المادة    
  1. نشوء التقاتل والتهاجر بسبب هذه الجاهليات

    وكل بيئة لها نوع معين من الحرف ومن المهن محتقرة، ونوع آخر معظم ومفضل، ويقع التهاجر، والتنازع، والتخاصم، وتقع العداوات، وكم كانت تتقاتل القبائل من أجل هذه القضية، فيقتتلون من أجل أن رجلاً يمتهن مهنة كذا خطب أو تزوج من القبيلة، فاكتشفوا أنه كان حداداً، أو جزاراً، أو خرازاً مثلاً، فكل منطقة لها جاهليتها، فعندئذ يراد منه أن يطلق امرأته، وهي راضية به، وهو راض بها، بل حتى أهلها وأهله راضون، فقد اتفقوا وتم كل شيء، لكن تجد القبيلة تقول: يجب أن يقع الطلاق؛ لأن القبيلة لا تريد أن يدنس شرفها وكبرياؤها، فتقوم الحروب، فتقتتل الطائفتان، وتقع الملاحم بسبب هذه الجاهلية.
    فجعلوا التفاضل بين الناس حتى في الحرف، وحتى في المهن، وهؤلاء الجاهليون يجعلون مهنة الزراعة هي المهنة والحرفة التي لا عيب فيها؛ لأنها مهنة الأكثرين مثلاً، والزراعة ليس فيها شيء من حيث إنها حرفة، لكن هي التي نيط وركب وقرن بها الذل في الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واشتغلتم بالزرع، وأخذتم بأذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، فلو أن التفضيل يكون بالحرف لكان الفلاحون والمزارعون هم الأقل، ولكن من يشتغل بالزرع والحرث، ويتشاغل به عن الجهاد؛ يستحق أن تدنى درجته ومرتبته، وأن يفضل عليه غيره، لكن هم لا ينظرون إلى هذا، وإنما ينظرون إلى مهنة أو حرفة اختاروها هم.
  2. اختلاف المهن عظمة وحقارة باختلاف البلدان

    وقد تكون هذه المهنة والحرفة في مجتمع ما عظيمة جداً، وفي مجتمع آخر حقيرة جداً، فما المعيار في ذلك؟ المعيار عند الناس هي الأهواء فقط، فالصناعة مثلاً أو الحدادة مهنة عظيمة جداً عند الغرب، وعند العرب يحتقرونها، وفي النهاية وصل الغربيون بالصناعة إلى ما وصلوا إليه كما نرى الآن، وتفوقوا على المسلمين في كل شيء، ولما كان المسلمون يحتقرون هذا العمل فإن حب الدنيا جعلهم في الأخير يتتبعون الصناعات، وأصبح الإنسان يفخر بأنه من رجال الصناعة وليس من رجال الزراعة، أو أنه من الموظفين، وغير ذلك، وتجد أن المصانع الكبرى التي تقوم على صناعة الحديد، أو الصلب، أو الفولاذ أو ما أشبه ذلك؛ ما هي إلا تكبير وتضخيم لتلك الصناعة البسيطة التي كان يعملها الصانع، أو الحداد في القبيلة، وكانوا يحتقرونه أشد الاحتقار، فالذي تغير هو حب الدنيا، والتبعية للغرب، وأخذ القيم من الغرب أنساهم ذلك، فهذه أهواء، فهذا التعظيم وهذا التقليل ليس من عند الله عز وجل، وإنما هي أهواء بشرية فقط، ويرتبون على ذلك -كما قلت- بطلان العقد، ولو كانت المسألة في استئناف العقد لقال البعض إنما يتعلق بالكفاءة أو عدم الكفاءة، فالمشكلة أنهم يريدون إبطال العقد بهذا الأمر، وربما اضطروا ذلك المتزوج أو المصاهر إلى أن يهاجر بعيداً في أرض الله حتى لا يراه فيها أحد؛ ما سبب ذلك: أنه خرج وشذ عن هذا العرف، وعن هذا الوضع الاجتماعي الذي ما أنزل الله به من سلطان.
  3. أثر التعصب والتفاخر الجاهلي في هدم الفضائل والمناقب

    وأسوأ من هذا: لو أن أحداً ممن ينتمي في الأصل إلى هذه الحرف، أو المهن؛ بلغ في العلم ما بلغ، وبلغ في الخير ما بلغ، وبلغ في التقوى ما بلغ؛ لرأيت من يقول له قريباً من قول: يا ابن السوداء، أو يابن من يفعل كذا، أو يا من مهنته كذا، أو يا من حرفته كذا.. فمهما بلغ وترقى في الدرجات التي هي محل الرقي الحقيقي: علماً، وتقوى، وفضلاً، وعبادة، وجهاداً؛ فإنه لا يزال ينُظر إليه -عند من تمكنت هذه الجاهلية في قلوبهم- من خلال وضعه، ومن خلال مكانته، ولا ينظر فقط إلى الحرف، وإنما هناك النسب، وهو غير النسب القبلي من حيث الآباء والأجداد، وإنما الانتساب إلى شعب، أو إلى طائفة معينة، كما نسمع الآن في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة مع الأسف الشديد، وهي بهذا تعاني من هذه الخصلة الجاهلية.
  4. التعصب من حيث الشعب والمجتمع

