هذه اللوازم التي ذكرها المصنف رحمه الله يلزم بها
الجهم بن صفوان و
الصالحي -في الأصل- ومن معهم من الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، ويلحقهم في ذلك
الأشعرية و
الماتريدية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي! وفي الحقيقة لا فرق واضح بين مجرد المعرفة ومجرد التصديق القلبي لدى العقلاء، وإنما يتبين الفرق بأعمال القلوب وبأعمال الجوارح، ولهذا احترز بعضهم فقال: إن الأمر ليس مجرد التصديق القلبي، أي: اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر، وأن المخبر صادق، بل زادوا على ذلك الإذعان حتى لا يلزموا بما ألزم به
جهم ، فيقولون: نحن نشترط الإذعان، لكنهم جعلوا الإيمان والإسلام محلهما القلب، وكل ذلك في حدود التصديق القلبي، وزادوا عليه نسبة من الإذعان والانقياد القلبي، وليس العمل وفعل ما أمر الله تبارك وتعالى به من الأوامر، إذ إن العمل الذي عندهم قال فيه صاحب
الجوهرة: والإسلام اشرحن بالعمل. أي: الإذعان والانقياد لعمل ما أمر الله -هكذا فسروه- وبالتالي فهذا الإلزام وارد للجميع، فهم يلزمون بما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه من أن هذه الطوائف تعتقد وتعرف الصدق، فهي تصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء في شعر
أبي طالب أكبر دليل على ذلك.فالطائفة الأولى: ذكر رأس الكفر في الدنيا، وأكبر طاغوت أفاض القرآن والسنة في الحديث عنه، بل أكثر من تحدث وأخبر عنه الله تبارك وتعالى في كتابه عن كفره وعناده فرعون عليه لعنة الله تعالى، فقد كان يعلم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ولهذا خاطبه موسى عليه السلام بذلك فقال: ((
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ ))[الإسراء:102]، أي: الآيات التي أتيتك بها، والأقوال والعقائد التي أدعوك إليها: ((
إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ))[الإسراء:102]، أي: مخذولاً، وإلا فهو يعلم في قرارة نفسه أن ما جاء به موسى وهارون عيهما السلام حق، وهذه قاعدة ليست فقط مع موسى عليه السلام ومع فرعون، بل مع كل من دعا إلى الله تعالى، إذ إن سبب كفر الكفار هو الاستكبار والعناد والبغي والحسد وما أشبه ذلك، وإلا فالجميع يعلم في قرارة نفسه أن الرسل صادقون، وأنهم غير كاذبين، وما بعث الله تبارك وتعالى عبداً إلى قوم من الأقوام إلا وهو من خيرتهم وأفضلهم وأكثرهم أمانة، وممن يجمع كل العقلاء في هذه الأمة على أنه غير كاذب، وأن ما يأتي به وما يقوله هو الحق من عند الله، لكن الذي يمنعهم هو الكبر، ولهذا أكثر من يتبع الأنبياء والرسل هم الضعفاء وما يسمون أراذل القوم، وأكثر من يرفض دعوة الرسل الملأ المستكبرون، وبالتالي ليست المسألة خفاء الحق أو عدم وضوحه، إنما المسألة أن هؤلاء الملأ المستكبرين يفقدون مناصبهم، ويفقدون أبهتهم، ويفقدون ترفهم، ويفقدون قيمة مكانتهم في نظرهم -وهذا حق إلى حد ما بالنسبة للحياة الدنيا- إذا اتبعوا دعوة الله وآمنوا بدين الله، لأن هذا الترف وهذا الهيلمان قائم على باطل، ودعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تذيب هذا الباطل وتكشف زيغه وتوضح بطلانه فإذا انهار هذا الباطل بقوا بشراً كسائر البشر ليس لهم أي ميزة، لكن إذا ردوا دعوة الرسل -كما يبدوا لهم- وأظهروا للناس أنهم فعلاً جديرون بأن يظلوا محتفظين بهذه المكانة، فهذا في نظرهم هو الموقف الذي يجب أن يتخذوه، ولهذا تكررت مواقفهم: ((
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ))[الذاريات:53] وفي الحقيقة ما تواصوا، وما أوصت أمة أمة تأتي بعدها: إن جاءكم رسول فكذبوه، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، أي: الطغيان هو القاسم المشترك بينهم، وهذا شأنه وحاله في أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان من أنه لا يقبل الحق، بل يرده ويرفضه وهو يعلم أنه حق، وكذلك كان فرعون، وكذلك كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ))[فصلت:43]، أي: كل ما يقال لك من تكذيب أو رد أو جحود أو اتهام أو طعن فقد قيل للرسل من قبلك، إذ إنه لا جديد فيه، وهكذا تتكرر الدعوى.إذاً هؤلاء المستكبرون الذين يردون الحق في كل زمان ومكان، ويكفرون بآيات الله، يعلمون في قرارة أنفسهم أنه حق، قال تعالى: ((
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ))[النمل:14]، أي: استيقنت أنفسهم بهذه الآيات، وعلموا أنها من عند الله، ومع ذلك كابروا وماطلوا، ولهذا في كل مرة يعاهدون الله سبحانه وتعالى لئن كشف عنهم العذاب ليؤمنن، وبعد أن يكشف الله سبحانه وتعالى عنهم العذاب يرجعون، وهذا ليس فقط في عذاب الدنيا، وما سلطه الله تبارك وتعالى عليهم من الجراد والقمل والدم والضفادع وغير ذلك مما عذبهم به الله تبارك وتعالى، بل حتى لو رأوا العذاب الأخروي -الذي هو حقيقة العذاب ومنتهاه- لعادوا لما نهوا عنه، قال الله تبارك وتعالى: ((
وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ))[الأنعام:28] سبحان الله! فانظروا كيف تأصل الكفر والكبر في قلوبهم، بل حتى لو أنهم دخلوا النار وذاقوا العذاب وبقوا فيه ما شاء الله لهم، ثم تضرعوا إلى الله، وعاهدوه: إن أرجعتنا ورددتنا إلى الدنيا فلا نكفر ولا نكذب ولا نجحد، بل نؤمن ونكون من الصالحين، كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم في غير ما آية، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ((
وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ))[الأنعام:28]، بل يجحدون آيات الله سبحانه وتعالى، وربما قالوا: إن ما كنا فيه ليس هو عذاب جهنم، وليس هو عذاب الآخرة! بل ربما قالوا: سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التكذيب والترف واللهو حتى يأتيهم العذاب مرة أخرى، فهذا شأن الكفار جميعاً، ففرعون هو النموذج الطاغوتي البارز، وكل من حذا حذوه.