وقال رحمه الله: (وقال
الحسن البصري : [
ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ]) وهذه كلمة عظيمة، وليست حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من كلام
الحسن رضي الله عنه، وقد كان من أبلغ الناس وأبينهم وأفصحهم وأقربهم شبهاً في كلامه بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من فضل الله عليه. يقول الشيخ رحمه الله: (وهذا -يعني هذا القول- مشهور عن
الحسن يروى عنه من غير وجه، كما رواه
عباس الدوري : حدثنا
حجاج حدثنا
أبو عبيدة الناجي عن
الحسن قال: [
ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال -ثم وضح ذلك- من قال حسناً وعمل غير صالح رد الله عليه قوله -لأنه بعلمه كذب قوله- ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ] ذلك بأن الله يقول: ((
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ))[فاطر:10]). والضمير في (يرفعه) يعود إلى الكلم، فالعمل الصالح يرفع القول الذي هو الكلم، وفي الآية وجهاً آخر، وهو أن يكون الضمير راجعاً إلى الله وإن لم يكن مذكوراً، فإنه جائز وهو كثير في كلام العرب؛ لأن الخطاب والسياق واضح في ذلك، فيكون معنى الكلام، إليه أي: إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.إذاً: ما هو الفرق بين الكلم الطيب وبين العمل؟ الجواب: أن القول يصعد إلى الله، والعمل الصالح يرتفع ويرفع معه القول، فالأصل هو العمل، والإنسان إذا أحسن العمل فإنه يرفع القول معه إلى الله تبارك وتعالى، فلو وجد كلام طيب بلا عمل لم يرتفع؛ لأنه لن يرتفع ولا يصعد إلا بالعمل.قال رحمه الله: (ورواه
ابن بطة من الوجهين، وقوله: ليس الإيمان بالتمني، يعني بالكلام) وهذا يذكر ببحث سبق في موانع إنفاذ الوعيد عند قوله تعالى: ((
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] والقاعدة أن كل من عمل سوءاً فإنه يلاقي جزاءه، أما الأماني مثل: ((
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ))[آل عمران:24] ونحو: ((
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] فهذه أماني لا يقبلها الله تبارك وتعالى، وكذلك إذا قال المسلمون: نحن أهل الحنيفية السمحة، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن الأمة الأخيرة ونحن
الطائفة المنصورة ، فهذه تظل أمانٍ ما لم يصدقها ويؤكدها العمل، فالإيمان ليس بالتحلي؛ لأن التحلي سهل جداً؛ لأنه مجرد حلية ظاهرة، وكون الإيمان يصبح حلية ظاهرة سهل، ولهذا نحن نطالب المسلمين بالسنة الظاهرة، والواجبات الظاهرة، وبشعب الإيمان الظاهرة؛ لأنها أسهل من الباطنة، وإذا طالبت أحداً بها قال لك: إن الأمر بسيط، أو قلت له: اعف لحيتك، فيجيب: هذه ليست مشكلة، أو اقصر ثوبك ولا تجعله مسبلاً، فيقول هذه بسيطة، ولذلك فالشيء الظاهر لا شك أنه أسهل من الباطن، والمؤمن مطالب به، فكون اليقين موجوداً في قلبك، وكذلك الإذعان والتسليم والخشوع والرغبة والرهبة، فهذه ليست أموراً هينة، وإعفاء اللحية لا يستدعي إلا ألا تحلق، نعم قد يؤذى المرء بنبز أو كلام أو شيء من ذلك، لكن لن يكون الجهد فيه كمثل جهدك في أن تجعل قلبك يمتلأ بما ذكرنا من الأعمال القلبية، وأما الثوب فلا حرج عليك أن تجعله فوق الكعبين ولا يضرك ذلك، وإن أوذيت فإن تعبك سيكون أقل من تعبك لتكون محققاً لأعمال القلب.فالتحلي أيسر من تحقيق الإيمان، فإذا فرط العبد في التحلي فهو لما كان أعظم أشد تفريطاً، وهذا هو الأصل بصرف النظر عن الحالات العارضة، فالأصل أن الإنسان يستطيع أن يتمسك بالهدي الظاهر والعمل الظاهر، ولهذا لم يشق على المنافقين أن يقولوا: نحن مؤمنون مسلمون، وأن يحضروا الصلوات، وإن كانوا لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وربما ينفقون الصدقات وإن كانوا لا ينفقون إلا وهم كارهون. وأنت ترى الناس في المسجد تقول: هؤلاء مسلمون ولا تقول غير ذلك، وتراهم يتصدقون فتقول: هؤلاء أهل الخير، فيدخلون أنفسهم في أهل الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ لأنهم بهذا تسلم أموالهم ودماؤهم من سيف المسلمين، لكن أن يؤمنوا حقاً بالله تبارك وتعالى فهذا يحتاج منهم إلى الإخلاص والإنابة والتوبة وقطع الشهوات والرغبات، وإلى التخلي عن الحسد الذي في قلوبهم على المؤمنين، كما كان
