المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن شروط الشفاعة وأدلة ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، ثم ذكر بعض أنواع الشفاعة، وذكر المخالفين والموافقين لأهل السنة والجماعة في هذا الباب، مع ذكر أسباب موافقتهم. ثم تطرق إلى مسألة وجوب فعل الأصلح على الله تعالى لعباده عند المعتزلة والرد عليهم، ثم شرع في شرح حديث الشفاعة الطويل، مع بيان بعض فوائده.
  1. الشفاعة : شروطها وأدلتها

     المرفق    
    الشَّفَاعَة لها شرطان: وبعض العلماء يذكر أكثر من ذلك، لكن الأمر يرجع إِلَى شرطين:
    الأول: هو إذنُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للشافع، سواءً كَانَ هذا الشافع ملكاً، أو رَسُولاً، أو عبداً صالحاً، أو شهيداً، أو غير شهيد، أو مَنْ شاء الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- من الشفعاء.
    الثاني: رضى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عن المشفوع له، فالشَّفَاعَة تتركب من شافع ومشفوع له ومشفوع لديه، وهو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    1. أدلة ذكر الشفاعة من القرآن

      الأدلة عَلَى الشَّفَاعَة جلية من كتاب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكذلك من سنة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول في آية الكرسي: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ألا بِإِذْنِه))[البقرة:255] في هذه الآية العظيمة التي هي أعظم أية في كتاب الله لِمَا اشتملت عليه من صفات الألوهية وخصائصها التي هي صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتي لا يشاركه فيها أحد نفي الله الشَّفَاعَة عن كل أحد إلا بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أذن له من العباد أن يَشْفَع فإنه يَشْفَع بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      وفي سورة النجم يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن الملائكة الذين هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ولا يرتكبون ما يرتكبه بنو آدم من الذنوب والخطايا يقول عنهم: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى))[النجم:26] فجعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذنه شرطاً لشفاعة الملائكة وهم من عباد الله المكرمين الذين كانت بعض الأمم يعبدونهم ويظنون أن فيهم خصائص الألوهية، ويصرفون بعض أنواع العبادة لهم، فبين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنهم لا يشفعون إلا من بعد أن يأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن يشاء ويرضى، وذكر من صفاتهم أيضاً في الآية الأخرى قوله: ((وَلا يَشْفَعُونَ ألا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28] فإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للملائكة أو للرسل أو لغيرهم هو الشرط الأول. ورضاه عن المشفوع له هو الشرط الثاني.

      والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال :((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)) [الزمر:7] فالله تَعَالَى لا يرضى عن الكافرين ولا يحبهم؛ ولذا لا تنفعهم شفاعة الشافعين كما أخبر الله بذلك، وخص الشَّفَاعَة بقوله:((إلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [الزخرف:86] فالشَّفَاعَة خاصة ومحصورة في أهل التوحيد فيمن شهد بالحق وهم يعلمون، فمن شهد شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عالم بمعناها، عامل بمقتضاها، فهَؤُلاءِ هم الذين يستحقون الشَّفَاعَة، هذه بعض الآيات في ذلك.
    2. الأدلة من السنة على ثبوت الشفاعة

