المادة    
ولذلك لو تأملنا سيرة السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم كيف كانت أخوّتهم، وكيف كانت حياتهم؛ فإنا نجد أنهم لم يكن عندهم هذا الاستنكاف، ولا هذا الاستكبار، ولا هذه الجاهلية، ولا هذا الحمق الذي وقع فيه من بعدهم، فكان الإنسان بعلمه، وكان أكثر علماء الأمة بعد التابعين من الموالي كما يسمَّون، أي: ممن ليسوا في الأصل عرباً، وإنما هم من أبناء أرقاء آمنوا بالله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعاشوا في هذه الأمة، وتلقوا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن تابعيهم، فأصبحوا هم علماء الأمة، مثل: عطاء ، و مكحول ، و الحسن البصري ، و نافع ، و عكرمة ، و سالم .. وغيرهم، وهناك قصة مشهورة الله أعلم بصحة إسنادها، وهي طويلة وخلاصتها: أنه لم يكن هناك في عهد التابعين عالم يرجع إليه بعد وفاة فقهاء المدينة من العرب إلا محمد بن شهاب الزهري الإمام المعروف، وأما غيره من العلماء والأئمة كعالم الكوفة ، وعالم البصرة ، وعالم مصر ، وعالم مكة .. فكلهم كانوا من الموالي، ولا يضرهم ذلك، ولم يكن الناس يشعرون بهذا، فكان الموالي هم صفوة وخيرة العلماء في التفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، والفتيا، والقضاء وغير ذلك، فسبحان الله! هذا الدين هو حقيقة وليس مجرد شعارات.
  1. وجود التعصب الذميم في أوروبا وأمريكا وسلامة حال المسلمين في كثير من أمورهم من ذلك

    وأما أوروبا و أمريكا فلا نجد إنساناً حكمهم ممن ينظر إليه على أنه خلاف لونهم، أو خلاف انتمائهم الوطني أو القومي، وأما المسلمون فإنهم حتى في مراحل الضعف، وفي مراحل الانحطاط تجد أنه ربما كان القادة والحكام من أبناء هؤلاء، فالمماليك اسمهم المماليك، وقد حملوا راية الجهاد سنوات طويلة، وهم فعلاً كانوا كذلك، وكان قبلهم كذلك كافور وغيره، وكان الأتراك والأكراد.. فما كان أحد يسأل، حتى إنك لو سألت الآن أحداً عن صلاح الدين ، أو عن نور الدين مثلاً فكثير من الناس لا يعرف أصلهما، ولا يهمه ذلك، وهذه القضية لا تغير نظرته إلى هؤلاء وغيرهم لا لوناً، ولا أصلاً؛ لأن هذه الأمور ليس لها قيمة حتى عند عامة الناس؛ إلا من كانت الجاهلية مغروسة فيه، أو أراد أن يثيرها ويبعثها ممن هم من أولياء الشيطان، وأما الواقع العام في الأمة في هذه الأمور أنه لا يوزن الناس بها، ولا ينظر إليها، ولا تعتبر.
  2. من ثمرات تسامح المسلمين وبساطتهم

    ومن هنا استقطبت الأمة الإسلامية من فضل الله سبحانه وتعالى كل أهل العقول، وأهل الخبرة، وأهل الفهم، وأهل الرأي، وأهل الذكاء في العالم كله؛ حتى ولو كانوا من أهل الكتاب، فقد جاءوا إلى المسلمين، فهاجروا من الصين ، وهاجروا من الهند ، وهاجروا من أوروبا ، فالعقول المفكرة تهاجر إلى العالم الإسلامي؛ لأنها تجد الحياة، والحرية، والنور، وتعيش، وتبدع، وتنتج، فمن هنا أصبحت هذه الحضارة أعظم الحضارات الدينية.
  3. التطور قرين التسامح والتساوي

