المادة    
فما دام قد تقرر أن أكثر أهل الجنة هم الضعفاء والمساكين، وأن أكثر أهل النار هم الجبارون والمتكبرون والنساء؛ إذاً: فنستنتج من هذا: أن الفقر أقرب إلى صلاح شأن العبد، وأن الغنى أقرب إلى أن يطغيه، (( كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ))[العلق:6-7].
فالغني والمترف أبعد من أن يستجيب لدواعي الخير، أو الوعظ، أو التفكير في الآخرة، أو الجنة، أو النار أو ما أشبه ذلك، فهو لغناه ولترفه لا يجد نفسه محتاجاً، أو مضطراً لأن يعبد الله تبارك وتعالى، ولا يعني ذلك أن كل غني كذلك، ولكن الفتنة بالغنى والمال أكثر، ولهذا تأتي الآيات: (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ))[التوبة:24]، وجاء: (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ))[آل عمران:14]، وجاء: (( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[البقرة:212]، وجاء: (( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ))[طه:131].
فترف المساكن، والنساء، والمركوبات، والمناصب، والجاه وما أشبه ذلك كله مدعاة للغفلة والفتنة به أكثر، وبه حفت النار؛ لأن النار حفت وحجبت بالشهوات، وهذه هي أعظم شهوات الدنيا، ويمكن أن نرجعها كلها إلى الغنى، فمن ملك المال فإنه يستطيع أن يصل إلى المنصب، وإلى ما يشاء من النساء، وبقية أمور الدنيا تبع، وإن لم تدخل في كلمة المال أو الغنى من حيث اللغة؛ فإن المال يأتي بها جميعاً.
فإذا تقرر هذا فالغنى مدعاة وسبب لأن يطغى العبد، وأن يترف، وأن يقسو قلبه، وألا يتفكر في أمر الله، ولا في شرعه، وألا يستجيب لنداء رب العالمين، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاه لما يحييه، وألا يدخل قلبه وعظ واعظ، ولا تذكير مذكر، هذا إن جلس وسمع الموعظة أو الذكرى؛ لأن هذا الغنى يحجبه عن ذلك، فمن هنا يكون التفضيل لهذا السبب فقط، وليس لمجرد أنه غني، أو الآخر لأنه فقير، فالنظر إنما يكون إلى الفتنة.
وهنا أمر وهو: (أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء) وهذا أمر مشاهد، وقد وجد الآن في الدراسات التي يسمونها: الدراسات الحديثة الاجتماعية، ولها قدر من الحق، ونصيب من الصحة؛ لأنها تعتمد على الاستبيانات ورصد الأحوال؛ وجدوا أن أكثر الطبقة والفئة المتدينة في المجتمع هم عادة من الطبقة المثقفة والمتوسطة، وقليل منهم من الطبقة الغنية، وكذلك تجد فيهم طائفة قليلة من الطبقة الدنيا، وهذا أمر واضح؛ لأن تلك لا تكاد تحسب على أحد؛ لأن التدين الواعي يحتاج إلى علم، فيكون أصحابه من أبناء ما يسمى بالطبقة المثقفة، والطبقة المثقفة عادة في أغلب المجتمعات هي طبقة متوسطة، فليست من الطبقة الثرية العليا في المجتمع؛ كما أنها ليست أيضاً من الطبقة العامة الدنيا، فهذا له قدر من الحقيقة حتى في هذا الزمان، وفي أي زمان.
  1. تفضيل الغني المتدين على الفقير المساوي له في الدين

  2. سبب ميل الناس إلى طلب الصلاح في الفقراء