مجيء الشرع بمعاني جديدة لبعض الألفاظ العربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:فإن شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الحج والصيام والزكاة وغيرها إنما هي كلمات معروفة في كلام العرب قيدها الشارع، فمثلاً الزكاة هي اسم لما تزكوا بها النفس أي: تطهر، وزكاة النفس زيادة خيرها وذهاب شرها، كما قال تعالى (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ))[الشمس:7]، وقال: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ))[الشمس:9]. يقول: (والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكوا به النفس كما قال تعالى: (( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ))[التوبة:103] وكذلك ترك الفواحش كما قال تعالى: (( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ))[النور:21]) أي: ما طهر.إذاً: هذا في الاستعمال اللغوي. يقول المؤلف رحمه الله: (وأصل زكاتها) أي النفس (بالتوحيد وإخلاص الدين لله كما قال الله تعالى: (( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))[فصلت:6-7]). قال العلماء: الزكاة هنا هي الطهارة، أي: لا يزكون أنفسهم ويطهرونها من الشرك ومن الخبث ومن الفواحش بالتوحيد والإيمان والطاعة، ويمكن أن يحمل على المعنى الشرعي فيقال: (( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ))[فصلت:6-7] أي: هم لا يؤدون زكاة أموالهم، وإن لم تكن في ذلك الزمان قد عينت وحددت مقاديرها، أي: لم تفرض الزكاة المعروفة، لكن في المال حق سوى الزكاة، وهذا أمر معلوم في الدين قبل أن تشرع الزكاة بأنصبتها ومقاديرها، بل في جميع الملل، وفي جميع الشرائع، ولا بد أن يطهر الإنسان نفسه وماله بإخراج شيء من ذلك. وقال تعالى: (( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ))[الماعون:1-3] فمن أعظم أعمال المشركين أنهم لا يتواصون بالصبر، ولا يتواصون بالمرحمة، ولا يعطفون ولا يشفقون على فقير أو يتيم أو جائع، ولا يصلون الرحم، وهذا من صفات الكفر، لكن قد يوجد فيهم بعض الخلال كما يوجد في بعض المؤمنين من لا يقوم بهذه الواجبات فيشبه بهذا حال الكافرين. وقال رحمه الله: (وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب وسماها الزكاة المفروضة) فإذا أطلق اللفظ صار إلى الزكاة، وكذلك لفظ التيمم معناه القصد، وإن كان التيمم قد يأتي بمعنى آخر كما قال تعالى: (( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ))[النساء:43]. يقول: (فلفظ التيمم استعمل في معناه المعروف في اللغة، فإنه أمر بتيمم الصعيد، ثم أمر بمسح الوجوه والأيدي منه، فصار لفظ التيمم في عرف الفقهاء يدخل فيه هذا المسح) يعني في الآية: (( فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ))[النساء:43] وفيها أمران: أمر بالتيمم، وأمر بالمسح، والفقهاء يطلقون التيمم على المسح نفسه، فهم الذين نقلوا المعنى، وإلا فتيمموا في أصل اللغة أي: اقصدوا واطلبوا وتوجهوا إلى الصعيد الطاهر الطيب، ثم بعد ذلك امسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، والفقهاء سموا المسح المأمور به بعد تيمم التراب: تيمماً. ويقول رحمه الله: (لفظ الإيمان) وهنا الشاهد (أمر به مقيداً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله).وهذا كما في قوله تعالى: (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ))[البقرة:285] فهو مقيد حتى ولو لم يذكر إلا الإيمان بالله، فيدخل فيه الإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، فهو إيمان مقيد. وقال رحمه الله: (وكذلك لفظ الإسلام ليس على إطلاقه في اللغة، والإسلام إذا جاء في القرآن وفي السنة فهو مقيد بالاستسلام لله تبارك وتعالى والانقياد له كما قال الله تعالى: (( فَلَهُ أَسْلِمُوا ))[الحج:34]، وقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ))[النساء:125] فهو مقيد بمعنى خاص، والكفر في القرآن كذلك له معنى شرعي مقيد بمعنى شرعي، وهو ضد الإيمان ونقيضه) أي: أن بعض الألفاظ لم تكن لها نفس المعاني الشرعية في لغة العرب.يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والنفاق قد قيل إن العرب لم تكن تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم) فالشيخ يرى أن هناك كلمات لها أصل في لغة العرب، لكنها استعملت استعمالاً جديداً، فالكل مقيد في المعنى حتى النفاق، وذلك هو مراده في قوله رحمه الله: (النفاق لم تكن العرب تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم؛ فإن نفق يشبه خرج، ومنه نفقت الدابة إذا ماتت، ومنه نافقاء اليربوع) والنافقاء مكان فيه عدة أبواب يخرج منها اليربوع، بحثت عنه من هاهنا خرج من هاهنا، هذا يسمى نافقاء، فيصعب أن يقبض عليه، ويصعب على المصطاد أن يصطاده أو يقبض عليه؛ لكثرة المخارج، هذا أقرب شيء يصور العلاقة بين النفاق في اللغة والنفاق في الشرع، فالمنافقون ينطقون بكلمة الكفر، ويهمون أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يدبروا مؤامرة ضده، وإذا جيء بهم وسئلوا أجابوا: ما فعلنا، إنما كنا نخوض ونلعب، ولو قيل لهم: لماذا لا تجاهدون قالوا: نخاف الفتنة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ))[التوبة:49] متعللين بقولهم: إننا نخاف الفتنة عند رؤية بنات بني الأصفر، وإذا قيل لهم: تعالوا للجهاد. قالوا: لا تنفروا في الحر، فهم كاليربوع، إن لم يخرج من هنا، خرج من هنا، إن بحثت عنه من هنا خرج من هنا، فلا تستطيع أن تعرف لهم منهجاً، فمثلهم يجيد كيف يتخلص وأن يراوغ وأن يخادع، يظنون أنهم يخدعون الله والذين آمنوا، ولكنهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولا يحيق مكرهم وخداعهم إلا بهم. قال رحمه الله: (والنفق في الأرض) أي: المخرج فيها (قال تعالى: (( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ))[الأنعام:35] فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطناً بعد دخوله فيه ظاهراً) وهذه العلاقة اللغوية يجعلها الشيخ قيداً للنفاق بأنه نفاق في الإيمان، فالنفاق في القرآن والسنة وكلام السلف: هو ما له علاقة بالإيمان، وأما في غير الشرع فيقول الشيخ رحمه الله: (ومن الناس من يسمي من خرج عن طاعة الملك منافقاً عليه) أي: أن هذا اصطلاح هؤلاء الناس أن الذي يخرج عن الطاعة فإنه يكون منافقاً؛ لأنه يتظاهر بها وهو ليس كذلك. ثم يقول رحمه الله: (لكن النفاق الذي في القرآن هو النفاق على الرسول) والناس اليوم إذا سمعوا رجلاً تكلم فأثنى على ذي السلطان أو ما أشبه ذلك ثم إذا خرج قال غير ذلك قالوا: هذا منافق، وجاء هذا من كلام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، أنهم قالوا:كنا نعد هذا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، لكن المنافق الحقيقي الذي جاء في كلام الشارع فهو الذي يكون منافقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطاب الله ورسوله للناس يكون بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها.