المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[وهي مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد].
الشرح:
العبارة على هذا النحو فيها خلل، ويبدو لي أن كلمة (وهي) أصلها (وفي)، فتكون العبارة هكذا: "وفي مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين".
قد تقدم قوله رحمه الله: [وتكلموا في التوحيد..]، وبعد ذلك قال: [ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك العدل] وبعد ذلك قال: [ثم تكلموا في النبوة والشرائع..] إلخ، ويكون المعنى: وتكلموا في مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين، هذا هو المعنى الصحيح، لذلك فنحن نصلحها بحسب المعنى، وربما يكون الخطأ في أصل المخطوطة، وربما تكون العبارة في المخطوطة صحيحة، ولكنها طبعت خطأً.
فالمعنى الصحيح يقتضي أنها (وفي) لا (وهي)، أي: ثم تكلموا في مسائل الأسماء والأحكام التي هي المنزلة بين المنزلتين، وهذا هو الأصل الرابع من أصولهم المنحرفة.
  1. أول ما أظهر المعتزلة من بدعهم المنزلة بين المنزلتين

    إن أول ما ابتدأ ضلال المعتزلة من مسألة المنزلة بين المنزلتين، وهي أول بدعة أظهروها؛ ابتدعها واصل ثم تبعه عليها عمرو، وجعلوها أصلاً من أصول دينهم، فلم يسبق لأحد من أئمة الإسلام ولا من فرق الضلال قبلهم أن ذكر هذا، وإنما كان الناس قبلهم على ثلاث فرق في مسألة مرتكب الكبيرة، كانت الخوارج تقول: إنه كافر، وكانت المرجئة تقول: إنه كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على مذهبهم المعروف في المسألة، فخرج هؤلاء بهذه البدعة الجديدة، وقد برر واصل بن عطاء هذه البدعة بقول الحسن البصري لما سئل عن مرتكب الكبيرة فقال: إن مرتكب الكبيرة منافق، والحسن رحمه الله -إن ثبت عنه ذلك- لا يقصد به النفاق الأكبر، كما لا يقصد أن يبتدع في دين الله سبحانه وتعالى، أو يقرر أصلاً من أصول الابتداع، وإنما قال: كيف يدعي الإيمان ثم يرتكب الكبيرة؟! هذا يقول ما لا يفعل، وهذه صفة المنافقين.
    وكان الأمر في مجلس موعظة، وليس في تقرير أصل بدعي جديد لم يقله أحد من قبل.
    لكن لما أراد الله تبارك وتعالى الفتنة لـواصل ولـعمرو وأشباههم، احتاروا بسبب هذا القول وترددوا، و قالوا: إن قلنا: إنه مؤمن؛ فكيف يكون مؤمناً وقد ارتكب الكبائر؟! وإن قلنا: إنه كافر كما تقول الخوارج، فكيف يكون كافراً وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله مع إيمانه في الباطن؟! فاحتاروا واضطربوا في هذا الأمر.
    وكان المخرج من الحيرة والاضطراب والاختلاف هو العودة إلى الكتاب والسنة، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نرد الأمور عند التنازع إلى الله ورسوله، أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنهما ردَّا الأمر إلى الرأي المجرد فقالا: نجعله في منزلةٍ بين المنزلتين: لا هو مؤمن ولا هو كافر، المنزلتان هما: منزلة الإيمان، ومنزلة الكفر، فهو في منزلةٍ بينهما. وهي منزلة وهمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع.
  2. أصل ضلال الفرق في باب الإيمان

    ويتضح لكل ناظر في هذه المسألة أن الإيمان يزيد وينقص، وكل الفطر والعقول السليمة تقر بذلك، لكن غفل عن ذلك جميع أهل البدع الذين ضلوا في باب الإيمان.
    والأصل المشترك الذي بنيت عليه ضلالات الفرق التي ضلت في باب الإيمان هو اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتركب، ولا يزيد ولا ينقص.. هذا الأصل اتفقوا عليه، ثم أخذوا يطبقونه في الواقع؛ فـالخوارج عندهم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص؛ وحين وجدوا أن أقواماً يسرقون ويزنون ويشربون الخمر، ويفعلون الموبقات، قالوا: كيف يكون عند هؤلاء الناس إيمان؟! فنفوا عنهم الإيمان مطلقاً، وجعلوهم كفاراً مرتدين، وأكثر فرق الخوارج غلواً في التكفير هم الأزارقة، أتباع نافع بن الأزرق، ثم بعد ذلك النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي، وأخفهم وأقلهم غلواً الإباضية، هذه هي الفرق الثلاث الرئيسة، وتفرعت منها فرق كثيرة جداً.
    وهذه شبهتهم؛ قالوا: كيف يزني ويشرب الخمر ويأكل الربا ويكون مؤمناً؟! الإيمان شيء واحد فقط؛ فإما أن يوجد كله، وإما أن يذهب كله، ولا يمكن أن يتبعض أو يتجزأ، ولا يتركب من شيئين أو أكثر، فهذا الذي فعل هذه الكبائر والموبقات خرج من الإيمان، وخرج من الدين.
    ثم بعد ذلك أتوا بظواهر النصوص التي فيها نفي الإيمان عمن فعل شيئاً من ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} لكن هذه الأدلة إنما أتوا بها بعد أن حكموا على القضية بعقولهم وآرائهم، ولذلك ردوا كل دليل يخالفها، وما وجدوه من الأدلة يوافقها في نظرهم أخذوا به.
    أما المرجئة، فقالوا: من أكل الربا أو زنى أو سرق، أو شرب الخمر، أو عق والديه أو فعل غير ذلك من الكبائر؛ وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي، وهو من أهل القبلة، فكيف يكون كافراً؟! والإيمان عندهم -أعني المرجئة - لا يزيد ولا ينقص، فقالوا: هو مؤمن، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر، وذلك لأن الإيمان عندهم شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وعليه فإيمان أبي بكر كإيمان عمر، وهو كإيمان أفجر الفجار من أهل القبلة، فهو شيء واحد، فناقضوا بذلك العقول السليمة، والفطر القويمة، والنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تفاضل أهل الإيمان.
    ثم جاءت المعتزلة بقول جديد لم تسبق إليه، وهو أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين؛ فلا هو مؤمن ولا هو كافر... إلى آخر ما سبق ذكره من قولهم في هذه المسألة.