      أما من السنة: فالحديث العظيم حديث الجهنميين الذي رواه أكثر من صحابي ومنهم: أَبو هُرَيْرَة وأبو سعيد الخدري كما في الروايات التي في صحيح البُخَارِيّ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه {فيخرجون من النَّار وهم آخر النَّاس خروجاً} وهَؤُلاءِ هم الذين يقال لهم: الجهنميون، {فيخرجون من النَّار وقد امتحشوا وصاروا فحماً فيلقيهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحميلة في طرق السيل -كما ينبت النبات الذي يكون عَلَى طرف السيل- ثُمَّ يدخلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجنة برحمته}.
      وهذا يكون بعد أن يشفع الشافعون من الملائكة وعباد الله الصالحين ويتحنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من بعد ذلك عَلَى من يشاء كما في رواية المسند {ثُمَّ يتحنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من بعد ذلك، فيخرج أقواماً لم يعملوا خيراً قط} فهَؤُلاءِ جميعاً الذين هم آخر من يخرج من النَّار تنالهم الشَّفَاعَة وهَؤُلاءِ كلهم من الموحدين
      .
      فلا حظَّ ولا نصيب في الشَّفَاعَة لمشرك إلا في حالة خاصة سيأتي شرحها إن شاء الله تَعَالَى وهي حالة أبي طالب مع العلم أن الإخراج من النَّار لا يكون أبداً لمشرك وإنما هو خاص بالموحدين، ولهذا فإن الجهنميين -كما ورد في نص الحديث الصحيح- يعرفهم الشافعون بعلامة السجود؛ لأن النَّار تأكل ابن آدم إلا آثار السجود.
      كما يدل الحديث أن تارك الصلاة ليس من الْمُسْلِمِينَ ولا يعامل معاملة الموحدين ولا تنفعه شفاعة الشافعين، قال الله تَعَالَى في شأنهم: ((قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ))[المدثر:43-46].
      فهَؤُلاءِ الذين ليس لهم علامة السجود كيف يخرجون من النار؟
      وكيف يعرفهم الشافعون ليخرجوهم من النار؟
      وأما من يتحنن الله تبارك عليهم ويخرجهم بعد ذلك، فهم إما أنهم كانت فيهم علامة سجود ضيقة ضعيفة لا تكاد تُرى -مثلاً- أو ممن كانت لهم حالة خاصة كمن يعيش في آخر الزمان حيث لا يدري النَّاس ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وحيث يندرس العلم، فالمسلم في ذلك الزمان هو الذي يقول لا إله إلا الله فقط، لا يعرفون إلا هذه الشهادة -لا إله إلا الله- ومع ذلك هم خير ذلك الزمان، وشر الخلق بالنسبة لمن بعدهم، ثُمَّ يهلكون، ولا تقوم الساعة حتى لا يبقى في الأرض من يقول: لا إله إلا الله، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا له تفصيله إن شاء الله في مبحث الحشر والجنة والنار.
      والمقصود هنا: أنَّ الذين بلغت بهم المعاصي إِلَى أن تركوا الصلاة أو ارتكبوا أي معصية تخرج صاحبها من الملة فهَؤُلاءِ ليسوا من أهل التوحيد. فكل من ليس من أهل التوحيد وكان من أهل الكفر: إما كفراً أصلياً أو كفر ردة. فهَؤُلاءِ لا تنالهم الشَّفَاعَة ولا يخرجون من النار.
    3. إثبات الشفاعة بالإجماع

      أما ثبوت الشَّفَاعَة بالإجماع: فقد أجمع أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ على إثبات الشَّفَاعَة كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما وقع الخلاف من أهل البدع ومَنْ حذا حذوهم أو تأثر بهم.
  2. بعض أنواع الشفاعة

     المرفق    
    ثُمَّ بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنواع الشَّفَاعَة: وذكر أن منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع، ومن هذه الأنواع ما يلي:
    1. الشفاعة العظمى

      وهذ الشَّفَاعَة هي الخاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين سائر إخوانه من الأَنْبِيَاء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهذه الشَّفَاعَة العظمى أجمعت عليها الأمة: أهل السنة وأهل البدع من المعتزلة والخوارج وغيرهم، وهي: شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحشر عند اشتداد الكرب والهول وعندما يفزع النَّاس إِلَى آدم، ثُمَّ إِلَى نوح، ثُمَّ إِلَى إبراهيم، ثُمَّ إِلَى موسى، ثُمَّ إِلَى عيسى، ولا يجدون من يشفع لهم ويضيق الخلق أجمعون ويشتد الكرب عليهم جميعاً، فيلجئون إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ يريدون منه أن يفصل الموقف، وأن يُدْخِلَ أهل الجنة الجنة وأهل النَّار النار، ففي هذا الموقف العظيم حين يتراجع كل الأَنْبِيَاء أولوا العزم وغيرهم من الخلائق يكون المقام المحمود للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    2. الشفاعة في رفع الدرجات

