؛ فإنه لا يكفر بذلك ولا يفسق، أما مجرد أن أحداً لا يعمل بحديث آحاد، أو يرده لاعتقاد أنه غير ثابت، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول هذا الكلام، أو أن الناقل أخطأ أو كذب وأمثال ذلك؛ فهذا لا يكفر؛ لأنه لم يقصد مضادة ومحادة الوحي، وإنما يقول: هذا عندي غير ثابت، وهو مجتهد في ذلك إذا كان أهلاً للاجتهاد.