المادة    
قال المصنف رحمه الله: [فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل؛ فنفوا عن الله كل صفة؛ تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام].
  1. طريقة المعتزلة في نفي الصفات

    أول أصل عند المعتزلة : هو نفي صفات الله سبحانه وتعالى، وتبعهم في ذلك الشيعة .
    يقولون: إن النصارى -وقد أخذوا ذلك عن يوحنا أو عن سيسويه- قد احتجوا على المسلمين؛ فقالوا لهم: إنكم تقولون: عيسى كلمة الله: ((بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ))[آل عمران:45] وتقولون: القرآن كلام الله وهو غير مخلوق، وفي نفس الوقت تعتقدون أن عيسى مخلوق وهو روح من الله وكلمة منه؛ فالنصارى يلزمون المسلمين إذا قالوا بأن الله يتكلم أن يقولوا: إن عيسى إله، لأنه كلمة الله، كما أن القرآن كلامه، لأن المسلمين يقرون أن عيسى كلمة الله، فيلزمهم أن يعتقدوا أن كلمة الله إله مثله.
    فقال المعتزلة : نفر من هذا فنقول: إن عيسى مخلوق، وإن القرآن مخلوق؛ حتى لا يكون هناك تعدد في الآلهة، وقالوا في جميع الصفات مثل ذلك.
    وقالوا: إذا قلنا: إن الذات قديمة ونحن نقول: إن الله تعالى ما سمى نفسه القديم، وإنما سمى نفسه الأول؛ قال تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ))[الحديد:3] وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء} لكنهم يقولون: (القديم) اعتماداً على عبارات فلاسفة اليونان فهم يقولون: إذا قلنا: الذات قديمة، وقلنا: هو العليم، والحكيم، والعزيز، والرحمن، والرحيم، والقاهر، والمتكبر، والجبار، وغير ذلك من الأسماء، استلزمت هذه الأسماء صفات، وهي العلم والحكمة والعزة والرحمة.. إلخ، وإذا وصفنا الله بصفات متعددة قديمة، لزم من ذلك تعدد القدماء، فيلزم تعدد الآلهة، وذلك محال والقول به كفر، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فقالوا بنفي جميع الصفات، وإثبات الأسماء، وهذا القول منهم مبني على أن الصفات غير الموصوف، وأن تعددها يستلزم تعدد الموصوف، فهو عندهم عليم بلا علم، عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة... إلخ.
    فإن قيل: إن الأسماء ستكون متعددة وكثيرة، فيلزم المحظور الذي فررتم منه، قالوا: أسماء الله مترادفة، وليس لأي اسم منها معنى خاص، فلو سمينا أحداً: محمداً، وسميناه أيضاً: عبد الله، فدعوناه تارة محمداً وتارة عبد الله؛ فإنه هو هو، وليس في أحد الاسمين هناك معنى يختلف عما في الاسم الآخر، فلو قلت: العزيز، فهو مثل قولك: الرحيم، وهو مثل قولك: الحكيم، ومثلما لو قلت: الخبير، لا فرق في ذلك، فالكل في المعنى يساوي الله؛ فهو مرادف له فقط، وليس له معنى مستقل، وقد قال المعتزلة بذلك فراراً منهم -بزعمهم- من تعدد القدماء.
  2. الرد على شبهة تعدد القدماء عند المعتزلة