      هناك أيضاً نوع أخر من أنواع الشَّفَاعَة: وهو شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كَانَ يقتضيه ثواب أعمالهم.
    3. موافقة الخوارج والمعتزلة لأهل السنة في هاتين الشفاعتين

      وافقت المعتزلة والخوارج أهل السنة في النوعين السابقين من أنواع الشَّفَاعَة، والسبب في ذلك أنه ليس في هذه الشَّفَاعَة إخراج أحد من النَّار فقاعدتهم -التي سبقت معنا- أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار، والشَّفَاعَة الكبرى شفاعة المحشر يثبتها المعتزلة؛ لأنهم لا يرون فيها تعارضاً مع ما أصَّلوه وهو: أن صاحب الذنب لا بدَّ أن يُجازى بذنبه وجوباً، فيدخل النَّار ولا يخرج منها عياذاً بالله، هكذا قررت عقولهم دون الرجوع إِلَى الآيات وإلى الأحاديث، ووافقهم عَلَى ذلك الخوارج.
      بل وافقهم بعض التابعين مثل: يزيد بن الفقير كما في صحيح مسلم، وطلق بن حبيب كما في الأدب المفرد للبخاري يقول: "كنت أرى رأي الحرورية-أي: رأي الخوارج-ولا أؤمن بالشَّفَاعَة"، أو قَالَ: "وكنت من أشد النَّاس إنكاراً للشفاعة".
      فبعض التابعين الذين لم يكونوا من الخوارج انقدحت في أذهانهم هذه الشبهة وهو أن صاحب المعصية لا بد أن يجازى فكيف يشفع فيه أحد، وذهلوا وغفلوا عن الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشأن، حتى بيَّن لهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أدركوا ظهور هذه الشبهة وهذه البدعة، وممن أدرك ظهور بدعة إنكار الشَّفَاعَة من الصحابة جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس.
      وقد أخبر عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أنه سيأتي قوم ينكرون الشَّفَاعَة" والقصد أن هَؤُلاءِ الخوارج والمعتزلة اثبتوا هذه الشَّفَاعَة لأنه ليس فيها إخراج أحد من النَّار وإنما فيها زيادة استحقاق.
  3. مسائل متفرقة في باب الشفاعة

     المرفق    
    1. مسألة فعل الأصلح عند المعتزلة

      المعتزلة عندهم قاعدة خبيثة وهي: (أنه يجب عَلَى الله أن يفعل الأصلح وأن يختار لعبده الأصلح) هكذا قرر إبراهيم النظام وأصحابه من البراهمية الذين هم في الأصل براهمية مجوس ثُمَّ أرادوا أن يخدموا دين الإسلام، فجاءوا بهذه المعاذير التي ينفر منها المؤمن، فمن الذي فرض عَلَى الله فعل الأصلح؟! وتجدهم يأتون بهذه القاعدة عندما ترد النصوص والأحاديث الدالة عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أناس من أهل الجنة لينالوا درجة أعلى! فيقولوا: هذا من باب وجوب فعل الأصلح.
      وأعظم شيء خالف فيه المعتزلة ومن تبعهم هي الشَّفَاعَة التي تقتضي الإخراج من النار، وذلك بناءً عَلَى أن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النَّار. وَقَالُوا: لا يليق أن يفعل عبد الكبيرةَ ثُمَّ يدخل الجنة بشفاعة الشافعين فيصير مثل التقي الزاهد الورع، فهذا ليس من باب العدل! وأخذوا يحاكمون أفعال الله -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى عقولهم الكليلة القاصرة، ويخصون المغفرة بالتوبة، فلا يغفر الله لصاحب الكبيرة إلا إذا تاب، فلو مات وهو مرتكبٌ لكبيرة فإنه يكون من أهل النَّار خالداً فيها مخلداً، واختلفوا في اسمه في الدنيا -كما تقدم- فسماه الخوارج كافراً، والمعتزلة جعلوه في منزله بين منزلتين لا كافر ولا مؤمن.
      وهذا يرجع إِلَى اعتقادهم الفاسد وهو أنَّ التقي يستحق دخول الجنة عِوَضاً عن عمله الصالح، ويستحق دخول النَّار عوضاً عن عمله الطالح فجعلوا المسألة مسألة أخذ وعطاء وبيع وشراء ولم يجعلوا لرحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا لشفاعته ولا لمغفرته شيئاً من ذلك.
      وقد سبق أن ذكرنا في الرد عليهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصف نفسه في أول سورة غافر فقال: ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ ألا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ))[غافر:3] فوصف نفسه في هذه الآية بصفتين عظيمتين أنه ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)) فإذا كَانَ لا يغفر إلا لمن تاب فيكفي ذكر صفة واحدة، وهو: أنه قابل التوب فقط، فإذا عرفنا الله وعرفنا صفاته تعالى، عظَّمناه وقدرناه حق قدره، وعرفنا ماذا نعتقد في حقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن تاب قَبِلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى توبته حتى وإن تان من الشرك.
    2. الجمع بين آيات الرجاء وآيات الوعيد

