المادة    
فجبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن حقيقة الإيمان الشرعية، والنبي صلى الله عليه وسلم أجاب الجواب الشامل والعام، وهذا -كما سنبين- لأن حديث جبريل جاء في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون أشمل وأكمل وأوضح التعاريف، وإلا فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد آمنوا في مكة ، وآمنوا في المدينة ، ومرت عليهم السنوات، فليس موضوع الإيمان بجديد عليهم، لكنه الآن يوضح لهم أشمل وأوضح صور الإيمان، والعلاقة بينه وبين الإسلام؛ وإلا فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) وهم مؤمنون من قبل، ويعرفون دينهم من قبل؟!
فمعناه إذاً: يعلمكم دينكم في أكمل صور التعليم، وأوضح صور هذا الدين؛ بعد أن اكتملت معالمه وأركانه.
  1. ميزات حديث جبريل على غيره من الأحاديث

    فهذا الحديث من أعظم الأحاديث، بل هو أفضل وأشرف حديث في الإسلام؛ لأسباب كثيرة، وقد ذكرناها قبل، وهو أفضلها من عدة جهات، فإذا نظرنا من جهة موضوعه: فإنه أشتمل على مراتب الدين الثلاث وهذه لم يشملها حديث آخر، فإن الأحاديث الأخرى تذكر مرتبة واحدة.
    ومن حيث وقته: فإنه كان في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أشمل معنى، ولا نقول: إنه ناسخ؛ لأن هذه الأمور لا يدخلها النسخ، وإنما هي تكمل شيئاً فشيئاً، كما قال تعالى: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ))[المائدة:3]، فهنا تكتمل الشرائع، فبهذا الحديث اكتمل معنى ومفهوم الإيمان.
    ومن جهة أخرى أيضاً: أنه اشتمل على بيان حقيقة الإيمان الظاهر والباطن، فذكر أصول الشرائع الباطنة، وأصول الشرائع الظاهرة؛ لأنه اشتمل على ذكر أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة.
    وكذلك من ناحية: أن هناك أحادث كثيرة يحدث بها النبي صلى الله عليه وسلم أو يسأله السائل فيجيب، وأما هذا الحديث فله ميزة أخرى وهي: أن الرسول الملكي الذي أرسله الله تبارك وتعالى بهذا الدين، وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بهذا الكتاب وهذا القرآن، وهو أفضل الملائكة عند الرحمن تعالى؛ جاء بنفسه، ولم يأت ليخبر، وإنما ليستعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقرره على ما يقول، ثم ينصرف، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )، فله مزية من جهة: كيفية التعليم.
    فكثير من الأحاديث يكون التعليم فيها مباشراً، فتقول لأحد مثلاً: اعلم أن الدين كذا، أو افعل كذا، أو لا تفعل كذا، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وقال للرجل: ( قل آمنت بالله ثم استقم )، وقال للآخر: ( اتق الله حيثما كنت )، وقال للآخر: ( لا تغضب )، ويخطب على المنبر، يعظ ويذكر ويبين لأصحابه ما أنزل الله عليه، فهذا أسلوب تعليم مباشر، لكن هذا الحديث له مزية في التعليم، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني وقال لي: كذا وكذا؛ كما في حديث: ( إن روح القدس نفث في روعي: إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ).
    إذاً فهذا الحديث يختلف عن غيره من الأحاديث بهذه المزية، فنجعلها المزية الأولى؛ لأنها تتعلق بشكل وكيفية التعليم.
    إذاً: فهذه الرسول الملكي؛ الذي هو أفضل ملائكة الله تعالى، وهو الروح الذي ينزل بالروح من الله تعالى، فقد سمى الملك روحاً، وسمى ما ينزل به الملك روحاً أيضاً، وهو القرآن والذكر؛ لأن به تكون الحياة، وهذا كله قد تقدم، فالرسول الملكي هذا هو أفضل الملائكة، ويأتي إلى أفضل رسول بشري، وبحضرته أصحابه الكرام، وكلهم ينظر إليه ويعجب منه لهذه الهيئة الغريبة، وهذا أدعى أن يتفطنوا لما يقول، ففيه نوع من شد الانتباه، كما قال عمر .
  2. أشمل روايات حديث جبريل

