المادة    
فالمحك الحقيقي للتفاضل هو ما للإنسان فيه إرادة؛ ولذلك يجب أن تزال الحوائل والموانع عن تحقيق أي قدر يستطيع الإنسان أن يصل إليه، ولا يفرض عليه وضع خارجي ويقسر عليه قسراً، فيستحيل أن يفرض على إنسان ما الفقر، ولا يمكن أن يعيش إلا ذلك، وهو باستطاعته أن يبذل جهده ليكون غنياً، وأن يسعى في أرض الله، ويتاجر ويعمل حتى يغنيه الله عز وجل من فضله. وكذلك العلم؛ فلا يجوز أن يحال بين أحد وبين طلب العلم، فيمكن أن يتعلم مهما ولد في بيئة جاهلة، ويمكن أن يكد ويجتهد ويتعلم حتى يصبح عالماً، بل ومن أبرز وأعظم العلماء، ولا يجوز أن يحال بينه وبين ذلك، وهنا بقدر ما يوفق، ويصل إليه من العلم فإنه يكون فضله، وبقدر ما تنزل درجته فهو السبب في ذلك؛ لأن ذلك بإرادته هو.
  1. التفاضل بالإيمان والتقوى

    وأعظم شيء يكون فيه التفاضل هو: الإيمان والتقوى، وهو حقيقة التفاضل، وأي تفاضل تجرد عن الإيمان وعن التقوى فغايته أن يكون من متاع الحياة الدنيا، وفي متاع الحياة الدنيا ينسب الفضل لأهله، والله سبحانه وتعالى لا يقنط صاحب الفضل، بل يؤتي كل ذي فضل فضله في الدنيا أو في الآخرة، لكن ما قيمة الحياة الدنيا وحدها؟ وما متاع الحياة الدنيا؟ إنه متاع غرور زائل، والقيمة الحقيقية هي فيما ينفع عند الله في الدار الآخرة، وما يقرب إلى الله تبارك وتعالى.
    لذلك فخير ما يكون فيه التفاضل، وأعظم ما يكون فيه التفاضل هو: الإيمان والتقوى.
    ولذلك شيخ الإسلام يقول رحمه الله --وقد تقدم معنا هذا في مبحث الإيمان؛ عندما تحدثنا عن تفاضل أهل الإيمان فيه- كما في الإيمان الأوسط : أعظم شيء يكون فيه التفاضل هو الإيمان. ذكر أن التفاضل يكون بالأعمال الظاهرة، بالاستكثار من الأعمال الظاهرة، والتفاضل يكون في الصفات المشتركة بين الآدميين، فإن الناس يتفاضلون في الطول والقصر، والسواد والبياض، والكرم والشجاعة والعلم.. وهكذا غيرها من صفات البشر، فهذه التفاضل فيها، سنة الله عز وجل، وأعظم شيء يكون فيه التفاضل، وأشد شيء يكون فيه التفاضل هو الإيمان.
  2. تفاوت التفاضل في العلم والإيمان

    ولو نظرنا إلى تفاوت الناس في العلم مثلاً؛ فأكثر علماء النفس، أو علماء الطبيعة، أو عامة الخلق يظنون: أن العلم هو أكثر شيء يقع فيه التفاضل، فنقول لهم: لا، إن الإيمان أكثر من ذلك، والدليل على هذا: أننا لو جئنا بأكبر عالم من العلماء في أي مجال، وجئنا بإنسان بدائي تماماً؛ لكان هذا البدائي أن يتعلم حتى يصبح في درجة قريبة إلى حد ما من هذا العالم؛ بحيث يكون التفاوت بينهما محصوراً معدوداً، مع أن العلم أمر عظيم جداً ولا شك، والله سبحانه وتعالى قد جعل تفاوت الخلق فيه بما لا يخفى على عاقل، لكن حتى العلم يكون الأمر فيه في ذلك أقل منه في جانب الإيمان.
  3. بعد التفاضل البدني من التفاضل بالإيمان والتقوى

