المادة    
ثم يقول عبد الجبار: "وبعد فلو جاز الخلف في الوعيد لجاز في الوعد"، الشبهة الأخرى للمعتزلة هي القياس، وأول من قاس إبليس؛ وهذا القياس من القياس الفاسد، فـالقاضي عبد الجبار يزعم أنه لو جاز الخلف في الوعيد، لجاز أن يعد الأبرار والشهداء والصديقين والأنبياء بالجنة ولا يدخلهم؛ فما دمتم قد قلتم: إنه يجوز أن يوعد بعض العصاة والمذنبين ولا يدخلهم النار، فكذلك يجوز أن يعد بعض المؤمنين ولا يدخلهم الجنة! وهذا قياس باطل فاسد.
يقول: "لأن الطريق في الموضعين واحدة، فإن قال: هناك فرق بينهما؛ لأن الخلف في الوعيد كرم، وليس كذلك في الوعد، قلنا: ليس كذلك؛ لأن الكرم من المحسنات -أي من الأمور الحسنة- والكذب قبيح بكل وجه؛ فكيف تجعله كرماً؟!"
وهذا كلام بيِّن التهافت، فنقول: إن كان الكرم قد اتفقنا على أنه أمر حسن، وتكرم الله تعالى به على أحد، فمن أين يتطرق إليه الكذب؟! هذا من عندك، فأنت جعلته كذباً مع أنك جعلته حسناً وكرماً، وهذا لا يليق، بل هو واضح البطلان.
قال: "أو يقول -أي المخالف-: إن الله تعالى وعد وتوعد ولا يجوز عليه الخلف والكذب، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط واستثناء لم يبينه الله تعالى".
وهذا ما تحدثنا عنه سابقاً، وهو القول بأنهم يقولون: نحن لا نكفر مطلقاً، إلا في إحدى حالتين: الأولى: من أنكر الوعد والوعيد، الحالة الثانية: من أنكر العقاب مطلقاً مع إثبات الوعد والوعيد، أما من قال: إن الله لابد أن يعاقب، لكن لعل له شرطاً أو استثناءً لا نعلمه فإنهم يقولون عنه: إنه مخطئ؛ أي: أنه ما كفر لكنه مخطئ، وهذا في غاية الضلال، وما أعجب ما يقوله هؤلاء! ومن عجيب أقوالهم في هذه المسألة ما نقل عن أبي هاشم الجبائي: يقول أبو هاشم الجبائي في مسألة وقوع العقاب: "إنه لابد من العقاب، وإنه يجب على الله أن يعاقب كل المذنبين. يقول: لأن القديم تعالى -هم يسمون الله تعالى بالقديم، وليس القديم من أسمائه عز وجل، بل هو الأول- خلق فينا شهوة القبيح، ونفرة الحسن، فلابد أن يكون في مقابلته من العقوبة ما يزجرنا عن الإقدام على المقبحات، ويرغبنا في الإتيان بالواجبات".