    وأشمل الروايات في ذلك ما كان من طريق عمر، وإلا فقد ورد في البخاري من طريق أبي هريرة. وقولهم: إنه (متفق عليه) لنا عليها ملحظ وسنبينه، فالرواية الأشمل ما جاء في أول صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه رضي الله عنهما قال: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. )، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً كعادته في صدر أصحابه، وهم حوله يتلقون منه النور والهدى والإيمان، فإن قدم سائل أو جاء زائر أو حدث أي أمر فإنهم ينتظرون ماذا سيخبرهم عنه، وماذا سيقول صلى الله عليه وسلم، ففي تلك اللحظة جاء إليهم رجل لا يدرون من أين جاء، وقد كان هذا الرجل: ( شديد بياض الثياب، وشديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ).
    فهذه ميزات عجيبة، وهي أدعى إلى أن ينتبه الجميع له، وينظرون ماذا يريد، فليس بقادم من سفر بعيد، وهم يعرفون الناس أحياناً من اللهجة، فيعرفون أن هذا جاء من نجد ، أو غطفان، أو اليمن ، أو خيبر ، لكن هذا رجل غريب، فهو شديد بياض الثياب، ولا يلاحظ عليه أنه تكلف وعانى المتاعب، وشديد سواد الشعر، فليس عليه أثر السفر أو المشقة، ولو لم يكن مسافراً وكان من أهل المدينة لعرفوه، وأما هذا الرجل فلا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد؛ لأن كل واحد منهم ينظر إلى الآخر، وينظر إلى الرجل؛ فكأنهم يقولون: من هو فإننا لا نعرفه، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: ( أتدرون من الرجل؟ ) قالوا: لا يعرفه منهم أحد.
    ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس كهيئة التشهد، ووضع يديه على فخذيه، وجلس جلسة المتأدب المتعلم، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يستحب أن يجلس في خطبة الجمعة هكذا.
    ثم ما زاد العجب والغرابة أنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور عامة جامعة عظيمة، ثم بعد أن يجيبه يقول له: صدقت؛ في كل أمره، قال عمر : ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ).
    إذاً: فهذا ليس بجاهل، وليس بمستعلم ومستفهم، وإنما هو في الحقيقة مقرر، فالله تعالى أنزله بهذا الدين شيئاً فشيئاً حتى اكتمل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر وكأنه في حالة المراجعة الأخيرة، والعرضة الأخيرة؛ كما حصل ذلك في القرآن، وهذه عرضة شاملة لحقائق الدين، وأصول الدين التي تتفرع منها كل الشعب.
  3. التنبيه على غلط من قال: إن حديث جبريل متفق عليه

    وننبه هنا إلى أن قولهم: (متفق عليه) ليس على إطلاقه؛ لأن البخاري إنما رواه عن أبي هريرة ، وأما مسلم فهو الذي رواه باللفظ المحفوظ المتداول من طريق عبد الله بن عمر عن أبيه.
  4. أوفى المراجع لطرق حديث جبريل وشرحه

    ومن أراد أن يطلع على طرقه فيمكنه أن يرجع إلى مرجعين: الأول حديثي، وهو: كتاب الإيمان للحافظ ابن مندة ، فقد جاء بطرق الحديث كلها تقريباً مع اختلاف ألفاظها، فمنها ما هو نفس إسناد مسلم ومنها ما هو غير ذلك.
    والكتاب الثاني: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب فهو أوفى وأشمل شرح، وقد ذكر أيضاً الألفاظ وغير ذلك، فهو أشمل من شرح الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، ومن شرح النووي على صحيح مسلم ، فهذان المرجعان منهما يمكن أن تؤخذ فكرة عن هذا الحديث، وعن أهميته، هذا من جهة كيفية التعليم.
  5. ميزة حديث جبريل من الناحية الزمنية

    وأما من جهة الزمن: فقد جاء في بعض الروايات أنه كان في آخر عمره؛ كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ، وأنه كان قبل وفاته بنحو ثمانين ليلة؛ بعد انصرافه من حجة الوداع، فقد جاءه جبريل بعد منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة ، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها بضعاً وثمانين ليلة، إذاً فهو في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أنه أفضل الأحاديث من جهة أنه أجمعها وأشملها، فهو لم يتحدث عن الإيمان وحده، ولا عن الإسلام وحده، ولا عن بعض أركانه، وإنما تحدث عنها كلها كما سنبين من المزايا الأخرى.
  6. من مزايا حديث جبريل شموله لجميع مراتب الدين

    المزية الأخرى: أنه شمل مراتب الدين الثلاث كلها، وأما ما قبله فإنه إما أن يأتي بمرتبة من مراتب الدين وإن كانت كاملة، وإما أن يأتي ببعض منها، مثال ذلك: حديث ابن عمر : ( بني الإسلام على خمس )، فقد ذكر أركان الإسلام الخمسة فقط، وحديث: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) وهذا مجمل، وذلك مفصل، والمفصل يقدم على المجمل.
    ومثل قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، ولم يذكر الصيام، ولا الحج، فالإسلام نفسه لم يذكره هنا كاملاً، ولم يذكر الإيمان والإحسان، وإنما فيه: كيف يمكن للإنسان أن يعصم دمه وماله، وأما هنا فالكلام هو عن حقيقة الدين في ذاته، فالرجل قد يعصم دمه وماله بأمر لكن قد لا يكون هذا الأمر قد اكتمل في حقيقته عنده، فهذا شيء، وهذا شيء آخر.
    ومن الأحاديث التي تذكر بعض الأركان حديث: ( الإيمان بضع وستون شعبة )، وهو حديث عظيم، وهو من أعظم الأحاديث في الإيمان، لكنه ذكر شعب الإيمان ولم يذكر مرتبة الإسلام، ولا مرتبة الإحسان، فكل حديث له مزية لكن حديث جبريل أفضل.
    ومثل حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقال له: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، وإذا فعلوها فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بهذا فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس )، ولم يأت ببقية المراتب، وبعض الأحاديث تذكر ركناً واحداً فقط مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( من لقيته خلف هذا الجدار يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فبشره بالجنة )، وفي الرواية الأخرى: ( من قال: لا إله إلا الله يصدق لسانه قلبه، ويصدق قلبه لسانه؛ دخل الجنة )، أو (هو أسعد الناس بالشفاعة)، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيأتي بركن واحد من أركان الإيمان، ولا يعني هذا أنه يترك بقية الأركان، فهي تدخل فيه، فالمهم أنها لم تفصل كما فصل هذا الحديث.
    وكما في حديث: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء )، فذكر أهمية الإحسان ولم يذكر معه البقية، فبهذا يتضح فضل ومزية هذا الحديث: من ناحية فضله، وشموله لجميع مراتب الدين الثلاث.
  7. من مزايا حديث جبريل المشافهة بالوحي على مسمع ومرأى من الصحابة