    وكذلك التفاضل البدني هو في الحقيقة أيضاً تفاضل بعضه قريب من بعض، فلو أتيت بأشد وأسرع الناس جرياً، أو قفزاً، أو قوة في حمل الأثقال، ثم قارنت بينه وبين أقل الناس في هذا الشأن؛ لوجدت أن الفرق ليس بالبون الشاسع الكبير كما هو في ميدان التفاضل في العلم، لكن أعظم من هذين التفاضل هو في الإيمان والتقوى، فإن الرجل يبلغ الدرجة العليا من الجنة، والجنة مائة درجة، وبين كل درجة ودرجة مثل ما بين السماء والأرض كما ثبت ذلك في الحديث، فأي تفاضل فوق هذا التفاضل؟! فهذا شيء لا يكاد العقل أن يتخيله أو يتصوره، وكل ذلك إنما هو بالإيمان، وبالعمل الصالح، وبالتقوى.
    وحسبنا أن نعلم أنه لو أنفق أحد ممن قاتل بعد الفتح؛ فضلاً عما جاء بعد القرون الثلاثة، فضلاً عمن هو في زماننا هذا؛ لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقين الأولين، ولا نصيفه، فمثل هذا الفضل العظيم كيف يلحق؟! فهذا شيء فوق الخيال.
    إذاً فالتفاضل في الإيمان، وفي درجات التقوى؛ أمر عظيم جداً.
    وإن كان -كما تقدم في مسألة الولاية- يمكن أن يجمل في درجتين، وكل درجة فيها مستويان: وهم المقربون، السابقون السابقون، وأصحاب اليمين أو المقتصدين.
    وقلنا: إن السابقين أنفسهم درجات، وأصحاب اليمين أيضاً درجات، فمنهم من هو في الدرجة العليا، ويكاد يقرب من السابقين، ومنهم من هو في درجة دنيا، ويكاد يكون قريباً من أهل الضلال، أو المعصية.
    فما بالك بالتفاضل بين أعلى درجات المقربين، وأدنى درجات المقتصدين! فما بالك بالتفاضل والتفاوت بين أعلى درجات المقربين، وأدنى وأحط دركات الكافرين و المنافقين!
    فهذا هو التفاوت الواسع، والبون الشاسع العظيم جداً الذي لا تكاد العقول تتخيله، وهذا هو الذي تصح فيه هذه القاعدة العظيمة، ويصح فيه هذا المبدأ العظيم: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13].
  4. المسارعة والتنافس في درجات التقوى

    ومن هنا يجب على كل إنسان أن يجتهد؛ ليفضل نفسه بتقوى الله عز وجل، وفي هذا فليكن تنافس الخلق، (( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ))[المطففين:26]، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وهذا هو الميدان والمجال: تقوى الله، والإخلاص له سبحانه في العبودية، فكلما كنت أكثر عبودية لله فهذا هو غاية الفضل الذي يجب أن يسعى إليه كل مخلوق.
    وبالاستكبار عن الله، وبالبعد عن هدى الله سبحانه وتعالى، والاستنكاف عن طاعته؛ بذلك يحقر المرء نفسه، ويصغر قدره، وتهبط وتنزل قيمته في الدنيا والآخرة.
  5. المعيار العادل للتفاضل

    وهذا المعيار معيار عادل لا يستطيع أحد أن يماري أو يجادل فيه، ولا عذر لأحد فيه، فلو أن الفضل كان في غير هذا لجاء الإنسان وله معاذيره، فإن قلت له: لماذا لم تفضل الناس في النسب؟ لقال: أنا ولدت في نسب أقل، أو في نسب وضيع، ولا يملك في ذلك شيئاً، ولا يستطيع أن يغير نسبه، لكنه يستطيع أن يتقي الله، ويستطيع أن يعبد الله، يستطيع أن يكون أكثر خضوعاً وذلاً وتقرباً إلى الله؛ ولو كان أبوه من أكفر الكفار.
    إذاً فهذا المعيار لا عذر لأحد فيه، وجعله الله موضع التنافس، وقطع كل ما عدا ذلك، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى الساعة، وجعل الحساب بناء على الأعمال لا على الأنساب، قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة المؤمنون: (( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ))[المؤمنون:101]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه )، وفسر ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه بأنه عند المرور على الصراط.
  6. مرور الناس على الصراط على حسب أعمالهم

