المادة    
قال الشارح: (وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارةً: بسورتي الإخلاص والكافرون، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام).
يعني: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر بهاتين السورتين المعبر عنهما بسورتي الإخلاص، أما أولاهما فهي: الكافرون، (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ))[الكافرون:1-6] وقد يكررها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله بن عمر: (رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً؛ فإذا به يداوم عليها في ركعتي الفجر، فيقرأ في الركعة الأولى بـ(قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية بـ(قل هو الله أحد)).
  1. أقسام التوحيد

    ولكل منهما فضيلة، ونستطيع أن نعرف فضل السورتين، ونطابق بين معناهما وبين ما جاء في حقيقة الإيمان، فنقول: إن التوحيد على نوعين، وقد ذكرنا سابقاً أنه من الممكن أن نقسم التوحيد بحسب الاعتبارات إلى اثنين أو ثلاثة، أو أربعة، ولو أخذنا بالتقسيم الثنائي فهو إما توحيد في المعرفة والإثبات، وإما توحيد في القصد والطلب والإرادة، أو نقول: توحيد علمي اعتقادي، وتوحيد عملي إرادي، فعندما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مفتتح يومه بسورتين تشتمل كل واحدة منهما على نوع من أنواع التوحيد؛ فكأنه استكمل العقيدة، وهذا تعليم لنا أن نستفتح كل يوم بالتوحيد، فنأتي به كله مجموعاً في ركعتين؛ وذلك بقراءة سورة في كل ركعة، وكذلك في ركعتي المغرب، فنكون في أول النهار وأول الليل قد أفتتحنا نهارنا وليلنا بالتوحيد مجموعاً في هاتين السورتين.
  2. توحيد العبادة والإرادة في سورة الكافرون

    فأما النوع الأول -وهو توحيد العبادة والإرادة والقصد والطلب.. إلى آخره-: فهو في قوله: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ))[الكافرون:1-2]، ففيها البراءة المطلقة من الكافرين، وعبادتهم، وإخلاص العبادة لله، فنحن لا نعبد إلا الله، ونستفتح يومنا بذلك، فتخاطب الكافرين، وتتبين بذلك صلة هذا الدين بحقيقتنا ومعيشتنا وواقعنا اليومي المعايش والمباشر، فالمفروض أن كل واحد منا لا يقرأ هذه الآيات مجرد قراءة عابرة، ويهذها كهذ الشعر، ثم يركع؛ لا، بل لا بد أن يعي وأن يتدبر ذلك كل يوم، فيلعن البراءة من الكافرين، ومما يعبدون من دون الله بهذا الخطاب: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ))[الكافرون:1-2]، أي: اعبدوا ما شئتم من دون الله فأنا لا أشارككم في ذلك أبداً.
    وزيادة في التأكيد قال: (( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ))[الكافرون:3] أي: لا مجال للمساومة، ولا تقولوا: نعبد إلهكم وتعبدوا إلهنا، وهذا الذي حدث من المشركين، فقد عرضوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحل هذه المشكلة، ولا تقبل الحلول الوسط هنا، فهذا الأمر وحي لا يقبل الله فيه إلا الإخلاص، (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ))[البينة:5]، فغير ذلك من أي نوع من أنواع الشرك لا يقبل عند الله: ( من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )، فلا يريد الله ذلك ولا يقبله أبداً، وإنما يريد الله تعالى التوحيد الخالص.
    فالواحد منا يستفتح كل يوم يومه أو ليلته بأن يقرأ هذه السور الكريمة بعد سورة الفاتحة؛ التي ذكرنا أن لله حكماً عظيمة في تكرارها كل ركعة، فقد اشتملت على معان عظيمة جليلة، وجوامع العقيدة، فكل أنواع التوحيد والاستقامة والهدى والإيمان بالآخرة وغير ذلك؛ كلها في سورة الفاتحة، ثم نؤكد ذلك بسورة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) في الركعة الأولى.
  3. توحيد المعرفة والإثبات في سورة الإخلاص

