ثم ذكر أهل الكتاب؛ لأنه إذا كان الغالب والأظهر في تكذيب فرعون وأمثاله من الكبراء هو الكبر والاستكبار وحب المنصب، وأن يتعالى على خلق الله، ويدعي الألوهية، ويخر له الناس ساجدين، ويعتقدون فيه الباطل، فإن أهل الكتاب لهم شأن آخر، وكفر أهل الكتاب له سبب آخر وإن كانا يلتقيان، ألا وهو: الحسد، قال تعالى: (( حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ))[البقرة:109]، فأهل الكتاب حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسدوا هذه الأمة، ولا يودون أن ينزل الله تبارك وتعالى عليها من خير، وما كانوا يريدون ولا يحلمون ولا يتوقعون أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان من غيرهم، فقد كانوا يطمعون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، والقضية ليست أنه لو كان منهم لآمنوا به، أوليس المسيح عليه السلام منهم وكفروا به! بل وكفروا بغيره؟! لكن يريدون عذراً ومبرراً ومسوغاً، فعندهم نوع من الفرعونية من جهة أنهم أصبحوا أصحاب ملك وإن كان ليس ملكاً دنيوياً ظاهراً لكنه عظمة وملك، واستكبار من جهة الدين والعلم، فالناس يجلونهم ويعظمونهم ويقدرونهم؛ لأنهم أئمة الكتاب ولديهم العلم به، وهم الذين استحوذوا عليه، ففي أوروبا مثلاً لم يكن هنالك من يتعلم القراءة والكتابة مطلقاً إلا من يريد أو يراد له أن يصبح قسيساً فقط، أما علم غير ذلك فلا يمكن، فاحتكروا الكتاب، واحتكروا التعليم، واحتكروا تفسير كلام الله تبارك وتعالى، فهم يريدون أن يظل ذلك محصوراً فيهم، والناس ابتداءً من الإمبراطور في الدولة إلى عامة الناس يعظمونهم من أجل هذا الكتاب، ومع ذلك فإن الكفر والطغيان والحسد والبغي يغلب عليهم، فيقولون: (( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ))[الأنعام:91]! وهذا الرسول باطل، وليس هو الذي أخبرنا الله تبارك وتعالى عنه، أو وعدنا به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى سجل عليهم هذا بقوله: (( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146]، أي: يعلمون أنه الحق، وما كان أحد من اليهود يشك في هذا أبداً، بل كان اليهود -كما ذكر الله تبارك وتعالى في الآية الأخرى- يستفتحون على الذين كفروا، والاستفتاح: هو طلب النصر أو التوعد بالنصر، فيقولون: سوف يأتي نبي آخر الزمان وينصرنا الله به عليكم، ونقاتلكم ونفعل بكم كذا وكذا، فهم كانوا يتوقعون ظهوره، وأنه إذا ظهر فإنهم سيسبقون إليه وينتصرون به على العرب الذين كانوا وثنيين، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ))[البقرة:41]، وهم أصبحوا أول كافر به، بل أعظم كافر كفر به، ونشر هذا الكفر وألب العرب الوثنيين، وتعاون مع من يعبدون الأصنام والحجارة لوأد هذا الدين كما في قصة الأحزاب وفي غيرها، بل فضلوا هذا الدين الباطل الوثني على ما جاء من عند الله تعالى، فقالوا: (( هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ))[النساء:51]، فبلغ بهم الحسد إلى حد أنهم يفضلون دين الأوثان ودين الشرك على ما جاء من عند الله تبارك وتعالى! مع أنهم يعلمون قطعاً أنه من عند الله تعالى ولا مرية ولا شك عندهم في ذلك، وهذه أخبارهم مستفيضة في السير وفي غيرها بأنهم كانوا يعلمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبشرون به، وحتى هذه اللحظة لا يزال أهل الكتاب يكتمون الحق وهم يعلمون، بل ويلبسون الحق بالباطل كما ذكر الله تبارك وتعالى في غير ما آية، ومنها: ما ذكره في سورة آل عمران في معرض مجادلة وفد نجران ، واليوم في الفاتيكان وفي دولة فلسطين المحتلة وكذلك في الحبشة وفي غيرها لديهم المخطوطات والكتب القديمة المصرحة باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تبارك وتعالى عن عيسى عليه السلام: (( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ))[الصف:6]، فمذكور في هذه الكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، وبعضها مذكور مترجماً، أي: أحمد أو محمد، وبعضها مذكور بالنص القديم: (الفريقليط) أي: الكثير الحمد المحمود كثيراً، مع أننا نجد أن ما في كتبنا عن أهل الكتاب من اليهود و النصارى منشور مقروء يستطيع أي إنسان أن يطلع عليه، وليس لدينا أسرار -لأن ديننا هو الحق- نخشى أن لو خرجت لفضح ديننا وكذب ما ندعو إليه، وتبين أن علماءنا من أولهم إلى آخرهم -مثلاً- متواطئون على الكذب والعياذ بالله، لا، فليس لدينا هذا والحمد لله، أما هم فلديهم كتب خاصة لا يطلع عليها إلا خاصتهم في أكثر الأماكن التي ذكرنا، ولذلك خاصة في الفاتيكان يحرصون أشد الحرص على أن لا يخرج شيء من هذه الكتب، ولا يقع في أيدي المسلمين، ولنفرض أن المسلمين ما قرءوه ولا رأوه ولا احتجوا به، فماذا تقولون أنتم لأنفسكم؟ وما تقولون لربكم؟ ثم ألستم أنتم عندما تقرءون هذا الكلام تعلمون أن دينكم باطل، وأن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق؟
