توجيه ما ذكر في القرآن والسنة من الاستغفار للكافر
وأما استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، كما في قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ))[التوبة:114]، فقد بين الله سبحانه وتعالى أنه كان عن موعدة وعدها إياه، ((فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ))[التوبة:114].وكذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه، وهو في الصحيحين ، فقد قال رضي الله عنه: ( لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه )، وقد كان عبد الله بن أبي منافقاً، ولم يكن مشركاً كما كان أبو طالب ، وإنما كان منافقاً يظهر الإسلام وهو يبطن الكفر، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قال: ( فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! أعدد عليه قوله ) أي: أخذ يعدد على النبي صلى الله عليه وسلم ما قال يوم أحد ، وما قال يوم المريسيع ، وما قال يوم الخندق ، وقد قال أقوالاً عظيمة، فكان يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: هو الذي يقول هذا، أتصلي عليه؟! قال: ( فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وانظر إلى كمال شفقته على ذلك الميت وكمال حلمه عن هذا الحي الذي وثب إليه يذكره بهذه الأمور صلوات الله وسلامه عليه، فما أحلمه وما أكرم خلقه! قال: ( أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه، قال: إني خيرت فاخترت ) أي: ما منعت عن الاستغفار ( لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ) يعني قوله تعالى: (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ))[التوبة:80]، فما أكمل رأفته وشفقته صلوات الله وسلامه عليه! فانظر إلى شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينال الناس مغفرة الله لا أن ينالهم عذاب الله عز وجل، وهذا منهج للدعاة، فينبغي أن نحرص أشد الحرص على أن يتوب التائب وأن يستغفر المذنب وأن يعفو الله تعالى عنه وأن يدفع عنه العذاب، لا أن نحرص على إنزال العذاب أو العقوبة بالناس في الدنيا أو في الآخرة، لا العقوبات الشرعية المقدرة التي بأيدي الناس، ولا العقوبات الكونية التي يقدرها الله سبحانه وتعالى من عنده، والأصل الحرص على العفو والعافية لنا ولكل المذنبين رجاء أن يتوب الله تعالى عليهم وأن يغفر الله لكل مسلم، فنبذل لذلك أي جهد نستطيعه من الائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وهذا لا يتنافى مع الغلظة على المنافقين والغلظة على أهل البدع؛ إذ بعض الناس يخلط بين الأمرين، نعم لابد من الإغلاظ على المنافقين والإغلاظ على أهل البدع وزجرهم وإقامة الحجة عليهم وهجرهم بما فيه المصلحة، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة ، وقد دلت عليه نصوص كثيرة، ولكننا ونحن نعاقب أو نرجم أو نجلد أو نزجر أو نهجر غرضنا الإصلاح، وأملنا أن يتوب وأن يهتدي المجرم، فالمرجوم لما هرب من الحجارة قال صلى الله عليه وسلم: ( هلا تركتموه؟! ) وهو قد رجم عن إقرار لا عن بينة.فلا تنافي بين الأمرين، فيمكن أن تكون أشد الناس حرصاً على إقامة الحق وإقامة حدود الله، وفي نفس الوقت تكون من أرأف الناس وألطف الناس وأسمحهم وأحرصهم على أن يهديهم الله سبحانه وتعالى، فلا يعاقبون بيدك ولا بعقوبات الله الكونية.يقول عمر رضي الله تعالى عنه: ( فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: (( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ))[التوبة:84] إلى قوله: (( وَهُمْ فَاسِقُونَ ))[التوبة:84]، قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم )، يعني أنه بعد ما نزلت وافقت قوله ورأيه.وهذا ينطبق على من مات الآن، إلا أنه قد يشكل على بعض الناس أمر المنافقين، حيث كان حذيفة رضي الله عنه يترك الصلاة عليهم ويصلي عليهم غيره من المسلمين، ولا إشكال في ذلك في الحقيقة؛ لأننا إنما نتحدث عمن ظهر نفاقه وزندقته وكفره، لا عمن خفي أمره على بعض الناس وظهر لبعضهم، فيصلي عليه من خفي عليه أمره، ولا يصلي عليه من عرف حاله.