    وفي الركعة الثانية نعيد الفاتحة، ثم نقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهذا هو توحيد المعرفة والإثبات، وجاء في بعض الروايات تقديم: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وتأخير: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ولكن الأكثر هو على تأخير: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهي أقصر منها، والعادة أن السور الأطول تكون في الركعة الأولى.
    فالمهم: أننا نقرأ في الركعة الثانية: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ))[الإخلاص:1-2].. الآية.
  4. سبب نزول سورتي الإخلاص والكافرون

    وسورة الكافرون نزلت عندما قال المشركون: (يا محمد! تعال كي نتفاوض ونتصالح فتعبد إلهنا سنة)، ونعبد إلهك سنة، فنزلت البراءة منهم مطلقاً.
    وأما سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقد نزلت لما قال المشركون: (انسب لنا ربك، أو صف لنا ربك) فهم يتساءلون عن حقيقة ما تعبده أنت، أي: من هو المعبود الذي تعبده، فهو هنا في المعرفة، وهناك في الإرادة والتوجه والقصد والطلب، وأما هنا ففي حقيقة المعرفة.
  5. بيان معاني مفردات سورة الإخلاص

    ومعنى: (أحد): لا شريك له، وكلمة (أحد) أبلغ وأعظم من كلمة (واحد)؛ لأن أحد لا تحتمل اثنين، فهو متفرد وليس له شريك، ولا نظير، ولا ثاني.
    (الصمد): له عدة معان، فيطلق على السيد المطلق التصرف، وقيل: هو الذي تصمد إليه الخلائق، فهو يدل على كمال الغنى، فكل ما عداه مفتقر إليه، ويصمد له في حاجته، فهو مصمود له تبارك وتعالى، وقيل: الصمد: المصمت الذي لا جوف له، وليس كما تتخيل عقولنا من هذه الأشياء المخلوقة؛ التي لها أبعاد، أو لها جوف وفراغ بداخلها، فالله هو الصمد الذي لا جوف له.
    والمقصود: أن الله تعالى ليس له نظير، ولا ند، ولا شبيه، فهو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
    ثم قال: (( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ))[الإخلاص:3]، وهذا فيه رد على كل طوائف الضلال المعروفة في الدنيا؛ فإن اليهود قالت: عزير ابن الله، ودعوى: أن لله ولداً دعوى قديمة، فالله يقول: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))[التوبة:30]، فهناك أمم قبل اليهود و النصارى ادعت أن لله ولداً، وأن الله يلد، والآية تدل على ذلك، والتاريخ يؤكد هذا، فإن المصريين القدماء -قبل التوراة، وقبل موسى عليه السلام- كانوا يعتقدون ذلك، وكذلك اليونان قبل أن يعرفوا النصرانية وغيرهم؛ كانوا يعتقدون ذلك، فالإله الأكبر يسميه المصريون (رَع)، أو (إيزيس)، أو (حوريس)، وعند الرومان (جويبتر) وغيرها، والفرس والبراهمة يجعلون الإله يتكون من ثلاثة أقانيم: الأكبر: هو براهما، والآخر: فشنو، والثالث: سيتا.
    فالتثليث، ودعوى النبوة عقائد قديمة قبل اليهود و النصارى ، لكن العجب أن يعتقدها أهل الكتاب؛ فضلاً عن المسلمين، والحمد لله لم يقل بذلك أحد من المسلمين، فكونه تعالى ينفي عن نفسه الولد فهذا فيه تكذيب لكل من كفر بذلك وهم اليهود و النصارى ، ومن سبقهم.
    ثم إن العرب ادعت: أن الملائكة بنات الله، (( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ))[الزخرف:19]، فوقعوا في الضلال من ناحيتين: من دعواهم: أن لله تعالى بنات، ومن دعواهم: أن الملائكة إناث، فرد عليهم الله تعالى في الموضعين، أي: كيف حكمتم أن الملائكة إناث، ثم كيف قلتم: إن هؤلاء الإناث بنات الله تعالى؟! وهكذا يكون تخبط العقل البشري، ثم ما أسوأ حكمهم حين يقررون ذلك وهم الذين إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم!
    فجعلوا لله الأدنى الذي يكرهونه، ويأنفون منه، وجعلوا لهم البنيين الذين يحبون: (( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ))[الإسراء:40]، وهذا هو الجهل والضلال المركب من جميع الجهات، فهذه السورة تنفي زعم العرب، وزعم اليهود و النصارى وغيرهم فتقول: (( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ))[الإخلاص:3].
    ثم قال: (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ))[الإخلاص:4]، وهذه غاية البيان في أن الله تعالى لا نظير له، ولا كفؤ، ولا ند: (( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، فلا يمكن ذلك لا بالاسم، ولا بما يدل عليه الاسم من الصفات، فالله تعالى متفرد بصفات الكمال والجلال، ونعوت العظمة، فلا يشاركه فيها أحد، فهو لم يكن له كفواً أحد مما يدعي المدعون، فمهما ادعى الناس من آلهة فأيها يمكن أن يكون شريكاً لله تعالى، أو أن يكون مثل الله؟!
  6. ضعف الآلهة المعبودة من دون الله وافتقارها إليه سبحانه

    فإن قالوا: (هبل)؛ وهو كبير الأصنام، فنقول: ما هو إلا حجر، فكيف يدعى أنه مثل الله؟! وإن قيل: إن الآلهة هي الكواكب، فالكواكب من خلق الله؛ لذا قال إبراهيم عليه السلام: (( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ))[الأنعام:76]، فالذي يكون إلهاً لابد أن يراك ويسمعك، ويستجيب لك، وأما الذي يأفل ويغيب ويطلع، ويأتي ويذهب؛ فهذا لا يمكن أن يكون إلهاً، وهو نفسه مخلوق مربوب، والرب الخالق غير ذلك تبارك وتعالى.
    والذين عبدوا الأنبياء وعبدوا الملائكة يقال لهم: كيف تعبدون هؤلاء والله تعالى لم يكن له كفواً أحد من هؤلاء مطلقاً: لا من الأنبياء، ولا من الملائكة، فكلهم مفتقرون إليه ومحتاجون، وهم كما قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57]، فهم يتقربون إلى الله، ويعبدون الله، ويريدون أن ينالوا رضي الله، فكيف تجعلونهم مثل الله؟! وكيف تساوونهم بالله، كما قال: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ))[البقرة:165].
    فأنت عندما تعتقد أنه لم يكن له كفواً أحد فكيف تحب أحداً مثله أو أكثر منه؟! فلا يصح ذلك، وكيف تعدل بينه وبين أحد من خلقه؟! كما قال تعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ))[الأنعام:1]، وقال الله في حق المشركين: (( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:97-98]، فكيف تسوونهم به والله تعالى ليس له شركاء يخلقون كخلقه، ولا يرزقون كرزقه، ولم يكن له في السموات ولا في الأرض من شريك، ولا ظهير، ولا معين إلى غير ذلك مما بين الله تعالى في أكثر من آية مما قطع به دابر الشرك، ودعواه، وما يزعمه أهله.
    فهو تعالى الموصوف بهذه الصفات العظيمة، ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن، وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتاباً مستقلاً في ذلك سماه: جواب أهل العلم والإيمان في كون قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، فإذا قرأ العبد هاتين السورتين فقد جمع نوعي التوحيد في أول يومه، وفي أول ليلته.
  7. العلاقة بين حديث جبريل وسورتي الإخلاص

    والعلاقة بين حديث جبريل عليه السلام وهاتين السورتين: أن حديث جبريل يوضح الإيمان وحقيقته، وكذلك السورتان، فهما توضحان ما دل عليه الحديث من إفراد الله تعالى بالعبادة من عباده، وإخلاص الدين له وحده لا شريك له من خلقه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.