      الله تَعَالَى عندما قال في آيات الرجاء وآيات الوعيد يظن قوله تعالى:((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)) [الزمر:53] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)) [المائدة:72] وأيضاً قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48].
      فكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يغفر للمشركين وأنه حرم عليهم الجنة، هذا حق وكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقبل التوبة من أي أحد، هذا حق أيضاً، ولا تعارض بينهما؛ فإذا تاب المشرك فقد انتقل من هذا الحكم -عدم المغفرة للمشرك- إِلَى حكم ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)).
      وهذا يدخل في ضمن صفة (قابل التوب) فيقبل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى التوبة حتى من المشرك، فإذا تاب وأسلم فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقبل توبته وهذا حكم ظاهر معلوم، عمل به الصحابة الكرام كما أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في أخر آيات الأحكام -التي نزلت في أول سورة التوبة- أحكام المنافقين والْمُشْرِكِينَ حين أظهر الله دينه وأعزه.
      وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5] وقال في سورة الفرقان بعد أن ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفات عباد الرحمن: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)) [الفرقان:68] هذا هو الشرك ((وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ألا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)) [الفرقان:68] وهذه أعظم الكبائر.
      ثُمَّ قال :((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * ألا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً)) [الفرقان:68-70] وهذا أصل عظيم وواضح ولكن إذا عميت البصيرة، فإنه يخفى عليها مثل هذا الأمور الواضحات، ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)) فكما أنه اتصف بقبوله التوبة فإنه متصف أيضاً بغفران الذنوب وبالعفو وبالمغفرة وبالكرم.
      فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازى العبد عَلَى العمل الصالح بأضعاف أضعاف ما يستحق والأصل أن العبد لاحق له عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تَعَالَى: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)) [النمل:89] وفسرتها الآية الأخرى ((فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) [الأنعام:160] وهذا كرم من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ يضاعف الله لمن يشاء إِلَى سبعمائة ضعف، وبعد الوزن وبعد أن ترجح سيئات أناس عَلَى حسناتهم، ويستحقون دخول النَّار يغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَن يشاءُ منهم بمنِّه وفضله وكرمه، ولا أحد يُحجِّرُ عَلَى رحمة الله الواسعة،
      فهذا ما ذهب إليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
      وأما أهل البدع، فإنهم يجعلون المسألة مسألة عوض ومسألة مقابلة.
    3. المعتزلة وجزاء الأعمال

