ويقول رحمه الله: (وكذلك الإيمان والإسلام، وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور) فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان من أظهر وأجلى الأمور عندهم معرفة الإيمان، ومعرفة الإسلام، ومعرفة الكفر، ومعرفة النفاق، وهذا أهم ما يتعلمونه، وأول ما يعرفونه وأوجب ما يعلمونه غيرهم، وكانت واضحة وجلية عندهم، وحديث جبريل العظيم المشهور الذي عرف النبي صلى الله عليه وسلم فيه مراتب الدين من الإسلام والإيمان والإحسان فيه حكمة عظيمة جليلة ذكرها الشيخ وأشار إليها بقوله: (وإنما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون وقال: ( هذا جبريل يعلمكم دينكم ) ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد؛ لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها) فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في حجة الوداع قول الله تبارك وتعالى: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ))[المائدة:3]، وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم عندما قفل راجعاً من حجة الوداع، بعد أن أكمل الله تعالى له الدين، وعاش بعد ذلك بضعاً وثمانين ليلة، ثم جاءه جبريل عليه السلام بعد عودته من حجة الوداع إلى المدينة في هيئته الذي وصفها بها عمر رضي الله عنه بقوله: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ) فأوصاف الصحابة رضي الله عنهم في منتهى البلاغة، شديد بياض الثياب، أي: ليست ثياباً عادية كما قد يلبس بعض الناس، فكأنه من شدة بياض ثيابه خرج من أنظف مكان؛ لأنه لا يرى عليه أثر السفر، وشديد سواد الشعر، مع أن الناس عندما يركبون الدواب ولو لمسافات قليلة فإنهم قد يعرقون ويتلطخ الشعر بالغبار، وهذا فيه دلالة على أنه خرج لتوه، حيث لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعلم من أين قدم هذا الراكب، ولا يعرفه أحد، بدليل أن بعضهم ينظر إلى بعض ولا يعرفه منهم أحد، ثم جلس الجلسة المعروفة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ في السؤال والجواب، وهذا كما جاء بطريق صحيح كان في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من حجة الوداع، ولذلك فهو أتم مما جاء في الأحاديث الأخر التي تذكر أن أركان الدين ثلاثة، كحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم… ) وقد قيل: إن من أسباب ذلك أن هذا كان قبل فرضية الركنين الآخرين، أو لأن القتال إنما يكون على الشعائر الظاهرة، فأما الصوم فعبادة خفية، وأما الحج ففي العمر مرة.
والمراد أن هذا الحديث ذكر فيه ثلاثة أركان، وحديث وفد عبد القيس ذكرت فيه أربعة أركان قال: ( أتدرون ما الإيمان بالله؟ الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ) ولم يذكر الحج؛ لأنه لم يكن قد شرع حينها، ثم يأتي حديث جبريل، فيذكر الأركان الخمسة للإسلام، وأما الإيمان فإنه كذلك لم يذكر الأركان الستة في حديث قبل ذلك.
ولذا يقول الشيخ في إيضاحه: (الحكمة أن هذا جاء بعد أن اكتمل الدين وبعد أن عرف الناس الدين؛ ليقول لهم: هذا هو كماله وحقيقته، فلا تقتصروا منه على أدنى مسمياته)، فهو ليس ركنين أو ثلاثة أو أربعة، قد اكتمل الإسلام لهذه الأركان الخمسة والإيمان بهذه الأركان الستة، والإحسان تحقيق ذلك ظاهراً وباطناً بالمراقبة، بأن تعبد الله كأنك تراه في كل هذه الأعمال.
ثم يقول المؤلف رحمه الله: (وهذا كما في الحديث) يعني عندما قال: (أتاكم يعلمكم دينكم- أي: إن جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم الذي به تعرفون حقيقته الكاملة التي لا نقص فيها بعد أن أكمله الله تبارك وتعالى) وهذا مثل الحديث الآخر الذي بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الحقائق الدينية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة، واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه ).
والمسكين قد يطلق على هذا الذي يطوف ولا يجد شيئاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي عنه المسكنة، أي: ليس هو المسكين في الحقيقة، بل الذي ينطبق عليه الوصف تماماً هو ذلك الذي لا يسأل الناس، ولا يتفطن له المعطون فيعطونه، فهذا الطواف ترده التمرة والتمرتان، والقمة واللقمتان، بخلاف ذاك الذي لا يسأل، ولا يتفطن إليه، فهو يعيش المسكنة على حقيقتها، فلا يجد شيئاً، فهذا هو الذي ينبه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى أن يتفطنوا له، وكل ما أمركم الله تبارك وتعالى به أو حثكم عليه من إطعام المسكين فاعلموا أن المراد به هو هذا المسكين الذي تنطبق عليه حقيقة المسكنة.
ويقول رحمه الله: (وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام هو الخمس ) ) وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ) كأنه قال صلى الله عليه وسلم: الإسلام هو الخمسة الأركان وليس ما دون ذلك، فلا تظنوا أنه شهادة أن لا إله إلا الله فقط، لا تظنوا أن الإسلام هو أن تشهدوا وتصلوا فقط، أو تصوموا ولا تزكوا أو العكس، ولا تظنوا أنه الإتيان بأركانه الأربعة دون الحج عند الاستطاعة، بل الإسلام هو مجموع هذه المباني أو الأركان الخمسة.
يقول المؤلف رحمه الله: (يريد أن هذا كله واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل، لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل) أي: فالإيمان حينما قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر ) يشمل هذا كله، فلو أن قائلاً قال: آمنت بالخمسة الأركان، ولكن لا أؤمن بالقدر، فإنه لا يكون مؤمناً، وهذا سبب ورود الحديث كما تعلمون، وهو أن القدرية لما ظهروا جاء بعض التابعين يسأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فحدثهم بما حدثه به أبوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن القدر، وأعلن براءته من القدرية.
إذاً: الإيمان لا يكون إلا باكتمال هذه الأمور، فمن أخل بشيء منها فقد أخل بركن من أركان الإيمان، وعندما عرف النبي الإيمان والإسلام في حديث جبريل فقد عرفهما بأكمل وأعلى مقاماتهما ودرجاتهما؛ لئلا يتوهم متوهم أنه يمكن أن يكتفي بما قد يطلق عليه أدنى الاسم.