وعلى هذا فأهل الكلام في نظر الأشاعرة هم أهل العقيدة، وقد قدر أهل الكلام الأشعرية في كتبهم مسألة الإرجاء، ووقعوا فيها، وكان ذلك نتيجة لجدل من تقدمهم من المرجئة من أهل الكوفة أو الفقهاء في إنكارهم أن الإيمان يزيد وينقص، أو يركب ويتبعض أو ما أشبه ذلك، ففتحوا الباب للمتكلمين الذين أتوا بأدلة جديدة وكان المرجئة الفقهاء يذكرون أدلة نقلية أو لغوية، أنه لو كان كذا لكان كذا، ولعطف الإيمان على العمل، ولأن الكفر هو التكذيب والإيمان هو التصديق وما أشبه ذلك ولا يتعدون.
ولما دخل علم الكلام ونقل عن الفلسفة اليونانية جاء وأصل وقرر هذه المسألة تقريراً مختلفاً تماماً وذلك عن طريق ما يسمونه بعلم المنطق اليوناني، وهو لا يستحق أن يسمى علماً إلا تجوزاً ومجاراة وتنزلاً.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا العلم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد، وهذا العلم نشأ في بلاد اليونان بسبب ظرفي ذاتي في تلك البلاد ولا تحتاجه الإنسانية جميعاً، وإنما لوجود طائفة ممن ينكرون حقائق الأشياء ويشكون في كل شيء، أو يوردون احتمال الشك على كل شيء، ويسمون السفسطائين أو أهل السفسطة، أي: الجدل والشك في أي شيء وإنكار الحقائق، فجاء أرسطو ومن معه كـفرفويوس وغيره فرتبوا وقعَّدوا هذه القواعد البدهية جداً ليردوا على هؤلاء ويثبتوا حقائق الأشياء، فقسموا التقسيمات المنطقية المعروفة: الجنس والنوع والفصل والخاصة، وجعلوها قواعد يستطيع الإنسان أن يصنع بها الحد الذي هو التعريف أو المميز، فهو علم أو قواعد وضعت في بيئة خاصة إن نفعت فإنها تنفع أولئك القوم، أو تنفع في الرد على من وضعت للرد عليه لا أكثر من ذلك، والمسلمون أخذوه مع أن هذا الأخذ لا يجوز؛ لأنه مخالف لأصول العقيدة، ولكنهم فعلوا ذلك في زمن المأمون الذي ظن أنه بإنشاء دار الحكمة قد بنى صرحاً حضارياً علمياً وثقافياً -كما يقال اليوم أيضاً-، فيأخذ عن اليونان هذه العلوم، ونشأ عنها ضلال كبير، ولم يقف الأمر عندما نشأ عن المنطق من إفساد للذوق العربي، ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال فيما نقله عنه ابن رجب في كتابه: فضل علم السلف على علم الخلف: (ما فسد الناس أو ما فسدت عقولهم إلا عندما تركوا منطق العرب وأخذوا منطق أرسطو طاليس ) فمنطق العرب هو الفطرة السهلة الواضحة التي لا تحتاج إلى تعقيد ولا إلى تكلف، وتوصل المعلومة والرد عليها بأيسر طريق وأوجز بيان، فلما ترك المسلمون ذلك وانصرفوا عنه إلى ما قرره اليونان ظلوا وانحرفوا وفسدت عقولهم وفطرهم، فلم يتوقف الفساد عند هذا الحد وإنما ظهر من يقرر أنه أساس جميع العلوم، فـأبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه المشهور: أصول الفقه وهو المستصفى يقول: إن من لم يتقن المنطق ويتعلمه فلا ثقة في علمه مهما تكلم، وقد رد عليه الإمام ابن الصلاح رحمه الله والنووي وغيرهما من العلماء الذين أنكروا ذلك، ولهذا جاء في منظومة المنطق السلم المنورق :
ابن الصلاح والنووي حرما                        وقال قوم ينبغي أن يعلما
ولكن الذي صار عليه أكثر الأمة اعتماد هذا العلم حتى أصبح مقدمة لأصول الفقه، فيرغمون طالب الأصول أن يتعلم المنطق ثم يتبعه بأصول الفقه، وحينها أصبح مفتاحاً لمفتاح الفقه، وهذا المنطق لا حاجة لدراسته، وقد كان سبباً في نقل الخلاف والجدل من شبهات نقلية أو عقلية كما يلاحظ في مسألة الإيمان إلى جدل منطقي يتكلم عن ماهية الإيمان، وكيف نعرف حقيقته، وكيف ننفيه من الأمور العرضية التي ليست من حقائقه وتتدرجت بهم الأمور حتى اعتبروا أن العمل هو عرض من الأعراض، أما ذات الإيمان فهو التصديق، فوصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه من قول المرجئة الفقهاء لكن بطريقة أخرى وبأسلوب منطقي طويل ومعقد، وأصبحوا لا يستدلون بالنصوص، بل يستدلون بالقواعد المنطقية، فلا ريب أن ما قاله المرجئة الفقهاء أصبح فعلاً ذريعة لأهل الكلام المذموم.
فتحقق أن الاستدلال في هذا المذهب انتقل من الاستدلال باللغة أو ببعض الأدلة النقلية الشرعية إلى استدلال منطقي بحت، والنتيجة واحدة، والذي أوصل هؤلاء إلى هذه النتيجة هم المرجئة الفقهاء ؛ لأنهم يظنون أنهم بهذا الترتيب العقلي يؤصلون منطقياً ما قرره أولئك نظرياً أو استدلالاً ببعض النقول.