    وهذه سنة طبيعية جعلها الله تعالى في هذا الكون، فانظروا إلى أمريكا ، فإنها لما أخذت بهذه القاعدة صارت في قمة الحضارة المادية الآن؛ لأنها لا تبالي بالعنصرية هنا، فأي عالم منتج ومبدع في أي فن فإنها لا تبالي أياً كان بلده، أو منشؤه، أو لونه، فتأخذه وتعطيه أضعاف أضعاف ما يأخذ في بلده، وتستفيد من خبرته، ويعطى الجنسية، ولا ينظر إلى أي شيء آخر غير ذلك، هذا مع جاهليتهم المقيتة التي لم تتخلص قلوبهم منها، لكنهم في تعاملهم وجدوا أنه يجب أن يكون التعامل على هذا الأساس مع هذه العقول، فينشئون ما يسمى: هجرة الأدمغة، أو شراء الأدمغة، فلا يبالون أياً كان: هندوسياً، أو صينياً، أو بوذياً، أو عربياً، فالمهم أن لديه ميزة تأتي به، فطبيعي في أمة هذا حالها أن تتقدم، وأن تترقى، وأن تجمع خبرات أكثر من غيرها من دول العالم كله؛ لأنها أخذت بسنة من سنن الله تعالى.
    فالحضارة الإسلامية أخذت هذا ببداهة، وليس عن وعي كامل أو تخطيط، والمقيم في بلاد الإسلام من أهل الكتاب له من الحقوق كل ما جعل له الشرع، ولا يستطيع أحد أن يغمطه فضله، فليبدع ولينتج وليعمل كما يشاء، ومن هنا وصلوا إلى حضارة يحسدهم عليها العالم إلى يومنا هذا، ولا نقول في الماضي؛ لأن الغرب في الماضي لم يكن لديهم من العقل ما يستطيع أن يدرك به مقدار الحضارة أصلاً؛ لأنه يراها شعاعاً يبهر عينيه، ولا يعرف كيف يفسره، وأما الآن فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الحضارة، فينظرون إلى ما كان عليه المسلمون، ويتعجبون: كيف كانوا يعيشون؟! ويتمنى بعضهم الآن ممن سأموا حياة المدن، يتمنون أن يعيشوا في الأرياف، وأكثر العلماء والمفكرين هناك يعيشون بعيداً عن المدن الصاخبة والمزدحمة؛ حتى يستطيع أن يفكر.
    كثير منهم يتمنى أن يبني بيتاً على نمط بيوت بغداد أو قرطبة ؛ حيث يكون التكييف فيها طبيعياً، ويكون الجو كذا نقياً، فهم يرون آثاراً وحفريات قديمة، فيتمنى الواحد منهم أن يكون عنده بيت مثل هذه البيوت، مع أنهم الآن يعيشون فيما نرى من حضارة، فما بالك بمن كان معاصراً لأولئك المسلمين.
  4. ميزان الرفعة في الدنيا والآخرة

    إذاً فخير الدنيا، وخير الآخرة -وهي خير وأبقى- كله يكون بالتمسك والاهتداء بهدى الله تبارك وتعالى، وبأن يكون الميزان والمعيار هو التقوى، ولا شيء غير ذلك إلا ما شرعه الله عز وجل، وجعله معياراً، فلا ينكر فضل صاحب نسب، ولا ينكر فضل صاحب مهنة أو عمل فضّله الشرع، فكل ما فضله الشرع فهو مفضل، والمعيار الذي يوزن به الناس هو الشرع، هذا هو المقصود. وأما أن توضع أي اعتبارات جاهلية أخرى فإن الأمة لا تجني من وراء ذلك إلا الفرقة والتمزق، ولا تجني إلا الدمار، وضياع الأعمار، وإهدار الطاقات، وإهدار الثروات، وزرع الضغائن والأحقاد في النفوس والقلوب، ومن هنا يدخل العدو. وهذه الأمة التي يكون هذا حالها إذا جاء العدو وحاربها؛ فإن كل طائفة من طوائفها تتشفى بما يقع على الطائفة الأخرى، حتى إنك لتتعجب أحياناً من حال بعضهم؛ فإذا جاءت معركة يتمنى بعض الجند أو بعض الكتائب من الجيش أن العدو يسلط على الكتيبة الأخرى ويهلكها، مع أنها منهم؛ بسبب الضغائن، والأحقاد، فيفضل الإنسان العدو البعيد وإن كان أشد عداوة، وعدواً للجميع، لكن يقول: هو لم يؤذني، ويقدمه على هذا الذي يعتبره عدواً، وربما كان أخاً له في الإسلام، وليس بينهما ما يوجب العداوة قط، وإنما هو تزيين من الشيطان، وهذه جاهلية مترسخة في أنفسهم، نسأل الله العفو والعافية. فهذه قضية مجملة عامة ما أحببنا أن نتجاوزها إلى غيرها حتى نجلي ونوضح القول فيها ولو على سبيل الإجمال.
  5. بعض المسائل التي يصح فيها التفاضل