      نجد أهل البدع وعلى سبيل الخصوص المعتزلة يضطربون اضطراباً عظيماً في فهم بعض النصوص فمن ذلك:
      الحديث الصحيح الثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إنه لن يدخل الجنة أحد بعمله} فالمعتزلة ينكرون مثل هذا الحديث ويقولون: كيف لا يدخل أحد الجنة بعمله وهو الذي يقول: ((بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [المائدة:105] ((بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأنعام:129]، وكان الواجب عليهم أن يردوا ما أشكل عليهم من نصوص الكتاب والسنة إِلَى أهل العلم ((فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل:43] هذا ما أرشدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه، لكنَّ هَؤُلاءِ يستفتون عقولهم وأراءهم.
      والجواب عَلَى هَؤُلاءِ أن تقول: إن قوله تعالى: ((بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))، أن الباء هنا باء السببية أي: بسبب العمل الصالح يدخلون الجنة فعباد الله الصالحين في هذه الحياة الدنيا يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، وكل هذه أسباب يبذلونها لتوصلهم إِلَى رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى جنته، فلو كانت المسألة مسألة مبادلة وعوض فلن يدخل الجنة أحد بعمله، فما هي أعمالنا؟ أعمالنا لا تكافئ موضع في الجنة، فليست هناك مكافئة، وإنما ندخلها برحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبمنه وفضله وكرمه.
    4. شرح حديث الشفاعة العظمى

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [النوع الأول: الشَّفَاعَة الأولى وهي العُظْمَى، الخاصَّةُ بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين سائر إخوانه من الأَنْبِيَاء والمرسلين، صلواتُ الله عليهم أجمعين.
      ففي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين أحاديث الشَّفَاعَة منها:
      عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: {أُتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فَدُفِعَ إليه مِنْهَا الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ منها نهسة، ثُمَّ قَالَ: أنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وهل تدرون مِمَّ ذاك؟ يَجْمَعُ اللهُ الأولينَ والآخرينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَسْمَعُهُم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض النَّاس لبعض: ألا ترون إِلَى ما أنتم فيه: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إِلَى ربكم؟
      فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوكم آدم.
      فَيَأْتُونَ آدم، فَيَقُولُونَ: يا آدمُ أَنْتَ أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إِلَى ربك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      فيقول آدم: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصينه، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى نُوحٍ.
      فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ: يا نُوح أَنْتَ أولُّ الرسل إِلَى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      فَيَقُولُ نوح: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها عَلَى قومي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى إبْرَاهِيْمَ.
      فيأتون إبْرَاهِيْمَ، فَيَقُولُونَ: يا إبْرَاهِيْمُ، أَنْتَ نبي الله وخليله مِنْ أَهْلِ الأرض أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      فَيَقُولُ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وذَكَرَ كذباته، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذهَبُوا إِلَى غَيْرِى، اذَهبُوا إِلَى مُوسَى.
      فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يا مُوسَى، أَنْتَ رَسُول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه عَلَى الناس، اشفع لنا إِلَى ربك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      فَيَقُولُ لهم موسى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى عِيسَى.
      فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يا عِيسَى أَنْتَ رَسُول الله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه قَالَ: هكذا هو، وكلمت النَّاس في المهد، فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      فَيَقُولُ لهم عِيسَى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذَهبُوا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يا مُحَمَّد أَنْتَ رَسُول الله وخاتم الأنبياء، غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقدمَ من ذَنْبِكَ وما تَأخر، فاشفع لنا إِلَى ربك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      فأَقُومُ فآتي تحت العَرْشِ فَأَقَعُ ساجداً لربي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يفتح الله علي ويُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسنِ الثناءِ عليه ما لم يفتحه عَلَى أحد قبلي، فيُقَالُ: يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشفَّعْ، فَأَقُولُ: يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيُقَالُ: أَدْخِلْ من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء النَّاس فيما سواه من الأبواب، ثُمَّ قَالَ: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مَصَارِيعَ الجنَّة كما بين مَكَّةَ وهَجَرَ أو كما بين مَكَّةَ وبُصْرَى}
      أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أَحْمَد]
      هذا الحديث هو أحد الأحاديث الكثيرة الواردة في إثبات الشَّفَاعَة العظمى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

      يقول أَبو هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: {أُتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فَدُفِعَ إليه مِنْهَا الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ} وهو أطيب ما في الشاة وأهناؤه، {فَنَهَسَ منها نهسة} أي: نهش والمعنى متقارب.
      {ثُمَّ قَالَ: أنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِة، وهل تدرون مِمَّ ذاك؟} أي: لِمَ أكون سيد النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ؟! {يَجْمَعُ اللهُ الأولينَ والآخرينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَسْمَعُهُم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون} ففي يَوْمِ القِيَامَةِ أهوال عظيمة لا تعد ولا تحصى، والذي يوجد في هذا الحديث من هذه الأهوال هو أحد ما ورد في ذلك، وإلا فهي كثيرة في القرآن، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى هذا اليوم بأسماء كثيرة منها: الحاقة والقارعة والواقعة، ثُمَّ في مواضع متفرقة من القُرْآن يعرض مشاهد يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلك لعظم الأهوال في ذلك اليوم وشدة الكرب.
      ثُمَّ يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون} في ذلك الموقف {حيث تكون الشمس عَلَى مسافة ميل، فمن النَّاس من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يبلغ إِلَى منكبه، ومنهم من يبلغ إِلَى سرته، ومنهم من يبلغ إِلَى حقويه ومنهم من يبلغ إِلَى ركبتيه}، موقف عظيم وعطش شديد وكرب وهول لا تكاد العقول تتخيله، فضلاً عن أن تتحمله، فحينئذٍ يضج الخلق أجمعون، ويبحثون عن مخرج وعن حيلة من هذا الكرب ومن هذا الموقف.
      {فيقول بعض النَّاس لبعض: ألا ترون إِلَى ما أنتم فيه} والنَّاس في ذلك الوقت في حيرة عن التفكير وشدة تذهلهم عن أي فكرة ورأي صواب، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكرم في ذلك اليوم، ويظهر فضل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جميع العالمين، ويظهر هذا الدين في ذلك اليوم، ويُصدق ما شهد وأخبر به الأَنْبِيَاء من قبل في ظهور هذا الدين، وظهور هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحقق له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما اختبأ وادخر لأمته.
      فإنَّ لِكُلِ نبيٍ دعوة مستجابة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختبأ وادخر دعوته لأمته يَوْمَ القِيَامَةِ كما صح ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خيَّره ربه في هذه الحياة الدنيا بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشَّفَاعَة، فاختار رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَة، وذلك لعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها أفضل وأجدى لأمته من أن يدخل نصفهم الجنة، وذلك من فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم حقه عَلَى أمته، فيكرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويظهر سيادته عَلَى النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ
      بأن يلهم النَّاس فيقولون: لم لا نستشفع إِلَى ربنا، ونطلب ممن لهم مكانة ومقام عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يشفعوا إِلَى الله ليفض ما نَحْنُ فيه من هذا الكرب ومن هذا الموقف العظيم، ويفصل بين النَّاس فيقولون: بمن نبدأ؟
      {فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوكم آدم} الذي خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بيده وفضله، لعله أن يشفع لنا عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَيَأْتُونَ آدم} ويثنون عليه ويذكرون منزلته عند الله رجاء أن يقبل في أن يشفع لهم.
      {فَيَقُولُونَ: يا آدمُ! أَنْتَ أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا، إِلَى ربك أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول آدم عَلَيْهِ السَّلام: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ} نعوذ بالله من غضبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُبارَزُ ويُحاَربُ ويُجَاهرُ بالمعاصي في هذه الحياة الدنيا، وتُرتكب المحرمات جِهَاراً وعلانية في أكثر الأرض والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْلُمُ عنَّا ويمهلنا ويؤخرنا إِلَى أجل مسمى، لكن في ذلك اليوم يشتد غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيغضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نسأل الله أن يجيرنا من غضبه، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك اليوم: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)) [غافر:16] ثُمَّ ينادي: أين الجبارون! أين ملوك الأرض! أين المتكبرون لمن الملك اليوم؟ فيخرسون ولا يجيب أحد لشدة ما هم فيه من الهول والكرب حتى يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ))[غافر:16] يجيب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نفسه، بل يُحشَر المتكبرون كما في الحديث الصحيح {يحشر المتكبرون كأمثال الذر يَوْمَ القِيَامَةِ} فيذهب الكبرياء، ويذهب الفخر، فلا ينفع مال ولا بنون ولا أحساب ولا أنساب ولا قرابات في ذلك الموقف، فيغضب الله غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أمم وأهلكهم، فأهلك قوم نوح، وأهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وأهلك قوم فرعون، وأهلك قوم لوط، ومع ذلك فإن غضبه يَوْمَ القِيَامَةِ أشد؛ لأنه ادخر العذاب الشديد، وأجله إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وأما من كَانَ من المؤمنين ولكنه عصى الله وبارزه وحاربه بالمعاصي، فإنه أيضاً حذَّر وأنذَّر في الدنيا، فيأتيه يَوْمَ القِيَامَةِ فيكون الغضب الشديد في ذلك الموقف الذي يخرسون ولا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون

      ثُمَّ يبين آدم عَلَيْهِ السَّلام عذره بقوله: {وإن ربي نهاني عن أكل الشجرة فعصيته} وهذه المعصية قد غفرت له عَلَيْهِ السَّلام قبل أن ينزل إِلَى هذه الدنيا، ولكن هذا الموقف لا يتقدم له إلا عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وآدم عَلَيْهِ السَّلام غُفِرَ له لكنه يقول: إني حينما أتذكر هذه المعصية لا أستطيع أن أشفع لكم {نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذَهبُوا إِلَى نُوحٍ} وهذا الترتيب حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فيتقدم نوح وهو أول الرسل من أولو العزم {فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ: يا نُوح أَنْتَ أولُّ الرسل إِلَى أهل الأرض} وهذا دليل عَلَى أن نوح عَلَيْهِ السَّلام هو أول الرسل لأن بني آدم كانوا عَلَى التوحيد عشرة قرون؛ حتى وقع الشرك في قوم نوح، وذلك بعبادة الصالحين، فانحرفوا فأرسل الله إليهم أول الرسل نوح عَلَيْهِ السَّلام كما أخبر بذلك حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس قَالَ: {وسماك الله عبداً شكوراً} ((إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً))[الإسراء:3] {فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول نوح: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ} يعيد ما قاله آدم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ يقول: {وإنه كانت لي دعوة دعوت بها عَلَى قومي} كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن لكل نبي دعوة} فدعوة نوح عَلَيْهِ السَّلام دعا بها عَلَى قومه فقَالَ: ((رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)) [نوح:26].
      وأمَّا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه اختبأ وادخر دعوته إِلَى هذا الموقف، وهذا من فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أمته، ثُمَّ يقول: {نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذَهبُوا إِلَى إبراهيم} فدلهم عَلَى أفضل الأَنْبِيَاء بعده في الزمن وهو إبراهيم أبو الأَنْبِيَاء وإمام الموحدين عليه وعلى نبينا وعلى جميع الأَنْبِيَاء أفضل الصلاة والسلام {فيأتون إبْرَاهِيْمَ، فَيَقُولُونَ: يا إبْرَاهِيْمُ، أَنْتَ نبي الله وخليله مِنْ أَهْلِ الأرضِ} اشفع لنا إِلَى ربك يا خليل الرحمان اشفع لنا إِلَى العزيز الجبار المتكبر، {أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول -كما قال الأَنْبِيَاء من قبله-: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ} نعوذ بالله من غضب الله عَزَّ وَجَلَّ، {وذَكَرَ كَذِباته} وهي لما قَالَ: ((بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)) [الأنبياء:63] وأشار إِلَى الصنم، وأنه هو الذي كسَّر الأصنام، ولما قال هذه أختي وهي زوجته، وهذه ليست في الواقع كذباً بالمعنى المعروف، وإنما هي تعريض وتلميح يفهم منه السامع غير الحقيقة وغير الواقع، فأتى إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام بما يبرر عندهم أنه ليس أهلاً لذلك الأمر.
      ثُمَّ قَالَ: {نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا،
      إِلَى موسى، فيقولون: يا موسى أنت رَسُول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه عَلَى النَّاس اشفع لنا إِلَى ربك ألا ترى ما نَحْنُ فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟} فيعيد موسى عَلَيْهِ السَّلام نفس المقالة: {إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإني قَتلتُ نَفْسَاً لم أُؤمر بِقتلِهَا} كما قال تعالى: ((فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ))[القصص:15] ثُمَّ يقول: {نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي} كما قال غيره من الأنبياء.