إذاً لو كان لديهم ضمير وإحساس بأن الله سبحانه وتعالى سيسألهم عما رأوا من البنيان لما سكتوا هم في أنفسهم، ولذلك نجد أن بعضاً منهم يسلم سراً ولا يريد أن يظهر إسلامه، وسيظهره الله عز وجل، لكن لكل أجل كتاب، فلا بد أن تظهر هذه الحقائق بإذن الله مهما كتموها وأخفوها وتواطئوا على إخفائها، فهذا من أكبر الباطل أن يتواطأ علماء دين من الأديان على إخفاء الحق المكتوب في هذه الكتب، وفي الأناجيل المنشورة التي تتداول بين الناس وتترجم إلى آلاف اللغات، ومع كل ما قاموا به من طمس وحذف فإن فيها إشارات إلى هذا، وما قد سمعتموه أو رأيتموه من كلام الداعية أحمد ديدات رحمه الله أو جمال بدوي أو غيرهما مما يلزمون به الغربيين إلا شيء من ذلك، ففي نفس الأناجيل الموجودة الآن المتداولة ما يدل على أنهم فعلاً يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فكروا وعقلوا لعلموا أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأن دينه هو الحق، ومن ذلك قولهم عندما أتى رسل المسيح عليه السلام أو تلاميذه إليهم فقالوا له: هل أنت الذي ذكر في الكتب القديمة؟ فقال المسيح: لست هو، ثم -مع أنه موجود في الأناجيل- ولو أنني أدركته لحللت سيور نعليه وغسلت قدميه. على اختلاف في العبارات، أي: أن المسيح عليه السلام يقول: لست أنا الذي بشر به الأنبياء: أشعياء وحزقيال وغيرهم ممن له نبوءات قديمة، ولو أني أدركته لحللت سيور حذائه أو سيور نعليه وغسلت قدميه، إذاً فعيسى عليه السلام يقول: أنا أتشرف أن أدرك الذي بشر به الأنبياء السابقون، ولو أدركته لخدمته، فهل جاء أحد بعد عيسى عليه السلام بدين، أو بقرآن، أو بنور مبين، أو بوحي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا أحد، ثم من الذي جاء وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يطلع على شيء، ولم يكن يتلوا قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه لئلا يرتاب المبطلون كما بين الله سبحانه وتعالى؟ مع ذلك جاء أهل الكتاب بأخبارهم هم: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))[النمل:76]، حتى الذي كان بنو إسرائيل يختلفون فيه من أحكام وأمور وأخبار -قد قص الله تبارك وتعالى في القرآن الحق، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحق فيها، مع أن فرقهم كانت تتقاتل عليها قتالاً عنيفاً مريراً شديداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بها.
إذاً كيف يمكن لأمي أن يأتي بهذا إلا وهو رسول من عند الله تبارك وتعالى؟! ولذلك قصة سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وأرضاه وغيرها فيها شواهد كثيرة، إذ إنه كان يوصي منهم السابق باللاحق حتى انتهى الأمر إلى آخرهم، فأوصاه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يصدق الحديث الذي هو صحيح ثابت لا شك فيه: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب )، أي: بقايا أفراد في الصوامع مترهبون معزولون عن الناس، ومن هؤلاء البقايا من أدركهم سلمان رضي الله تعالى عنه، فقال له آخرهم: قد آن أوان نبي آخر الزمان، وسوف يخرج في أرض ذات نخل بين حرتين، وبين كتفيه خاتم النبوة، وذكر العلامات الأخرى والتي منها: أنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، ويسبق حلمه غضبه، ويقابل الجهل بالحلم، وكثير من صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت من الوضوح إلى حد أنه جاء في أخبار السير: أنه لما قدم المدينة صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يزال هو والصديق رضي الله عنه يحول بينهما السراب، فخرج أحد أحبار اليهود وصعد على الربوة في قباء، والراكبان لا يكاد يراهما إلا من كان قوي البصر، فقال اليهودي قبل أن يعرفهما أحد: يا بني قيلة يا بني قيلة -وبنو قيلة هم الأوس والخزرج- هذا صاحبكم. فهم ما كانوا قد عرفوه ولا رأوا من هو النبي صلى الله عليه وسلم ولا يزال بعيداً، ولذلك فهم يعرفون أنه سيهاجر، وأنه سيأتي من هذا المكان، وأنه سينزل في مكان كذا، فلديهم خبره صلى الله عليه وسلم تفصيلاً، ومع ذلك ما عادى هذا الدين في تاريخه الطويل كله أحد أشد عداوة منهم، وفي كتاب الله سبحانه وتعالى الحديث الطويل عنهم الذي لا يستأثر غيرهم بمثله، ففي سورة البقرة تبتدئ الآيات من أول السورة بعد أن قسم الله سبحانه وتعالى الناس ثم ذكر قصة آدم عليه السلام، بـ: (يا بني إسرائيل …)، ويتحدث عنهم وعن كفرهم وعن تكذيبهم إلى ما شاء الله، وآل عمرن إنما أنزلت فيهم، فصدرها كله فيهم، ثم في سورة النساء، ثم في غير ما آية في غير ما سورة من الطوال ومن غيرها تتحدث عن أهل الكتاب وعن كفرهم وعنادهم وكذبهم.