    وأما ما عدا ذلك من تفضيل مما جاء به الشرع، أو اختلف فيه العلماء؛ فهذا المتفق عليه، والمنصوص عليه لا نقاش فيه، والمختلف فيه يبحث وينظر فيه، فقد مرت معنا مثلاً مسألة من مسائل التفضيل وهي: تفضيل الملائكة على صالحي البشر أو العكس، وقد تكلم فيها العلماء، وهي ليست مسألة سلفية أثرية كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله، فتكلمنا فيها، فلا تدخل في هذا الباب، وأما مسألة: التفاضل بين الخلفاء الراشدين وبين الصحابة، وما أشبه ذلك، فهذه أيضاً حق، وستأتي إن شاء الله تعالى، ويذكر لكل صاحب فضل فضله، (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54].
  6. الناس معادن كمعادن الذهب والفضة

    وكذلك التفاضل بين الناس، فالناس معادن، كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال: ( خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام )، فالله سبحانه وتعالى أعطى بعض الفخوذ أو القبائل أو البطون من المناقب -وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم- ما لم يعط غيرها، وهذا أيضاً لا ينكر، ولا يدخل في هذا الباب، لكن هذا ليس مدعاة لأن يفخر أحد على كل أحد، أو يظن أحد أن مجرد انتسابه إلى هذه القبيلة، أو إلى هذا الشرف أنه يكفيه، والأمر كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (إن التقوى -التي هي معيار التفاضل- فرض عين، فالعبودية لله تعالى، والتقوى فرض عين على كل إنسان، وفرض العين لا يجزئك فيه عمل غيرك، فالذي يفخر بمجرد نسبه كالعلوية -يقصد الذي يفتخر بنسبه إلى علي رضي الله تعالى عنه- وغيرهم هم كمن يريد أن يشبع بأكل أبيه، أو يشفى من مرضه بعافية أبيه، وهذا لا يمكن، ففرض العين لابد أن يقوم كل أحد عن نفسه، فهذا لك في ذاتك، وهذا له في ذاته، فهذا لا بد منه).
    وأما قوله تعالى: (( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ))[الكهف:82] فهذا ويورث الصلاح للذرية، فليسر على طريقه، ولولا أن الأبناء يرجى فيهم الصلاح لما نفعهم صلاح الأب، فإذا انحرفا وبعدا عما كان عليه الأب لم ينفعهما ذلك، كما بينا من قول صلى الله عليه وسلم، وكذلك من فعل نوح مع ابنه، فقد حذره الله سبحانه وتعالى من ذلك الفعل، وكذلك ما فعل إبراهيم مع أبيه، وقد بين الله سبحانه وتعالى له ذلك، وغيرهم.
    وكذلك ما يتعلق بالزوجات، وقد بين ذلك الله سبحانه وتعالى لما أخبر عن امرأة نوح، وامرأة لوط، فحتى الأنبياء -وهم أعظم الناس عند الله عز وجل منزلة- لا يغني والد منهم عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، فلم يغن إبراهيم عن أبيه، ولا نوح عن ولده، فما بالك بمن دونهم؟! فهكذا تتقطع كل الأرحام والأنساب إلا تقوى الله عز وجل؛ كما ذكر الله عز وجل في كتابه.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين الصالحين، الهادين المهديين المخلصين، إنه سميع مجيب.
    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.