عبد الله بن أبي ؛ لأنه كما قال الصحابة رضي الله عنهم: (
أرفق به يا رسول الله، والله لقد قدمت وهم ينظمون له الخرز ليتوجوه ) ولذلك فقد حقد وحسد رسول الله؛ لأنه كان سبباً في فوات الملك والتتويج به -نسأل الله العفو والعافية-، وفتنته رفض الحق بسبب الملك لا يستطيع أن يقاومها كل أحد، ولذلك كان الكبراء في كل زمان ومكان هم أول وأكثر من يرفض الدعوة إلى الله، وكان الضعفاء في كل زمان ومكان هم السابقين إلى الإيمان بها. ثم قال رحمه الله: (التحلي أن يجعله حليةً ظاهرةً، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه ليس هو ما يظهر من القول، ولا من الحلية الظاهرة) ولكن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، والدعاوي لا بد لها من بينات، ولذلك تجد من مداخل الشيطان على أهل الخير والإيمان أن يغرهم بأعمالهم، فيوسوس لهم بأنكم أنتم المؤمنون وغيركم كفار، أنتم
أهل السنة ، فمهما أهملتم وقصرتم في العبادات فعندكم أهم شيء وهي العقيدة والسنة، إنكم والحمد لله أهلها، وأما أهل البدع فلا خير فيهم ولو تعبدوا واجتهدوا، وهذا صحيح لا شك فيه، فأهل البدع مهما تعبدوا إذا كانت بدعتهم مغلظة كـ
الخوارج وأمثالهم فإنه لا يقبل منهم العمل، لكن فرق بين أن تعرف خطر البدعة ونعمة السنة، وبين أن تجعل هذا حجة للتراخي والإهمال والتفريط، فربما جاء الشيطان للشباب من هذا الباب، فيقول: أنا من
أهل السنة و
الطائفة المنصورة و
الفرقة الناجية ، الحمد لله أنني لست من
المعتزلة ولا من
الرافضة ، فهذه الدعوى لا تكفي، بل لابد لكل قول من حقيقة تحققه، وإلا فالأعمال قد تكذب هذا القول، كمن يقول: أنا من أتباع منهج السلف الصالح، وهذا قول عظيم يقتضي واجبات كثيرة عظيمة، وتكاليف وأعباء جسام لابد منها في العقيدة، وفي الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر، والصبر على الأخلاق، والورع، والزهد، والإعراض عن الدنيا كما نجده واضحاً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، أما أن يتحلى الإنسان مجرد تحل بالإيمان وبالانتساب إلى المنهج الذي لا يقبل الله تعالى منهجاً غيره، فإن ذلك لا ينفعه حتى يعمل، ولو كانت الدعاوى تنفع الناس لنفعت الذين ادعوا الإيمان من الأعراب في قوله تعالى: ((
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا ))[الحجرات:14] ولو أقروا على هذا القول لخيل إليهم أنه ليس بينهم وبين
أبي بكر و
عمر رضي الله عنهما كبير فرق، فليست المسألة دعاوى أو شعارات أو لافتات مجرد نسبة، بل هذا لا بد من تحقيق ذلك قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، خلقاً وعبادة ودعوة، في كل أمر وكل شأن. إن مما زهد أهل البدع وأهل الغفلة في الدين وفي منهج الحق ما يرون من تقصير أو خلل في سلوك أهله، فنسأل الله تعالى ألا يجعلنا فتنة للذين كفروا، ولا فتنة لأهل البدع والأهواء، فيرون من أعمالنا وأخلاقنا ما يصدهم عن أن يكونوا على ما نحن عليه من المنهج الحق. إن
الحسن رحمه الله قال هذه الكلمة العظيمة، و
شيخ الإسلام إنما شرحها ليؤكد هذا المعنى، ولم تكن مجرد استطراد فيقول رحمه الله: (فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر ولا بد، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) فاللازم هو العمل الظاهر إذا انتفى دل على انتفاء الملزوم وهو العمل الباطن، ولذلك تستطيع أن تتفرس في الوجوه فتتوقع ما في القلب، وذلك أنه إذا حدث منكر من المنكرات ونظرت في وجوه الناس -ولم يتكلم أحد- فالذي لا ينكر هذا المنكر بقلبه تراه إن لم يكن مسروراً فهو لا مبالاة عنده بما حدث، أما الذي ينكر بقلبه فيظهر منه لازم إيمان القلب على الجوارح، فترى على وجهه الغضب والتمعر والانزعاج ولو لم ينطق، ولذلك كان الإنكار بالقلب من درجات الإنكار، ولا يصح أن يفهم أحد أن الإنكار بالقلب معناه أن تعلم أن هذا منكر، فإن كثيراً من الناس يعلم أن هذا منكر ولا يبالي، بل الإنكار القلبي يتعدى مجرد العلم إلى انفعال في القلب ضد هذا المنكر، ويظهر هذا الأثر ولا بد على الجوارح وإن لم يقل الإنسان بلسانه، ولذلك كان مرتبة من مراتب الإنكار، وإن كان في أقل المراتب.