    وذكرنا سابقاً: أن فيه المشافهة بالوحي على مسمع ومرأى من الصحابة، فكما أن القرآن وحي يأتي به جبريل فكذلك السنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ).
  8. اشتمال حديث جبريل على أصول الإيمان الظاهرة والباطنة

    وذكرنا سابقاً: أن هذا الحديث اشتمل على أصول وحقائق الإيمان الظاهر والباطن، وإن شئنا قلنا: أعمال القلب والجوارح معاً، فالدين مركب منهما معاً، فلا انفكاك لهذا عن هذا، فلا يمكن أن يقول: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ وهو لم يشهد: أن لا إله إلا الله أو وهو لم يصلِّ، ولم يصم، ولم يزك، ولا يمكن لأحد أن يشهد: أن لا إله إلا الله، ويصوم، ويصلي، ويزكي، وهو في الحقيقة لم يؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، فهذا منافق.
    إذاً فقد اشتمل على بيان حقيقة الأركان الظاهرة والأركان الباطنة معاً، لكن لو جئنا نشرح بعض الأحاديث الأخرى كحديث ابن عمر في الأركان الظاهرة لقلنا: وهذا يقتضي الإيمان بالله وملائكته وكتبه.. ونضطر أن نرجع إلى هذا الحديث، ولو جئنا لنشرح حديث وفد عبد القيس فلابد أن نقول: إنه يبين الإيمان، وتفسيره بالأعمال الظاهرة، ولابد فيها من الإيمان الباطن، ولكن حديث جبريل بيَّن هذين المعنيين.
  9. من مزايا حديث جبريل ذكره لمرتبة الإحسان

    ومن مزايا هذا الحديث أيضاً: أن الأحاديث الأخرى تشتمل على أمور الإسلام والإيمان، وأما هذا الحديث فقد ذكر أعلى المراتب معها أيضاً، فهو يدخل فيما قلناه من كونه ذكر المراتب الثلاث، فقد بين حقيقة الإحسان، لذلك نجد تحت معنى الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؛ فكل ما تكلم به في العبادة، والتقوى، والمراقبة، والمحاسبة، والسلوك -كما يسميه الصوفية مثلاً- والحقائق الإيمانية، وكل ما يدعون من أذواق، أو مواجيد، أو ما أشبه ذلك مما خلطوا فيه الحق بالباطل، أو كان حقاً محضاً، أو باطلاً محضاً؛ كل هذه الحقائق تجمعها هذه الجملة النبوية العظيمة التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الإحسان، وأقره عليها جبريل: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، فكل هذه الأمور ترجع إلى هذه اللفظة، فنحن نقول: إن هذا الحديث أفضل لأنه اشتمل على كل المعاني، وأما الآية وهي: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]، ففيها تفريق بين الإيمان والإسلام، وهذا حق، وهي قبله -أي: قبل هذا الحديث- فالأعراب قالوا هذا الكلام بعد حنين.
    فالمهم: أن الآية بينت أن بينهما فرقاً، ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا)، فادعى الأعراب درجة الإيمان، (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، فحقيقة أمرهم أنهم في المرتبة الدنيا، فبين مرتبتين، والآية لم تبين أركان كل مرتبة، ولم تأت بالمرتبة الثالثة وهي: الإحسان، ونحن هنا إنما نفاضل بين الحديث وبقية الأحاديث، فنقول: إن هذا الحديث قد ظهرت بذلك مزيته وفضله، واستحق أن يقال: إنه أشرف حديث في الإسلام عامة.
    ونجد هناك أحاديث مخصوصة بفضل أو بشرف معين، كما قال الإمام أحمد في حديث أبي ذر : (يا عبادي!): إنه أشرف حديث رواه أهل الشام ، وحديث أبي ذر هذا له مزايا عظيمة؛ لأنه قدسي، ويشتمل على معاني عظيمة جداً، لكن كلها في باب الإحسان أو الوعظ والتذكير بالله تعالى، والتعريف بالله.
    وأما حديث جبريل فمزيته وفضله مطلقة وغير مقيدة برواية أفراد معينين أو بموضوع معين.