      ثُمَّ يقول: {اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى عيسى، فيأتون عيسى عَلَيْهِ السَّلام فيقولون: يا عيسى أنت رَسُول الله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه فاشفع لنا إِلَى ربك أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول لهم عيسى عَلَيْهِ السَّلام: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ولم يذكر -عيسى عَلَيْهِ السَّلام في هذه الرواية- ذنباً} ولكن في بعض الروايات يقول: (إني قد عُبدت من دون الله عَزَّ وَجَلَّ) فكأن ذلك يمنعني، وما ذلك إلا لكي يتأخر.
      ويتقدم الشفيع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يقول: {اذَهبُوا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يا مُحَمَّد أَنْتَ رَسُول الله وخاتم الأنبياء، غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقدمَ من ذَنْبِكَ وما تَأخر، فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
      } يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فأَقُومُ فآتي تحت العَرْشِ} وفي الرواية الأخرى يقول: {أنا لها أنا لها} حينما يتخلى ويتأخر الجميع يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا لها أنا لها} هذا هو المقام المحمود العظيم الذي يختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره من الناس، ثُمَّ يقول: {فأَقُومُ فآتي تحت العَرْشِ فَأَقَعُ ساجداً لربي عَزَّ وَجَلَّ} فالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشفع إِلَى ربه بهذا العمل فإن {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} فيسجد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ، يقول: {ثُمَّ يفتح الله علي ويُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسنِ الثناءِ عليه ما لم يفتحه عَلَى أحد قبلي} فثناء العبد عَلَى الله موجب أو سبب لحصول الخير والفضل.
      فعند ذلك يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشفَّعْ} وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإكرام، حتى إن الخلق جميعاً يفرحون أنَّ الله تَعَالَى قد شفَّع فيهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا رَبِّ أُمتي أُمتي} كل الأَنْبِيَاء يقولون: نفسي نفسي إلا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يقول: {يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء النَّاس فيما سواه من الأبواب}.
      وقد جَاءَ في الحديث المتفق عليه أنهم سبعون ألفاً، وصح في الحديث الأخر: أن مع كل واحد سبعون ألفاً من أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهَؤُلاءِ يدخلون الجنة من باب خاص من المصراع الأيمن يكرم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك ويرى النَّاس ذلك.
      وهذه الطائفة من أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هي آخر الأمم فيدخلون الجنة قبل الحساب، وقبل أن تنصب الموازين، وقبل أن يفصل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين العباد
      .
      ثُمَّ يقول: {وهم شركاء النَّاس فيما عداه من الأبواب، والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مَصَارِيعَ الجنَّة كما بين مَكَّةَ وهَجَرَ أو كما بين مَكَّةَ وبُصْرَى} وهذا من سعة الجنة وسعة مصارعيها، وفي الحديث أن الكلام عَلَى الأكل سُنَّة، وليس كما يزعم النَّاس من أن الكلام عَلَى الطعام من قلة الأدب، ويقولون: لا كلام عَلَى طعام.