    فإذا كان الإنسان من أبناء البلد أباً عن جد مثلاً فإنه يشعر كأن له ميزة، أو كأن له فضلاً على من قدم وسكن هذه البلاد، واستوطنها، وإن كان هذا الآخر ربما يكون في الأصل من أشرف الناس نسباً، وقد يكون في الأصل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هاجروا إلى الهند ، أو إلى جاوة أو إلى المغرب ، ثم عادوا، فلم يتغير شيء، فقد هاجروا وعاشوا ورجعوا، فالمفروض أن تكون مكانتهم وقيمتهم النَّسَبية مكانها، ومع ذلك فالجاهليون من الطرف الآخر ينظرون إليه على أنه مهما بلغ، ومهما فهم، ومهما عمل فلا خير فيه، ولا ينظر إلى معيار التقوى.
  5. ضياع الوقت في العصبية والتنابز

    وفي المقابل أيضاً تجد الآخر يعد أن كل من كان من هذا النوع بدو أجلاف، لا قيمة لهم، ولا لأنسابهم، ولا لأصولهم، ولا لحرمتهم، ولا لأعراقهم، وهذا يحقر هذا، وهذا يحقر هذا، وكل منهم يسخر من الآخر، وهذا بعكس ما أمر الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ))[الحجرات:11]، فتجد السخرية، والاستهزاء، والتنابز بالألقاب، والتهم، والتشنيع، حتى شكى بعض الإخوان -وهي شكوى عن حق وحقيقة ومشاهدة، والله المستعان- أن كثيراً من المجالس تضيع في هذا الأمر، فإذا كان هناك زملاء في العمل، أو في الجوار، أو في السكن، هذا من تلك الطائفة، وهذا من هذه الطائفة، وهذا من أهل هذه المهنة، وهذا من أهل هذه المهنة؛ فهم في كل الأوقات في جدل ونقاش -جداً أو مزحاً- في التفاضل بين هاتين الطائفتين، أو هاتين القبيلتين، أو هاتين المجموعتين.. إلى آخره.
  6. جاهلية الولاء والتعصب الكروي

    ثم جاء الشيطان ودخل من هذه الفرجة، ووسعها وعمقها، وقال: إن الناس اجتمعوا، فصاروا في المدارس سواء، وفي الوظائف سواء، وفي الأعمال سواء، ونسوا هذه الجاهليات، فأتى بجاهلية جديدة يريد أن يرسخها، وتكون قاعدة للولاء وللبراء، وللمحبة والبغضاء، ولشحن القلوب، ولإضاعة المجالس، ولتفتيت الطاقات، وتبديد الثروات، فجاءهم إبليس بجاهلية الولاء والتعصب الكروي، وهي منطلقة من هذا، فالمنتخب القومي لأي أمة يعبر عن الانتماء القومي، ودعونا هنا نتكلم عن الغرب، فإذا كانت المباراة بين الإنجليز والإيطاليين مثلاً، فإن أي إنجليزي يقابل أي إيطالي قد يدخل معه في عراك في الشارع، وقد حصل هذا كثيراً، لأن المنتخب القومي يحارب حرباً كروية المنتخب القومي الآخر.
    وإذا تنزلنا على مستوى الدولة الواحدة؛ وكانت المباريات بين منتخب مانشستر وفريق آخر من لندن مثلاً فإنك تجد أن كل من كان من هذه المدينة مستعد أن يتشاجر مع مشجعي الفريق الآخر، فهذا جاهلية ما لها أية قيمة، وكذلك لو نزلنا إلى مستوى المدينة الواحدة، كما نجد من الجاهليات المقيتة أن بعض المدن قد يكون فيها قسمان مثلاً؛ بسبب نهر أو جبل يفصلها، فتجد أهل هذا القسم يفخرون على أهل هذا القسم، ومن هنا يأتي الشيطان أيضاً ويجعل لهؤلاء منتخباً، ولهؤلاء منتخباً آخر، وتبدأ الجاهلية والشحناء، وتبدأ العداوات، وتبدأ الأحقاد، وقلّ أن تجد مدينة أو قرية إلا وفيها مثل هذا.
    فسبحان الله! كيف يتلاعب الشيطان بعقول هذه الأمم إلى هذا الحد؟! بل ينزل الأمر إلى أقل من هذا التخطيط الشيطاني الجهنمي، فتجد مثلاً قطاعاً تعليمياً وقطاعاً آخر وظيفياً أو عسكرياً، وتجد بينهما من العداوة والجاهلية الشيء الكثير، فتجد المدني يفتخر على العسكري، والعسكري يفتخر على المدني.. وهكذا، وهذا افتخار ليس له حقيقة، وإنما هو مجرد جدل، ثم يعملون دورة رياضية بين هؤلاء وهؤلاء، فتنشأ مشاكل أخرى وتترسخ العصبية أكثر.
    بل إنك تجد قطاع التعليم قد تفتت حتى أصبح بين المدرسة والمدرسة، بل وبين الفصلين ألف وباء من نفس السنة، فتصبح النزعة العدائية مستحكمة.
  7. التعصب الجاهلي من أجل الحرفة أو المهنة

    وهناك نوع من التفاوت الجاهلي الذي يؤثر أيضاً في هذه الأمة، ويلقي بظلاله الكثيف في مجتمعات المسلمين، ويسبب من التقاطع ومن التنافر، ومن العداوات ما الله به عليم، فمثلاً: لو أخذنا جاهلية أو عنصرية المهنة أو الحرفة، فإنك تجد أنها موجودة، والتفاضل عند الناس لا يكون بالتقوى، كما قال تعالى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، ولا بالكرم، أو العطاء، أو الشجاعة التي يمكن أن يتخلق بها كل أحد، بل أضافوا إلى ذلك هذا النوع من الجاهلية وهو: التفاخر، أو التعاظم، أو التفاضل بحسب المهنة، أو الاحتقار والازدراء بحسب الحرفة أو المهنة، سواء كانت هذه المهنة في الشرع عظيمة، أو أقل شأناً، ولكن لا تجعل معياراً أو مقياساً، فالناس جعلوها كذلك.