يقول البيروني عن أحد كتب الهندوس حاكياً قصة من قصصهم: (كان فيما مضى من الأزمنة ملك يسمى أنبرش نال من الملك مناه، فرغب عنه وزهد في الدنيا وتخلى للعبادة والتسبيح زمناً طويلاً) أي: تصوف (حتى تجلى له المعبود في صورة أندرا رئيس الملائكة) وهو إله الشمس عندهم، ولذا يسمون باسمه، ومن هؤلاء أنديرا غاندي .
يقول: (تجلى له المعبود في صورة أندرا رئيس الملائكة راكباً فيلاً وقال: سل ما بدا لك لأعطيكه. فقال الملك: إني مسرور برؤيتك، ولكنني لست أطلب منك، بل ممن خلقك. فقال أندرا : إن الغرض في العبادة حسن المكافأة عليها، فحصل الغرض ممن وجدته) يقول: ما هو الغرض من العبادة سوى الجزاء والمكافأة؟! فخذ المكافأة ممن وجدت، ولماذا تشترط الرب؟!
(فقال الملك: أما الدنيا فقد حصلت لي وقد رغبت عن جميع ما فيها، وإنما مقصودي من العبادة رؤية الرب) يعني: لا أريد أي مكافأة، ولا أريد أي شيء، بل عبادتي محبة في الله فقط، وأريد رؤيته فقط. وهذه نفس الشبهة التي قالها الصوفية بعد.
وبعد ذلك أخذ الملك يتحدث مع أندرا ويقول: أنا لا أريد جزاءً ولا شكوراً، إنما أعبده لذاته، فإذا بالرب -كما يزعمون- يتجلى له في صورة إنسان له هيبة وله هالة من النور، فلما رآه الملك اقشعر جلده من الهيبة وسجد وسبح كثيراً، فآنس الرب وحشته وبشره بأنه قد حصل على ما يريد من مشاهدة الرب ومخاطبته! فالشيطان يلعب بالعقول منذ زمن قديم.
يقولون: فقال له: كيف أتخلص من هذه الدنيا؟!
فقال له الرب: بالتخلي عن الدنيا بالوحدة، والاعتصام بالفكرة، وقبض الحواس إليك.
فشكا الملك إليه أنه لا يستطيع ذلك؛ لأن الدنيا مشغلة تشغل الإنسان عن التفكر فيه، فقال له: إن غلبك نسيان الإنسية؛ فاتخذ تمثالاً كما رأيتني عليه، وتقرب بالطيب والأنوار إليه، واجعله تذكاراً لي لئلا تنساني، حتى إن عنيت فبذكري، وإن حدثت فباسمي، وإن فعلت فمن أجلي. أي: تكون أفعالك كلها لي خالصة، وهكذا.
وقد ذكر قصة أخرى مشابهة لهذا، ثم قال: (ومن حينئذٍ وضعت الأصنام بالصور)، والأصنام في الهند إلى اليوم على صورة بني آدم، وصور أخرى كبيرة جداً، ويجتمع عندها الملايين يعبدونها إلى اليوم.
فهذا أصل دينهم، وهو مخاطبة الرب كما يزعمون، والصوفية أخذوا ذلك بطريقة أخرى، فإنه إذا مات الشيخ أتاهم في المنام وقال: ابنوا على قبري قبة واتخذوه ضريحاً، ومن كان له حاجة فليدعني وأنا آتيه. ولذلك كثرت عندهم المخاطبات كما يسمونها.
والله تعالى بحكمته ورحمته أنزل إلينا هذا الكتاب وأرسل إلينا هذا الرسول الذي قال فيه: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107]، ووصف القرآن في أكثر من آية بأنه هدى ورحمة وبشرى وموعظة وشفاء لما في الصدور، فهذه الرحمة التي من الله بها علينا يعرضون عنها، ويريدون أن يخاطبهم الله، وكأن كل إنسان منهم يريد أن يلقى إليه كتاب خاص أو صحف منشرة، كما أراد ذلك بعض الجاهلين، فلذلك ينام المرء منهم وهو يريد أن يرى الله في المنام أو يخاطبه الله، وتطور الحال ببعضهم إلى زعمهم أنهم سمعوا المخاطبات، بل إنهم جمعوا هذه المخاطبات، كما في كتاب المخاطبات لـعبد الجبار النفري ، فكله مخاطبات، يقول فيه: خاطبني ربي، وكلمني ربي! وما معنى تكليم الله لعبده في الدنيا سوى النبوة؟!
فهؤلاء القوم تارة يقولون بالمخاطبات وتارة يقولون بالمكاشفات, والكشف هو الوحي, ولكن بصورة ملبسة، فكل منهم يدعي أن الله يخاطبه ويوحي إليه، والحقيقة هي كما قيل لـعبد الله بن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق. قالوا: كيف؟! قال: ألم يقل الله: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ))[الأنعام:112]؟! فهذا من وحي الشياطين.
فالمخاطبات والمكاشفات مثل هذه الرؤى التي كان يتحدث عنها أولئك الهنودس من قبل، وقل أن تجد شيخاً من شيوخهم إلا وهو يزعم أنه أحب الله حتى رآه وخاطبه وكلمه وقال له وأوحى إليه، وما أكثر ما يفترون على الله من الكذب بهذه المخاطبات والأفعال والأحوال.