وأما مذهب الحنابلة كما هو منقول عن القاضي أبي يعلى نقله ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: (أحاديث الرؤية نؤمن بها، ونعلم أنها حق، قال القاضي: فقطع على العلم بها، وهذا هو اللائق بمذهب الإمام أحمد رحمه الله كما ذكر الشيخ من قبل).
ثم ذكر في نهاية كلام القاضي أبي يعلى كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في استدراكه عليه، وهو: (أن الطرق غير منحصرة، متى يفيد خبر الآحاد العلم؟ فنقول: لا حصر لذلك؛ لأن القرائن كثيرة، فما يحتف به من القرائن والأحوال في ذلك كثيرة، وقد ذكرنا بعضاً منها، فالواحد إن كان خبراً عن الله في القرآن، أو كان خبراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن كان من آحاد الصحابة، وكثير من القرائن تجعل خبر الواحد قطعياً، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: إن هذه لا تنحصر، وابن القيم يفصل ذلك فيقول: أخبار الآحاد الموجبة للعلم لا تنحصر، بل يجد المخبر علماً لا يشك فيه بكثير منها.
ففي حياتنا اليومية تأتينا أخبار آحاد، ومع ذلك تعطينا وتفيدنا القطع واليقين، فكيف بما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن النقلة الأثبات؟!).
قال: (كما إذا أخبر من لم يجرب عليه كذباً قط بخبر أنه شاهده؛ فإنه يجزم به جزماً ضرورياً، أو يقارب الضرورة.
أي: أن أي واحد من الناس إذا أخبره من لا يشك في صدقه: أنني اليوم -مثلاً- رأيت كذا وكذا؛ فإنه يجد ذلك علماً ضرورياً لا يحتاج معه إلى استدلال، فهو ثقة مأمون مطمأن إليه، لم يجرب عليه كذباً، وبالتالي فإنك تقطع به، وتنقله من غير شك، وهذا واقع في حياتنا، يقول: وكما إذا أخبر بخبر عليه فيه ضرر من الأخبار فأخبر به تديناً وخشية لله تبارك وتعالى، كما إذا أتى بنفسه اختياراً، وأخبر عن حد ارتكبه ويطلب التطهير منه. كالذي حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع قصة ماعز ، ومثله لو جاء إليك شخص آحاد وأخبرك وقال فعلت كذا وكذا على سبيل الخشية والتدين، ويريد منك أن تفتح له باباً للتوبة، أي: كيف يتوب ويتطهر من ذلك؟ فما الذي يجعلك تشك في خبره؟ وما الذي يحمله على أن يكذب حتى يرجم أو يجلد أو يغرم أو يعزر؟ إن هذا يفيد عندك يقيناً أنه صادق، وأن ذلك الأمر قد وقع، فيقول: لا بينة ولا يمين لا مخافة.. إلى آخره، فماذا يلحقه؟ أو أخبر المفتي بأمر فعله ليحصل له المخرج منه -هذا واضح مثله- أو أخبر الطبيب بألمٍ يجده ليرجو من ذلك أنه يعالجه. فهل نقول: هذا خبر واحد ويمكن أن يكون كذاباً، بل نطمئن لكلامه؛ لأنه يخبر عن أمر له في نفسه، ثم ما الذي يحمله أن يذهب ويدعي المرض ويأخذ الدواء وهو غير مريض؟ المقصود أن الناس في الأصل يتعاملون على أن هذا يفيدهم علماً، فيقطعون به ويجزمون به، يقول: إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأخبار التي يقطع السامع بصدق المخبر بها، فكيف ينشرح صدراً وينطلق لساناً بأن خبر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم إذا قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، أنها لا تفيد علماً البتة؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!).
أي: إذا كنا نسلم بمثل هذه الأخبار في هذه الأمور العادية ونقطع بها، فالأولى والأحرى أن نقطع بما يقوله هؤلاء الأئمة الأعلام الأجلاء الثقات، الذين هم أعلى الأمة درجةً في الإيمان واليقين والتثبت والأمانة والصدق والإخلاص، وأن نجزم به، ولا يحل لنا بحال من الأحوال أن نقول: إن أخبارهم لا تفيد اليقين أو العلم. ثم يقول: (ونحن نشهد بالله أن هؤلاء كانوا إذا خبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر جزم بصدقهم) أي: الرسول صلى الله عليه وسلم (بل نشهد بالله أن سالماً ، و نافعاً ، و سعيد بن المسيب وأمثالهم بهذه المنزلة) انتقل إلى التابعين (بل مالك ، و الأوزاعي و الليث ونحوهم كذلك، فلا يقع عندنا ولا عند من عرف القوم والاحتمال فيما يقول فيه مالك : سمعت نافعاً يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول) لا يقع في هذا احتمال أبداً (ونحن قاطعون بخطأ منازعينا في ذلك) فـابن القيم رحمه الله تعالى يجزم بأننا نقطع بالخطأ، إذ إن المسألة ليست اجتهادية، أي: لا نقول: كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب، بل نقول: كلامنا حق، وكلام غيرنا باطل لا يحتمل الصواب لوضوحها عندنا.