المادة    
من المسلم به أن الله لا يفعل القبيح، وأنه عليم بالقبيح وغني عنه، لكن الاعتراض والخلاف في: هل العفو عن المجرم قبح؟
لقد كان معروفاً عند العرب أن الإنسان إذا عفا عند المقدرة فإن هذا من كرمه وفضله، وهذا دليل على كريم الطباع ونبيل الخصال؛ ذلك أنه عفا وهو قادر على إنزال العقوبة؛ قال الشاعر يمدح بني أمية:
لا ينقمون من بني أمية إلا            أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم أكرم الناس ولا             تصلح إلا عليهم العرب
وكل كمال في المخلوق فالله تعالى أولى به منه؛ بشرط ألا يحتمل النقص بأي وجه من الوجوه، فإذا كان العلم في المخلوق كمالاً والجهل عيباً، فالله تبارك وتعالى أولى بأن يوصف بالعلم، وكذلك الحلم والكرم، ومن ذلك العفو عمن تُوعِّدَ بالعقاب، وهناك بيت مشهور عند العرب في هذا المعنى وهو عندهم كالمثل السائر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته            لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وهذا من أفخر ما تقوله العرب وتمتدح به، فقوله: (وإني إذا أوعدته)، بمعنى: توعدته بالعقاب، (لمخلف إيعادي) أي: لا أعاقبه وأخلف في العقوبة، (ومنجز موعدي)، أي: أنني أفي بما وعدته به من الخير والنفع.
والمقصود: أن ما قاله عبد الجبار بأن إخلاف الوعيد من الكذب القبيح الذي يتنزه الله عنه كلام سامج، وشبهة متهافتة ساقطة؛ بل الذي يعد كذباً هو إخلاف الوعد، وهذا الأمر من صفات المنافقين، وهو أمر مذموم عند العرب وعند العقلاء، لكن من توعد ثم عفا وصفح؛ فإنه ممدوح محمود لدى جميع الأمم وعند جميع العقلاء.