أما أن هؤلاء المرجئة تقبل روايتهم فهذا شيء آخر؛ لأننا لو تأملنا حقيقة ما يهدف إليه علم الرجال، وما أراده السلف الصالح من هذا العلم بالنسبة للأحاديث فإننا نجد أن الشرط الأساس الذي يجب أن يتوفر في الإنسان وعليه يقبل حديثه هو الصدق، أما ما يتعلق بغير ذلك كأن يكون مخطئاً أو متلبساً بشيء من البدع ولكنه يصدق فإنهم يأخذون حديثه ويردون بدعته، ولذلك فإن عمر بن حطان الخارجي الشاعر المشهور الذي رثى وأثنى على عبد الرحمن بن ملجم قد روى له البخاري رحمه الله، وغيره كثير من الأئمة الثقات كـمسلم وأحمد وأبو داود الذين يروون لمن تلبس بمثل هذه البدع.
ومن تأمل الخوارج يعرف من حالهم أنهم لا يكذبون لأنهم يرون من يكذب كافراً، ولأن أحاديثهم محصت فوجدت صحيحة، فيؤخذ حديثهم وترد بدعتهم، هذا هو الأصل. أما البدع التي يكذب أهلها كـالرافضة فقد نص العلماء على أن الروافض أكذب الناس فلا تقبل روايتهم، ولذلك إذا قيل: فلان رافضي فإنه لا تقبل روايته، لكن إذا قيل: فلان كان يتهم بالإرجاء أو كان يميل إلى الخوارج ، فهذا يقبل إذا علم صدقه وضبطه وإتقانه، فالغرض هو التأكد من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا، وهذا يعلم بصدق الراوي وضبطه وإتقانه، وأما ما فيه من البدعة ولم يكن داعياً إليها وإنما وقع فيها فهذا لا يكاد يسلم منه أحد، بل ربما كان بعض مرجئة الفقهاء دعاة إلى بدعتهم، ومع ذلك يقبل بعض حديثهم، ولكن بشروط أخرى غير مسألة صحة عقيدته أو التلبس ببدعة.
فإذاً: أهل الإرجاء عموماً مذمومون وإن قبل حديثهم فليس ذلك تزكية لعقيدتهم، فالبدعة بدعة ولا تقبل من أي أحد كان، ولكن استيفاء شروط قبول الرواية لا يقدح فيها ألا يكون متلبساً بهذه البدعة، وهذا هو الذي عليه عمل أئمة هذا الشأن.
وهذا من باب العدل الإنصاف، فإننا لو تركنا رواية الصادق الثقة؛ لأنه أخطأ في مسألة فوافق فيها بعض أهل البدع، ولا يرى أنها من البدع، وما قامت عليه الحجة، ويرى أنه على الحق وعلى السنة لكان ذلك خطأ منا وظلماً وتعدياً، ولخسرنا شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت وصح النقل به، فالعدل أن نأخذ ما ثبت، ولكن لا نأخذ من المبتدع بدعته؛ لأن البدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة )، ولكن ربما كان المبتدع معذوراً في خطئه، فنحن نأخذ صدقه، وأما خطؤه فأمره إلى الله إن كان معذوراً عند الله عز وجل عفا عنه، وإن كان غير ذلك فيجازيه الله بما أخطأ، ونحن علينا أن نبين ما أخطأ فيه من الوقوع في البدعة من جهة، ولا نرد الحق الذي جاء به إذا تأكدنا من صدقه وضبطه وإتقانه.
ولهذا نجد علماء السنة كما في كتب الرجال لا تناقض لديهم بين أن يقولوا: إن فلاناً ثقة ويصححون حديثه، وبين أن ينسبوه إلى التلبس بشيء من هذه البدع، لكن بشرط لا تكون بدعته مغلظة، وألا يكون رأساً في الضلالة، وهذا من حسن ظنهم، لا سيما إذا كان المبتدع ذا علم وعبادة واجتهاد، أو قلد واتبع، وكل إنسان يمكن أن يقلد فإذا قلد يمكن أن يخطئ وأن يقع فيما لا يجوز أن يقع فيه مثله، لكن من علم الحق وبلغه نور الوحي واستضاء به لا يجوز له أن يقره على ذلك ولا أن يقلده، وأما هو في ذاته فربما كان معذوراً، إذ قد يخفى بعض الحق على بعض الناس وإن اجتهد في طلبه وتحراه، فكيف بمن لم يبلغه من الحق إلا ذلك وتربى ونشأ عليه.