يقول: (ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى). أي: الغالب فيهم وإلا فيوجد من هؤلاء أغنياء، ومن هؤلاء فقراء، لكن الغالب على المهاجرين الفقر؛ لأنهم تركوا أهليهم، وأموالهم، وديارهم بـ
مكة ، إلا من تاجر منهم في
المدينة فأصبح من كبار التجار والأغنياء، وكان الغالب على الأنصار الغنى؛ لأنهم أهل المزارع، وأهل النعمة، وكانت العرب تأتيهم من مضر، ومن
اليمن ، ومن
الشام ليشتروا منهم التمر وغيره، فكانوا في حال نعمة، إلا أنهم بعد أن آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حصل لهم ما حصل من ترك لهذه الدنيا، ولهذا فسر
أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه قول الله تبارك وتعالى: ((
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ))[البقرة:195] على غير ما كان يفهم منها كثير من الناس، فقد فهموا منها أنها في المعركة، [
فعندما خرج رجل من المسلمين لقتال الروم فأخذ يضرب فيهم يميناً ويساراً؛ قال قوم: إن هذا قد ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب : ليس هذا كما تقولون، فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: إن الله قد فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم فلو رجعنا إلى أموالنا ومزارعنا وضياعنا فأصلحناها، فأنزل الله تبارك وتعالى: (( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ))[البقرة:195]، فجعل التهلكة هي ترك الجهاد، والاشتغال بالدنيا]. فالمهم أنهم كانوا أهل نعمة، وكانوا مؤهلين لأن يكونوا من أغنى الناس؛ ولكن شغلوا عن ذلك بالجهاد، فلما فتح الله الفتوح، وجاءت الجزية من كل مكان، وأصبح الجهاد فرض كفاية يقوم به ويتطوع له من يشاء، وجبيت كنوز وجزيات وخيرات الأرض إلى
المدينة وغيرها؛ ظهر ذلك الترف، وظهر ذلك التنعم في الأمة، فكان الأمر كما تقدم.أما في غير ذلك: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (
إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض )، وهذا ما شعر به بعض الأنصار: أنهم فاتهم شيء من الدنيا من جهة المناصب، وليس فقط من جهة المال، فالغالب أن ما فات هو من جهة أنه لم يكن منهم الخلفاء، أو الأمراء، أو ما أشبه ذلك، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر. يقول: (ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ما صاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه) فكأن هذا يرجح جانب الفقر على جانب الغنى.فإذا قلنا: إن المهاجرين أفضل من الأنصار، والغالب على المهاجرين الفقر؛ فيكون الفقر أرجح، فكل الأحاديث تؤدي إلى نفس المعنى، ولكن ليس بالإطلاق وإنما بالنسبية.قال: (ثم كان في المهاجرين أغنياء هم من أفضل المهاجرين). أي: أن ذلك الغنى أحدثوه بتجارتهم، (مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ما صاروا به فقراء بالنسبة إلى غيرهم)، فهم أصل عيشهم الفقر، ولكن حدث لبعضهم من الغنى ما حدث، فيكون هؤلاء قد نالوا درجات الشاكرين، ومقامات الصابرين في آن واحد.