المادة    
يقول المصنف رحمه الله: [ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر] أي: أن أول ما تكلموا فيه كان في أسماء الله وصفاته، فنفوها وسموا ذلك توحيداً، ثم تكلموا في أفعال الله وسموا ذلك العدل، ومن العدل عندهم أنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس، فلا يمكن أن يقدر عليهم المعاصي ثم يعاقبهم عليها، فالعدل عندهم هو نفي القدر؛ فهم ينفون أن الله قدر المعاصي على العباد.
  1. المشيئة لا تستلزم الرضا

    والرد عليهم في مسألة (أن الله قدر المعاصي ومع ذلك يعاقب عليها) أن نقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل شيء وقع فهو بمشيئته، فإذا أردت أن تستدل على شيء ما أن الله شاءه، فانظر إليه: إن كان واقعاً فاعلم أن الله شاءه، وإن لم يقع فاعلم أن الله لم يشأه.
    وإرادة الله تنقسم إلى قسمين:
    1- إرادة شرعية: وهي ما يريده الله من العبد شرعاً، وذلك مثل الصلاة، فالله أراد من العبد أن يصلي، بمعنى أن الله شرع الصلاة وأمر بها وطلبها من العبد.
    2- وإرادة كونية، كأن يريد الله أن فلاناً لا يصلي، فهذه إرادة كونية كتبها وقدرها، لكنه لم يرض ذلك، فليس هناك تلازم بين الإرادة وبين الرضا، قال تعالى: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ))[الزمر:7]؛ ولهذا لما قال المشركون: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[النحل:35] رد الله عليهم -كما في الآية التي بعدها- فقال سبحانه: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] فلو كان الله عز وجل يرضى بالمعاصي ويرضى بالشرك، فلم يبعث الرسل ليحذروا الناس منها، ويقولوا لهم: من فعلها دخل النار؟! فإرساله تعالى للرسل من أجل تحذير الناس من الشرك والمعاصي دليل على أنه لا يرضاها؛ لكنه شاءها.
    وقد ذكر الله تعالى في القرآن ما زعمه المشركون من أن شركهم بالله قد شاءه الله، وأن هذا دليل على رضا الله عن الشرك؛ قال تعالى: : ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا))[الأنعام:148]، وقال في نفس السورة عن نفسه: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا))[الأنعام:107] فما الفرق بين الموضعين؟
    والجواب: هناك شيء واضح لمن تأمله، وهو أنهم أرادوا بقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) الاستدلال على شرعية الشرك والاحتجاج له بالمشيئة، فيشركون بالله، ويكذبون الرسل، ويعارضون أمر الله ونهيه وشرائعه التي أنزلها؛ يعارضون ذلك بالمشيئة، ويجعلون تلك المشيئة مستلزمة لمشروعية ما يقع عنها من أمور؛ فالشرك والمعاصي التي يمارسونها قد شرعها الله ورضي بها وأقرها وأحبها وطلبها.
    فاحتجاجهم هذا بالمشيئة وأنها تستلزم الرضا والمشروعية وهو المردود عليهم، وهو الذي نفاه الله، وأثبت أنهم ليس لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون، وهذا افتراء محض لا دليل عليه.
    أمَّا قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا))[الأنعام:107] وقوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[الأنعام:112] فهو حق وليس احتجاجاً بالقدر، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم -ولكل من يدعو إلى الله في كل زمان ومكان فيجد الإعراض والصدود- لكي يعلم أن هذا شيء قدّره الله، فلا يحزن عليهم؛ فهو مثل قوله تعالى: : ((فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ))[فاطر:8] .وكقوله عز وجل: . ((إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ))[الرعد:27].
    فمن إرادة الله الكونية أن الناس لا يزالون مختلفين، وأنه يجعل لكل نبي عدواً من المجرمين، وأن من الناس من يبتدعون ويشركون ويلحدون، فهذه إرادة كونية؛ لله تعالى فيها حكم عظيمة.