    فقد جاء في الحديث الصحيح أن الناس يتفاوتون في المرور على الصراط، فتمر أول طائفة منهم كالبرق الخاطف، ثم تكون الأخرى كأسرع ما تكون الريح، ثم تكون الأخرى كأسرع ما تكون الخيل.. إلى آخره، حتى إن آخرهم يحبو ويكاد أن يسقط، فالذي يسرع أو يبطئ بالإنسان في هذه الحالة هو العمل، ( ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه ).
  7. تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لأهمية العمل وبطلان النسب

    وقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه: العام منهم والخاص، فعم ثم خص، فقال: ( يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم؛ لا أملك لكم من الله شيئاً )، ثم خص فقال: ( يا بني هاشم! لا أملك لكم من الله شيئاً ) ، ثم خص أكثر فقال: ( يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أملك لك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أملك لك من الله شيئاً )، ثم خص أكثر من ذلك فقال: ( يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم! سليني من مالي ما شئت؛ لا أملك لك من الله شيئاً ).
    فهذه قاعدة عظيمة واضحة جلية، وقال في الحديث الصحيح الآخر: ( إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله، وصالح المؤمنين ).
    فقوله: ( إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ) أي: وإن كانوا يزعمون أنهم من القرابة، وأنهم أولياء له بذلك، ثم قال: ( وإنما وليي الله، وصالح المؤمنين ).
    وقال في الحديث الآخر: ( إن أوليائي المتقون حيثما كانوا ) .
  8. محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاخر والتعصب الجاهلي

    فهذه هي القاعدة العظيمة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة، وأعلنها وبدأ بنفسه، وعلمها أصحابه، الذين كان التفاخر بالأحساب والأنساب عندهم أصلاً عظيماً، حتى إن الله عز وجل علمهم في الحج فقال: (( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ))[البقرة:200]؛ لأنهم كانوا إذا أفاضوا من عرفات ، وجاءوا إلى المشعر الحرام، ونزلوا هنالك قام كل منهم ويفتخر: أنا ابن فلان، ونحن آل فلان، ونحن فعلنا وفعلنا.. ويذكر المناقب والمآثر والخلال الحميدة، والأرومات العتيدة.. إلى آخر ما يتناشدون فيه، فأمر الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين أن يذكروا الله كما كانوا يذكرون آباءهم أو أشد ذكراً، وأن يعظموا الله عز وجل في مشاعر جعلها شعائر لدينه، وليتقى ويعبد فيها وحده لا شريك له.
    فالمقصود: أن هذه العادات الجاهلية حاربها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، ولذلك جاء في الحديث الصحيح الآخر: ( لينتهين أقوام عن الفخر بآبائهم، وإنما هم من فحمان جهنم؛ أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده القذر بأنفه )، فهذا الوصف هو غاية ما يمكن أن تتخيله من الحط من شأن من يفعل هذا الفعل، أو يعتقد هذا الاعتقاد، فشبهه بالجعل الذي يدهده القذر، وهو ما يخرج من الناس، والجعل دابة من الدواب، وهو يقوم بدحرجة ودهدهة وتحريك القذر بأنفه مباشرة، وهذه غاية الوضاعة، وغاية الخسة، وغاية الحقارة.
    فهؤلاء لما كانوا يفتخرون بآبائهم -وهم من فحم جهنم- الذين كانوا في الجاهلية، وإن كانوا في الإسلام فلا يدري الإنسان ما حال آبائه عند الله؛ لذلك عوملوا بنقيض ما يعتقدون، وليكونن أهون على الله من هذا الحيوان القذر الذي لا يتورع أن يدحرج النجاسة بأنفه، وهذا المثل يكفي الإنسان لو تدبره وتصوره، وسيعرف ما الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المتكبرين.
  9. خطر داء الكبر في الآخرة

