وهناك أدلة خاصة تدل على مكفرات خاصة من الذنوب، منها ما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم ).
فالمصيبة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي فقد الإنسان لأحب الناس إليه، والغالب أن الإنسان يكون أبناؤه أحب شيء إليه، ولهذا ابتلى الله تبارك وتعالى وامتحن الخليل عليه السلام بذبح ابنه، فإذا فقد المرء المسلم ثلاثة من ولده؛ فإن الله تبارك وتعالى يكفر بذلك عنه خطاياه، فلا يدخل النار إلا تحلة القسم.
وهناك مكفر آخر نص عليه، وفيه من الرحمة والحكمة الربانية الشيء العظيم، فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم ( دخل على أم السائب -أو أم المسيب - فقال: مالك يا أم السائب -أو أم المسيب - تزفزين؟! -أي: ترتعدين- قالت: الحمى لا بارك الله فيها )، وهكذا يألم الناس حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان لا يريد الألم ولا يريد أن يتعرض لهذا الشيء، وإذا أصابه ألم فقد يخرج من العبارات ما يدل على ألمه، فهي لم تتحمل ولم تطق الحمى، فقالت: لا بارك الله فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبي الحمى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ).
فانظر إلى هذه الرحمة الربانية، فالحمى من أكثر الأمراض شيوعاً؛ لأن الغالب أن الحمى وزيادة الحرارة مصاحبة للمرض، وإن كان هناك أمراض -نسأل الله أن يعافينا وإياكم منها- قد يكون فيها انخفاض للحرارة، لكن الغالب على الناس هو ارتفاع الحرارة في أبدانهم إذا مرضوا، وهذا دليل على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، فهذه من المكفرات التي تقع وتعرض لكثير من الناس وهم في غفلة عنها لا يعلمون أنها رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأن عموم الابتلاء بها من مقتضى رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، فـ كلما كان البلاء أعم كانت الرحمة به أعم، وهذا من عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى وسعتها وشمولها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ) والذي نراه كله من آثار الرحمة التي لا يسع مقام لتفصيلها، إنما هو أثر من آثار رحمة واحدة من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال تعالى: (( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ))[الأعراف:156]، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمنا برحمته.
فالحمى هذه يكرهها أكثر الناس، ويسارعون إلى العلاج منها، ولا ينكر السعي للعلاج منها، لكن المقصود أن من ابتلي بها عليه أن يصبر ويحتسب، وليثق بوعد الله كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وماذا تريد من أمر يقدم لك هذه الهدية العظيمة وهذا الفضل الكبير فيذهب الخطايا كما يذهب الكير خبث الحديد أكثر من ذلك؟!
ومناسبة ذكر الكير لكونه حاراً، والحرارة تصهر الحديد فيتطاير ويذهب عنه الخبث، ويبقى النقي منه، وكذلك هذه الحرارة كأنها كير يوقد على جسم الإنسان فيتطاير منه الذنوب، وهي تعم جميع الجسد، فتخرج ذنوب الرأس -وما أكثرها- وما وعى، والبطن وما حوى، وذنوب السمع وذنوب البصر: (( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ))[الإسراء:36]، وذنوب اليدين، وذنوب الرجلين، وذنوب الفرج، فهذه الحمى تعم جميع الجسد، فتعم -بإذن الله تبارك وتعالى- جميع الخطايا فتذهبها وتنقي الإنسان منها كما ينقي الكير الحديد فيذهب خبيثه ويبقي جيده، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
وهناك أدلة أخرى كثيرة، والمقصود من هذه الأحاديث الصحيحة التنبيه على كلا النوعين؛ أعني: ما دل على التكفير بعموم المصائب، وما دل على التكفير بمصائب خاصة.