يذكر شيخ الإسلام رحمه الله كلاماً مهماً، وله فائدة وأهمية، وهو أن الإيمان في حقيقته الشرعية أشمل منه في مفهومه اللغوي، وذلك حين قال: (والمقصود أن من نفى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم اسم الإيمان أو الإسلام فلا بد أن يكون قد ترك بعض الواجبات فيه وإن بقي بعضها، ولهذا كان الصحابة والسلف يقولون إنه يكون في العبد إيمان ونفاق) أي: لا يخلوا حال من ترك شيئاً من الواجبات من أمرين: إما أن يكفر كما هو الحال في تارك الصلاة، وإما أن يكون لديه إيمان من جهة، ولديه تقصير ومعصية وتفريط ونفاق من جهة أخرى، فلا يستحق اسم الإيمان الكامل المطلق مع وجود هذه الكبيرة وارتكابه لهذا الذنب.
ثم يبين هذا رحمه الله إذ يقول: (فعلى هذا فقوله تعالى للأعراب: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14] هذا نفي حقيقة دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لا يمنع أن يكون معهم شعبة منه، كما نفاه عن الزاني، والسارق، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لا يأمن جاره بوائقه وغير ذلك مما تقدم، فإن في القرآن والحديث ممن نفي عنه الإيمان لترك بعض الواجبات شيء كثير) أي: كقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، وقوله: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه ).
ونفي الإيمان هنا كان بسبب ترك واجب أو ارتكاب محرم، فهذا دليل على أن العمل من الإيمان لا ينفصل عنه.
ويقول رحمه الله: (وحينئذٍ نقول: من قال من السلف أسلمنا أي: استسلمنا خوف السيف، وقول من قال: هو الإسلام الجميع صحيح) فالإمام البخاري رحمه الله يذهب في الإسلام والإيمان إلى أنهما مترادفان، ولذلك يرى رحمه الله في قوله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] أن معنى أسلمنا: استسلمنا، ولذلك بوب باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام، فجعل الأعراب فقط مستسلمين في الظاهر، لكن لم يسلموا على الحقيقة، وقول أكثر العلماء بخلاف ذلك، وإن كان هذا القول قد نصره محمد بن نصر المروزي رحمه الله في كتابه المشهور تعظيم قدر الصلاة ، والراجح هو قول الأكثر هو أنهما غير مترادفين، وأن الإسلام درجة، والإيمان درجة أعلى، ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: (وهذا القول يمكن الجمع بينهما، فإن هذا إنما أراد الدخول في الإسلام، والإسلام الظاهر يدخل فيه المنافقون، فيدخل فيه من كان في قلبه إيمان ونفاق) فمن قال: إنه الاستسلام أي: أن في قلبه إيماناً ونفاقاً، فيدخل في جملة من انقاد ظاهراً وإن لم ينقد على الحقيقة، فالحقيقة عنده هي ألا يكون في قلبه شيء من النفاق.
ويقول رحمه الله: (وقد علم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بخلاف المنافق المحض الذي قلبه أسود كله، فهذا يكون في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يخشون النفاق على أنفسهم ولم يخافوا التكذيب لله ورسوله) فما كان يخشاه الصحابة إنما هو النفاق لا أنهم يكذبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فحاشاهم من ذلك، ثم يقول: (فإن المؤمن يعلم من نفسه أنه لا يكذب الله ورسوله يقيناً، وهذا مستند من قال: أنا مؤمن حقاً) أي: أن من قال: أنا مؤمن حقاً مراده أنه لا يمكن أن يكذب الله ورسوله (لكن الإيمان ليس مجرد التصديق، بل لا بد من أعمال قلبية تستلزم أعمالاً ظاهرة) فحقيقة الإيمان هي أعمال قلبية تستلزم أعمالاً ظاهرة، والأعراب عندما قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرهم على أن يقولوا: أسلمنا لا بد أن هناك شعبة من الإيمان في قلوبهم، وهي التصديق، فهم لم يكذبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صدقوا بما جاءهم من الدين الحق، وأذعنوا وانقادوا في الظاهر، لكن الإيمان الذي هو الدرجة التي بها وبتحققها ينتفي الشك والريب والنفاق من القلب فهذا لم يصلوا إليه، ولو كان قصد الأعراب أن يقولوا: نحن آمنا. أي: نحن لم نعد كافرين، بل دخلنا في الإسلام لأقروا عليه، لكن الأعراب إنما كان كلامهم في معرض الفخر والتزكية لأنفسهم، وهذا يرجعنا إلى مسألة الاستثناء، فهناك من يقول: أنا مؤمن حقاً، والبعض لا يستثني، وبالنظر إلى هذه الاعتبارات فالذي يقول من السلف: أنا مؤمن لا أستثني؛ يقصد أنه غير مكذب، فهو واثق أنه مقر ومصدق ومؤمن، ولا يحتاج إلى أن يستثني، والذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ينظر إلى جانب آخر، وهو أنه قد يكون مزكياً لنفسه، وهو لم يبلغ درجة الإيمان الكاملة العظمى، ولو كان من أهلها فرضاً فهو لا يريد أن يظهر ذلك فيقع في الرياء وتزكية النفس، وقد قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49] فتبين بهذا أن الإيمان قول وعمل، وأنه أشمل من مجرد التصديق الذي تدعيه المرجئة، وتستند في هذه الدعوى إلى اللغة، حتى من كان في أدنى مراتب الناس إيماناً كالأعراب الذين بين الله تبارك وتعالى حالهم فلا بد أن يكون لديهم قدر من العمل، وهو الانقياد الظاهر مع شيء من الإيمان الباطن، ولولا ذلك لم يكونوا مسلمين، فضلاً عن أن يكونوا مؤمنين، ولا بد أن لديهم شعبة من الإيمان بها خرجوا عن حد الكفر والنفاق الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار -والعياذ بالله- فظهر من مجموع هذا كله بطلان قول المرجئة أن التصديق لا يكون إلا باللسان، وإن الأعمال ليست داخلة في الإيمان، ولذلك فالشيخ رحمه الله يفصل في هذا فيقول: (ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أن: ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن ) فهذا يحب الحسنة ويفرح بها) ويحب الطاعة، ويتألم للمعصية، ويسوءه فعلها، فليس الأمر كما يزعم الخوارج ولا كما يزعم المرجئة ؛ ولو كان ما يزعمه الخوارج صحيحاً لكان إذا ارتكب المرء السيئة كفر، ولو كان الحال كما تزعم المرجئة لكان إذا ارتكب السيئة لم يستاء لفعلها، والحق وسط بين هذين، فالمؤمن يمكن أن يقع منه فعل المعصية، وإذا فعلها يسوءه ذلك ويندم، فهو لم يخرج من الملة، لكنه لا ينظر إلى نفسه على أنه كامل الإيمان، بل يتمنى أنه لم يفعل هذه السيئة، والحسنة تسره وتفرحه، فهذا الحب الذي فعل به السيئة والمعصية يغلبه حب آخر، وهو حب الطاعة وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن غلبه حب الشهوة دفعه إلى أن يفعل المحرمات، وهو أحرى أن يمرض قلبه، ثم يصبح مطبوعاً عليه والعياذ بالله، وإن غلب عليه الندم والألم للمعصية والذنب وتاب فإنه يتحول إلى قلب أبيض أجرد كالسراج المضيء.