قال رحمه الله: (وقال الإمام
أحمد في حديث الرؤية: نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها). إذاً: فهي تفيد العلم اليقيني القطعي، وليس فقط أنه يجب أنه نعتقدها على سبيل الظن الراجح أو الغالب.إذاً: فحديث الرؤية نقطع العلم به، وكذا روى
المروزي قال: قلت لـ
أبي عبد الله : هاهنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، وحقيقة لقد تعجبت عندما قرأت هذا الكلام وقلت: سبحان الله! حتى في عهد الإمام
أحمد كان هذا الكلام قد انتشر وتجرأ البعض على قوله، وكنا نظن أن هذا إنما انتشر بعد ذلك، أو كان قليلاً في أيامهم، وإذا به يصل إلى الإمام
أحمد ، فعابه الإمام
أحمد وقال: لا أدري ما هذا؟ والإمام
أحمد عندما يقول: لا أدري فهو يستنكره؛ لأنه لو كان شيئاً من الحق لعلمه؛ لأن هذا شيء ما جاء عن الصحابة ولا عن التابعين، وما أدري ما هذا ومن أين جاءوا بهذا الكلام؟ فإننا ما أخذناه عن أئمتنا ولا عن علمائنا من التابعين وأتباع التابعين، فكيف يقول أحد: أنا أعمل به لكن لا أعتقده ولا أعلمه ولا أجزم به، وهذا الكلام إذا تأمله العاقل اللبيب علم أنه بدعةً.وقال القاضي في أول المخبر: (خبر الواحد يجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقاه بالقبول، قال: والمذهب على ما حكيت لا غير)، وهذا القاضي الحنبلي هو
أبو يعلى ، وهو يقول: لا يصح أن يقول أحد: إن في مذهب الإمام
أحمد روايتين: أحدهما أنه يفيد العلم والأخرى أنه لا يفيد إلا الظن، فالمذهب قول واحد، لكن يستدرك عليه
ابن القيم رحمه الله قائلاً: (ونص في رواية
أحمد بن حسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه رواية أخرى تدل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وجاء بعض الناس وقال: لا.
أحمد لا يرى أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأن الإمام قال في رواية
المروزي : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت به ودنت الله به ولا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك). وهنا أولاً: لابد أن نفهم الرواية ثم نفهم الجواب عنها، فالرواية تقول: إن الإمام
أحمد رضي الله عنه وأرضاه من
أهل السنة والجماعة يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت أي: من جهة السند والمتن أنه قال عملت به أي: عمل بموجبه، فإن كان حلالاً أحله، وإن كان حراماً أحرمه، ودنت الله به أي: اعتقدت وعملت به كما أمر الله لكن لا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله يعني: يحتمل أنه لم يقله.فهو عمل بالظن ولم يجزم ولا شهد أن الرسول قاله؛ لأنه ظني ويحتمل أنه لم يقله، ولكنه لم يرده.أما الرواية الأخرى ففيها أنه قال: إذا جاء شيء فنحن نجزم أنه قاله ونعمل به، فكيف نخرِّج هذه الرواية؟ وأما راوية
الأثرم عن
أحمد أنه لا يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالخبر ويعمل به، فهذه راوية انفرد بها
الأثرم ، وليست في
مسائله ولا في كتاب
السنة، وإنما حكى القاضي أنه وجدها في كتاب
معاني الآثار ، و
الأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه، بل لعله بلغه من واهم وهم عليه في لفظه، فلم يروه عنه إلى آخره، ولعلنا نأتي عليه إن شاء الله.إذاً: هذه الرواية غير ثابتة عن الإمام
أحمد ؛ لأن الذي جمع كلام الإمام
أحمد وسمى كتابه: كتاب
السنة ويسمى: كتاب
الجامع أو
مسند الخلال هو
الخلال ، و
الخلال روى الأقوال عن الإمام
أحمد ، لم يذكر فيها هذا القول، فهذا أحد الأدلة التي تدل على أن
الأثرم إنما رواه أو ذكره غير مسند، فقد يكون وهم فيه، أو نقل عن واهم. ثم ذكر
ابن القيم كلاماً بعد ذلك وذكر بعد ذلك أقوالاً أخرى منها: (قال
ابن أبي يونس في أول
الإرشاد : وخبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعاً ونص القاضي
أبو يعلى على هذا في
الكفاية ، وقال الشيخ
أبو إسحاق الشيرازي وهو من أئمة الأصول المعروفين) وهنا
ابن القيم رحمه الله ينتقي النقول، فذكر الإمام
أبا إسحاق الشيرازي ؛ لأنه من أئمة الأصول المعروفين، وهو شافعي المذهب، فلكونه شافعياً وإماماً أصولياً متقدماً يأتي الإمام
ابن القيم بكلامه، فإذا جاء بعده
الغزالي وهو شافعي وأصولي وقال غير ذلك قلنا: أنت خرجت عن مذهب
الشافعي ووقعت في كلام المتكلمين من
المعتزلة وأشباههم، و
الشيرازي له كتاب
التبصرة وله كتاب
شرح اللمع وغيرهما.قال
ابن القيم رحمه الله: (قال الإمام
الشيرازي : وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل سواء عمل به الكل أو البعض، فلم يحك فيه نزاعاً بين أصحاب
الشافعي ، وحكى هذا القول أيضاً القاضي
عبد الوهاب من المالكية عن جماعة من الفقهاء، وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم ومثلوا له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (
لا وصية لوارث ) مع أنه إنما روي من طريق الآحاد)، والحنفية في أصول الفقه لهم كلام آخر، فهم في الحكم على الأحاديث يجعلون المستفيض في مرتبة متوسطة بين الآحاد وبين المتواتر، فما استفاض العمل به وإن كان آحاداً فإنه عندهم يوجب العلم، ومثلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (
لا وصية لوارث ). والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.