حديث: (البذاذة من الإيمان)
قال رحمه الله: [وقال أيضاً: ( البذاذة من الإيمان )]. وهذا حديث صحيح، والبذاذة تواضع خاص في شيء واحد وهو المظهر أو اللباس، بأن يكون الإنسان غير مبالٍ، أولا يعطي الأهمية التي يعطيها كثير من الناس لمظهرهم أو لملبسهم، وليس المقصود النظافة فقط، وإنما المقصود أن بعض الناس يزيدون على الحد الذي هو مما يتعارف عليه الناس، يزيدون على ذلك اهتماماً أكثر بالمظهر وبما يسمى (الأناقة) وغير ذلك، وله الآن في هذا الزمان أسماء واصطلاحات شيء عجيب جداً، حتى جعلوا لكل زيارة لباساً، ولكل نوع من الناس استقبالاً، فرتبوا أموراً أضاعوا فيها الأوقات والأموال والأعمار، وكل ذلك لأنهم يهتمون بالمظهر ويتركون المخبر، أما كون البذاذة من الإيمان؛ فإن هذا يدل على تواضع الإنسان مع أنه نظيف، والمؤمن دائماً نظيف في مخبره ومظهره بحسب الطاقة والإمكان، ومع ذلك فإنه يتسم بالتواضع، ولا شك أن بعض اللباس دليل على الكبر والعياذ بالله، مثل من يسبل إزاره، فهذا من طبع المتكبرين، حتى لو قال أحد: أنا لا أنوي الكبر، لكن هو طبعهم وشأنهم وحالهم، وقد جاء في الحديث الصحيح: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر ) فيكون جزاؤه من جنس عمله، فإنه كان في الدنيا يتطاول على عباد الله، يشمخ فوقهم بأنفه، ويرى أنه فوق هؤلاء جميعاً، وفي الحقيقة ليس شيئاً من ذلك، فيوم القيامة يحشرون على أمثال الذر يطؤهم الناس نكاية بهم، وعقوبة لهم، وزجراً لمثل هذا العمل، وفي المقابل المؤمن لا يكون كذلك، وإنما يكون متواضعاً مع النظافة، وهذا من فضل الله ورحمته تبارك وتعالى، فإن هذا الدين وسط في كل أموره، لكن اليهود صفتهم الكبر، وإلى الآن في كل الأزمان اليهود طبعهم الكبر، فهم أذل وأحط الشعوب، ومع ذلك يتكبرون كبراً عجيباً، ويرون أنهم شعب الله المختار، وأن بقية العالم إنما هم كالحمير خلقهم الله ليخدموا اليهود، فهذه عقيدة اليهود، قال تعالى مبيناً ذلك: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18]، وقال: (( ذَلَكِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))[آل عمران:75]، أي: أن أموال وأعراض العرب حلال لهم، فشدد الله تبارك وتعالى عليهم العقوبات، بل وبعضها شددوا بها على أنفسهم، ويظنون أنها من النظافة، وليست من النظافة وإنما هي عقوبة الله أو من تشديدهم على أنفسهم، فإذا وقعت النجاسة في ثوب أحدهم فإنه يقرضه بالمقراض، أي: يقصه ولا يغسله، والحائض لا يجلسون معها في البيت ولا يؤاكلونها ولا يشاربونها حتى تطهر، ويظنون أن هذا من النظافة. وفي المقابل النصارى لا يحترزون من النجاسات ولا يتنظفون، فيدخلون كنائسهم يتعبدون وهم بمنتهى النجاسة أو القذارة أياً كانت وإن تطيبوا وتنظفوا فهذا للمظهر فقط ليس تديناً، ويفتخر الرهبان النصارى بتاريخ النصرانية عندما يذكرون أعمالهم وسيرهم، ومما يفتخرون به أن الراهب فلان بقي أربعين سنة لم يمس الماء جلده! إنها قذارة وأي قذارة! فجاء الله تعالى لهذه الأمة بالدين الوسط كما بين ذلك صلى الله عليه وسلم، فهو يجمع بين النظافة وبين التواضع، وليس فيه الأصرار والأغلال التي كانت على من قبلنا، فالمؤمن يتطهر ويتنظف، يغتسل لكل جمعة -يتطهر لكل صلاة- ثم يلبس اللباس الحسن، حتى إذا مات فإنه يكفن بملابس حسنة، والمقصود أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا هذا الدين الوسط ولله الحمد، فالبذاذة لا تعني ما عليه الرهبان من القذارة والوساخة وسوء المظهر، وما عليه المتكبرون وأهل الدنيا وأهل الترف الذين يلبس الواحد منهم الثوب أو العمامة مرة واحدة ثم يرميها، فهؤلاء أشبه ما يكونون باليهود الذين إذا وقع في ثوب أحدهم النجاسة قصوه أو رموه، وهذا غلو، والمؤمن ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء، وإنما يجمع بين النظافة وبين التواضع وترك التكبر والتفاخر بالمظهر، والمقصود من ذكر الحديث هنا: أن هذا العمل من الإيمان، وقد أرشدنا كتاب الإيمان من صحيح البخاري إلى مثل هذا، فيوجد فيه مثل هذا وأكثر، فتجده مثلاً يقول: اتباع الجنائز من الإيمان، إكرام الضيف من الإيمان، صلة الرحم من الإيمان، قيام رمضان من الإيمان، وأعمال كثيرة من الإيمان في تراجمه، ثم يأتي بأحاديث دالة على أن هذه الأعمال من الإيمان، فما ذكره الشيخ هنا هو جزء وامتثال فقط لهذا.