    إن هذه الشبهة -الفرار من تعدد القدماء- التي بنى عليها المعتزلة إنكارهم للصفات هي شبهة باطلة، لكنهم أسسوا عليها ما لا يحصى من الضلالات.
    ومن أسهل الردود عليهم أن يقال: هذا محمد (أو زيد أو عمرو)، ويمكن أن نصفه بأنه: طويل، عليم، سميع، جواد، كريم، شجاع، وغير ذلك من الصفات، فهل تتعدد ذاته إذا وصفناه بكل هذه الأوصاف، أم تبقى ذاتاً واحدة؟ فإذا قالوا: بل تبقى ذاتاً واحدة، قلنا: فكذلك الله سبحانه وتعالى الذي له المثل الأعلى في السماوات والأرض واحد، وأسماؤه وصفاته متعددة.
    لكن قد أعمى الله بصيرتهم، وظنوا أن الاسم له وجود حقيقي في الخارج، فظنوا أنهم -إذا أثبتوا أسماء كثيرة- يثبتون ذوات كثيرة، وهذا من نتاج العقول السقيمة السخيفة، التي تأثرت بـفلاسفة اليونان، فقد كان أفلاطون -صاحب نظرية المثل- يرى أن كل شيء في الوجود الذهني له مثاله في الوجود الخارجي، فأخذ المعتزلة ذلك، وبنوا عليه أنه يجب أن ننفي عنه سبحانه وتعالى الأسماء والصفات، بمعنى: أن الأسماء تبقى حروفها لكن حقائقها ومعانيها تنفى، وتكون مرادفات لاسمه الذي هو الله -تعالى الله عما يصفون- وهذا هو الأصل الأول عندهم، وهو التوحيد.
    وأصول المعتزلة الخمسة التي ذكرها المصنف رحمه الله قد أجمعت عليها المعتزلة مع أن بينهم خلافات كثيرة، حتى إن بعضهم يكفر بعضاً، فـعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء كل منهما يرد على الآخر، وأبو الهذيل العلاف يكفر النظام، والنظام يكفر العلاف وهما أكبر من أسس هذا المذهب؛ فمع ذلك أجمعوا على هذه الأصول الخمسة في الجملة، ومما أجمعوا عليه تبعاً لأصل التوحيد القول بخلق القرآن، والقول بنفي رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأخذ هذا المذهب عنهم الشيعة والخوارج؛ فـالشيعة والخوارج إلى هذا اليوم يقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، ويقولون: من قال: (إن الله يرى في الآخرة) فهو كافر، ويؤولون ويحرفون الآيات في الرؤية، وقد سبق مبحث الرؤية بالتفصيل والآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة عليها.
    قال المصنف: "فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض الذي هو الموصوف والصفة عندهم" والجسم أو الجوهر: هو الشيء الذي يبقى بذاته، أو يمكن أن يتصور بذاته مستقلاً عن صفاته، والأعراض: هي الصفات، فمثلاً: السارية ذاتها هو الجرم القائم المنتصب، والأعراض كونها طويلة أو قصيرة، حمراء أو زرقاء، وربما تغير لونها، لكن الذات لا تتغير، فالمتغير هو الأعراض، وهي الصفات، والذات هي الجسم، لكنهم أخذوا اصطلاحات الفلاسفة اليونان؛ فبدلاً من أن يقولوا: الموصوف، قالوا: الجسم أو الجوهر، وبدلاً من أن يقولوا: الصفات، قالوا: الأعراض، وفي الواقع لا يمكن أن توجد ذات ليس لها صفات، فلا توجد ذات خارج الذهن ليس لها صفات، فهذا مستحيل؛ فلا توجد ذات إلا ولها صفات.
    ولذلك هم أنفسهم لما قالوا: ماهية الشيء هي عبارة عن ذاته متميزة عن العرضيات، لم يستطيعوا أن يأتوا بمثال على ذلك؛ حتى قالوا: إن معرفة الماهيات إما متعسر أو متعذر -هذه عباراتهم- والمعنى: من الصعب جداً أن تعرف ماهية الشيء، ولهذا إذا أرادوا أن ينزهوا الله -بزعمهم- قالوا: ننزه الله عن الأعراض، ويعنون بذلك نفي صفات الله سبحانه وتعالى.
    قال: "واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم" معنى هذا الكلام: أن الموجودات عندهم على نوعين: حادث وقديم، فالقديم الذي ليس له أول، والحادث هو المخلوق الذي وجد بعد أن لم يكن، وقالوا: مما يعرف به الحادث من القديم أن الحادث هو الذي تحل به الأعراض؛ أما القديم فهو الذي لا تحل به الأعراض؛ ولهذا قالوا: إذا قلنا: إن الله سبحانه وتعالى حي أو كريم أو رحيم أو ما أشبه ذلك، أو قلنا: إنه يغضب ويرضى وينزل، فقد قلنا بحلول الحوادث بالله، وما تحل به الحوادث فهو حادث، ولذلك قالوا: ننفي جميع هذه الصفات حتى وإن جاءت في القرآن والسنة، فهم ينفونها حتى يسلم عندهم هذا الأصل.
    وانظر إلى تفاهة معتقدهم ومبدأ قولهم في توحيد الله سبحانه وتعالى، فهذا مما أجمعت عليه المعتزلة، وجعلوه الأصل الأول من أصول الدين، وسموه التوحيد، وهو أن تنفى صفات الله سبحانه وتعالى على هذا الأساس.
  3. الرد على شبهة أن إثبات الصفة تشبيه

    قال المصنف: [وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة؛ تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام].
    قالوا: إذا قلنا: إن الله له قدرة -مثلاً- والعبد له قدرة، فقد شبهنا، فلابد أن ننفي القدرة، وإذا قلنا الله له رحمة والعبد له رحمة، فقد شبهنا، وإذا قلنا: الله له علم والعبد له علم، فقد شبهنا؛ ولذلك قالوا: ننفي صفات الله حتى لا نشبه الله سبحانه وتعالى بخلقه، ولهذا حين ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قواعد أهل السنة في نقاشهم ونقدهم؛ قال للمعتزلة: يلزمكم فيما أثبتموه مثل ما يلزمكم فيما نفيتموه، فلو لم تثبتوا إلا أنه موجود؛ فنقول: والمخلوق موجود، فهل تنفون عن الله الوجود، يقولون: نحن نقول وجود الله غير وجود المخلوق، نقول لهم: وكذلك قدرة الله غير قدرة المخلوق، وحكمة الله غير حكمة المخلوق، ونزول الله غير نزول المخلوق، وكل ما ثبت من صفات الله في القرآن والسنة، فهو غير ما هو للمخلوق، ولا إشكال في ذلك، فالله سبحانه وتعالى وصف بعض المخلوقات في القرآن بما وصف به نفسه فقال: ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[الإنسان:2]... وقد قال سبحانه: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا))[النساء:134] فهذا المخلوق سميع بصير، لكن ذلك على قدر حاله من العجز، أما سمع الله وبصر الله، فكما يليق به سبحانه.
    المطر ينزل، والمخلوق ينزل؛ كجبريل عليه السلام، قال الله تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ))[الشعراء:193]، وذكر في الحديث أن الله ينزل إذا كان الثلث الأخير من الليل، وليس نزول الله كنزول جبريل عليه السلام أو أي مخلوق، فالمخلوق له ما يليق به لأنه مخلوق، وله سبحانه وتعالى ما يليق به، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى.
    وهكذا ينهدم أصل هؤلاء المعتزلة في التوحيد بكل سهولة، ويعلم أهل السنة وأهل الإيمان -حتى العامة منهم- بطلان أصل المعتزلة الذي سموه توحيداً.
    وما قالوه في القرآن قد سبق تفصيل القول فيه في مبحث الكلام، وما قالوه أيضاً في رؤية الله ونفيهم لها قد سبق أن أصلناه وقررناه في مبحث الرؤية.