    ولو أن المشركين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، لا على سبيل الاحتجاج، بل على سبيل الإخبار بما هو واقع، لكان كلامهم صحيحاً.
    ولو قد قال ذلك أبو الدرداء؛ فقد تأخر إسلامه وكان له صنم يعبده، فلو قيل له بعد أن أسلم: يا أبا الدرداء ! كنت تعبد الصنم؟! فقال: هذا شاءه الله وقدّره عليّ... فلو قالها أحد على سبيل الإخبار عما كان واقعاً فيها -لا على سبيل الاحتجاج- فكلامه صحيح؛ فهو لا يحتج بالقدر على الشرك؛ إنما يذكر القدر على سبيل التسلي عن مصيبة الشرك التي كانت بإرادة الله، ولا شك أنه لا يقع شيء إلا بإرادة الله، وأن المصائب يجب علينا جميعاً أن نقول فيها: (( لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا))[التوبة:51] فالمصائب من قدر الله وقضائه ومشيئته وإرادته، ولولا إرادة الله لم تقع، فلو أن المشركين قالوا: لقد اهتدينا وتبنا إلى الله وآمنَّا وأسلمنا، بعد أن كنا مشركين، ولو شاء الله لما وقع ذلك الشرك منا؛ لو أنهم قالوا ذلك لما اعترض عليهم أحد، أما أن يحتجوا بالقدر؛ فيكذبوا أمر الله ووعده ووعيده ويعارضوا رسل الله ثم يقولوا: شاء الله لنا الشرك -بمعنى: رضيه لنا واختاره- فهذا مردود عليهم.
  2. إقامة الحجة على الناس بالرسل

    نحن إذن نستطيع أن نرد على المعتزلة بالتفريق بين الإرادتين؛ الإرادة الشرعية والإرادة الكونية؛ فإن المعتزلة يظنون أنهم بنفي القدر ينفون عن الله سبحانه وتعالى الظلم، وينفون عنه القبائح، ونحن نقول: لا ظلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يعذب أحداً ولن يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه قال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15] حتى على القول أن هذا في الدنيا، لكن قوله تعالى: ((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا))[النساء:165] يكون في الدنيا والآخرة؛ فمن حكمة الله ورحمته عدله سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.
    وقد مر هذا معنا في دليل الفطرة في آية الميثاق حيث قلنا: إن الله سبحانه وتعالى جعل الفطرة والعقل والميثاق الذي أخذه الله على عباده أدلة كافية بذاتها، على أنه حق، وأن الإيمان به واجب؛ قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ))[الأعراف:172] أو (ذرياتهم) على القراءة الأخرى: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172] فالحجة قائمة، والعذر منقطع، والحق واضح جلي، بدليل الفطرة ودليل العقل؛ لكن -رحمةً من الله سبحانه وتعالى بالعباد- علق العذاب على أمرٍ زائدٍ على مجرد العقل والفطرة، وهو إرسال الرسل؛ ولهذا فإن الملائكة تحاج أهل النار بالرسل لا بالعقول؛ قال تعالى: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ))[الملك:8] وقال تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ))[الزمر:71] فالتقريع لهم من الملائكة إنما هو بإرسال الرسل؛ وهذا يؤكد أن أبلغ دليل وأعلى حجة هي إرسال الرسل، لأنهم بشر من جنس الخلق؛ فهم مثلهم يكلمونهم بما يفهمون؛ قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ))[إبراهيم:4] ويخاطبونهم بما يعقلون، ويردون الشبه شبهةً شبهةً، فهذا دليل السمع، وليس كل الناس يعقل دليل العقل.
    لكن الكفار لم ينتفعوا بدليل السمع ولا بدليل العقل؛ قال الله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[الملك:10] فلا سمع ولا عقل، لم يعملوا بالوحي ولا بالفكر كليهما.
    إن الله تعالى له الحجة البالغة، وليس لأحدٍ حجة على الله سبحانه وتعالى، وليس في إثبات قدر الله تعالى ونفاذ مشيئته: نسبته تعالى إلى الظلم، وإنما هذا من تخيلات المعتزلة .
