فإن زعموا أنهم يفكرون بعقولهم ويعملون أفهامهم كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [ إلا فهماً في كتاب الله يؤتيه الله عبداً من عباده ]، فجوابه: أن عقول الصحابة تربت على نور الوحي واستضاءت به، فليست كالعقول المظلمة من نور الوحي، فإنها قد تصل إلى الصواب بحكم التجربة وبحكم العادة، وبحكم القراءات والخبرات المعينة، كما أن الإنسان الذي يسير في الظلام قد يصل إلى الطريق أحياناً بعلامات يتمسك بها فيهتدي نوعاً ما، وهذا من رحمة الله بالبشر أنهم يعيشون بما أعطاهم من عقول في حدود حياتهم الدنيا، فربما يحققون فيها شيئاً كثيراً، لكن صاحب العقل المستضيء بالإيمان هو كمثل الذي يمشي في نور، وليس بحاجة إلى هذه العلامات، فهو يرى أمامه كل شيء جلياً واضحاً، ولذلك فإنه يحكم على الأشياء حكماً صحيحاً لا سيما ما يتعلق منها بحقائق الدين وبعالم الغيب، ولهذا فيكون رأي العامي من أهل الإيمان ممن يهتدي بنور الوحي خير من رأي أكابر علماء أهل الضلال الذين لا يهتدون بنور الوحي في آرائهم، وهذا الظلام الذي يعيشه أهل الضلال قد يكون ظلاماً كلياً كظلام الكفار والملحدين، وقد يكون مشوباً بشيء من الاستضاءة مثل أهل الكلام وأهل البدع؛ فإنه لديهم شيئاً من الحق والخير في بعض الأمور، ولكن في الجوانب الأخرى قد يكون الظلام هو الغالب، فبقدر ما يأخذون من الوحي يكون النور.
فـالمرجئة لما تركوا الكتاب والسنة، وتركوا أقوال العقول التي استنارت بنور الوحي من عقول وأفهام الصحابة والتابعين كان البديل أنهم اعتمدوا على رأيهم، وعلى ما يتأولونه بفهمهم من اللغة، وهذه طريقة أهل البدع، تقول له مثلاً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.. )، ومعروف في علم المنطق أن (كل) يسمونها من ألفاظ السور التي تشمل كل ما يدخل تحت الاسم، فلا يخرج عن هذا السور شيء إلا إذا استثني، فلو قلت: كل الطلاب حضروا، معنى ذلك أنه لم يغب أحد، لكن إذا قلت: كل الطلاب حضروا إلا أحمد، فالذي غاب فقط هو أحمد، فيقولون: البدعة في اللغة في الشيء الجديد، إذاً البدع منها بدعة حسنة، ومنها بدعة سيئة، فما كان جديداً فهو حسن، وما كان جديداً ولم يكن من قبيل ما هو سيئ فهو حسن، فيعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ العام الذي لم يخصصه، وهو أعلم الناس بما يقول صلى الله عليه وسلم، وقس على هذا كثيراً من المسائل، فيتأولون اللغة بفهمهم.