  3. مذهب المعتزلة في حقيقة السحر وأولاد المشركين

    يرى المعتزلة أن من العدل أن الله سبحانه وتعالى لا يأتي القبيح ولا يفعل القبيح، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يظهر المعجزات على أيدي الكذابين.
    وهذا رد على الأشعرية لأن من مذهب الأشعرية أن السحر خارق ومعجزة، فما يفعله النبي وما يفعله الساحر كلاهما خارق للعادة، لكن الفرق بينهما أن الأشاعرة يرون أن النبي يقترن بخرقه للعادة ادعاء النبوة، أما الساحر فلا يستطيع أن يدعي النبوة، ولو ادعاها لأبطل الله سحره، وهذا كلام غير معقول، فما المانع للساحر من أن يدعي النبوة ويبقى سحره؟!
    قالت: الأشعرية : إن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، فما دام يقول: أنا ساحر فليسحر كما يريد، فإذا قال: أنا نبي وهذه آيتي فإن الله سيبطل سحره في ذلك الوقت؛ وهذا شيء لا رئي ولا سُمِعَ ولا يتصور بالضرورة؛ لأنه قد يعقل أن يوجد في حالة أو حالتين مثلاً.
    فأرادت المعتزلة أن ترد عليهم فقالت: من تقرير أصل النبوات أن نجزم بأنه لا خوارق أصلاً؛ فلا معجزات ولا كرامات؛ لأننا لو قلنا هذا لفتحنا الباب للكذابين والدجالين، فالأفضل أن ننفي المسألة من أصلها، ونقول: إن الله عدل، ومن العدل ألا ننسب إليه أن يظهر المعجزات على أيدي الكذابين.
    فنقول للمعتزلة : أنتم رددتم باطلاً بباطل، فكلا المذهبين خطأ وغلط وضلال، وأمر النبي أجلى وأشهر وأعظم من أن يختلط بالساحر أو الدجال.
    وكما لا يمكن أن يخطئ الناس فيقولوا: السماء أرض والأرض سماء، أو يقولوا: إن الليل ضوء والنهار ظلام، فكذلك لا يمكن أن يختلط النبي بالساحر ولا أن تختلط الآيات والبراهين التي يظهرها الله ويعطيها لأنبيائه بما يفعله الدجالون والمشعوذون على الإطلاق.
    مع أن السحر حق واقع، فالسحرة يفعلون أشياء ولها تأثير؛ كما ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن: ((فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ))[البقرة:102] ولكن: ((وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[البقرة:102] فالسحر حق وله تأثير، ولكن فرق كبير بينه وبين الآيات التي يجريها الله سبحانه وتعالى على أيدي أنبيائه ورسله، فلا خلط بين هذا وذاك، وقد سبق تفصيل هذا حين تعرضنا لمبحث النبوات فيما مضى.
    تقول المعتزلة : إن الله سبحانه وتعالى عدل، ومن عدله أنه لا يعذب أطفال المشركين بفعل آبائهم، والذي جعلهم يقولون هذا هو أن الخوارج النجدات -أتباع نجدة- والأزارقة -أتباع نافع بن الأزرق - يقولون: إن أبناء المشركين في النار تبعاً لآبائهم؛ لأن الله تعالى قال على لسان نوح: ((وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا))[نوح:27].
    ويقصد الخوارج بالمشركين في قولهم: (إن أبناء المشركين... إلخ) المسلمين الذين ليسوا على مذهب الخوارج .
    فردَّ عليهم المعتزلة وقالوا: ليسوا بكفار، لأن الله عدل؛ فكيف يعذبهم بذنوب آبائهم؟! فـالمعتزلة خالفوا الأشعرية والخوارج في هذه المسائل، لكن المعتزلة ردوا الباطل بباطل، وجعلوا الباطل الذي جاءوا به وأصلوه هو الحق، وجعلوه هو الدين والشرع الذي يجب أن يتبع، والذي من خالفه فإنه إما كافر وإما فاسق، وأقل ما يقال: إنه مخطئ.