    والكبر داء عظيم، ومرض خطير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، ويقول صلى الله عليه وسلم: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم ) ، مع أن المتكبرين في الدنيا تجد الواحد منهم يمشي ويظن أنه شامخ بين الناس، وهو مثل الناس، لكن هكذا يظن أنه يمكن أن يخرق الأرض، أو أن يبلغ الجبال طولاً، فيعامل يوم القيامة بنقيض قصده الخبيث، وعكس هذا المرض الذي ما أصاب أمة أو فرداً إلا أهلكه الله عز وجل به؛ لأنه نازع الله عز وجل إزاره ورداءه، فهؤلاء الذين يكونون في هذه الحالة يبعثون يوم القيامة كأمثال الذر.
    إن الناس يبعثون يوم القيامة على خلقة أبيهم آدم كما جاء في الحديث، طولهم ستون ذراعاً، إلا المتكبرين في الدنيا: المتكبرين بملكهم، وبمناصبهم، وبأموالهم، وبشهاداتهم، وبألوانهم، وبأعراقهم، وبأنسابهم.. وبأي شيء، فإنهم يبعثون ويحشرون مثل الذر، فالناس يسألون: أين فلان؟ وأين فلان؟ وإذا بهم مثل الذر يطؤهم الناس بالأقدام؛ لأنهم لا يكادون يُرون أصلاً؛ عقوبة وزجراً لهم قبل الحساب، نسأل الله العفو والعافية.
  10. تحريم احتقار المسلم لأخيه

    ولذلك لا يجوز أن ينطوي قلب المؤمن على شيء من الكبر، أو احتقار أخيه المؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )، فهذا يصحح هذا الأصل: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، فلا يصح للمسلم أن يحتقر أخاه المسلم لأي سبب كان: من نسب، أو مال، أو وظيفة، أو شهادة، أو عرق، أو جنسية أو غيرها.
    وقوله: ( بحسب امرئ من الشر ) أي: يكفيه شراً، وكأنه قال: لا شر أعظم من هذا، ولا شر فوقه، فإن كان الإنسان يريد أن يبلغ الغاية في الشر فليحقر أخاه المسلم، وقال: (أخاه) ليكون ذلك نكاية له، فالمسلم أخو المسلم؛ فكيف يصح للإنسان أن يحقر أخاه، فكفاه ذلك شراً، وكفاه مقتاً.
    ولما قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه لـبلال : يا ابن السوداء! في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرؤ فيك جاهلية )، وفي رواية أخرى: ( انظر حتى لا ترى لك فضلاً على أسود، ولا أحمر إلا بالتقوى ) .
    وجاء في بعض الروايات: أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه نام على الأرض، وأمر ذلك الرجل بأن يطأ بقدمه على صفحة خده؛ تواضعاً لله عز وجل، وتكفيراً عن قوله وتعييره له بأمه: يا ابن السوداء! فقد أحس بمرارة الندم، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ومن هنا فإن الفضل كما ذكر الله عز وجل لا يكون إلا بالتقوى، وقد قال العلماء في قول الله عز وجل في ذكر أوصاف القيامة: (( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ))[الواقعة:3] أي: أنها ترفع بعض من كانوا وضعاء في الدنيا، وتخفض من كان رفيعاً فيها، ويشمل ذلك بعض التغيرات الكونية، وكذلك التغيرات في عالم البشر، فرب رفيع عزيز كريم عند قومه في الدنيا؛ يكون وضيعاً يوم القيامة، والعكس.
  11. وهم الفخر وسراب الخيلاء

    لقد جعل فخر الجاهلية وخيلاؤها -والعياذ بالله- أبا جهل يقول لـعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عندما ارتقى على صدره، وهو غلام أو شاب من هذيل، وكان يرعى الغنم لقريش، ولكن الله عز وجل اصطفاه واختاره وجعله من علماء هذه الأمة الذين شهد الله تعالى لهم ورسوله صلى الله عليه وسلم بالعلم.
    فلما ارتقى على صدره قال أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الضأن! فحتى وهو عند الموت، وفي حال الاحتضار يرى أن له فضلاً وعلواً ودرجة ومنزلة على غيره من الناس! فانظروا هذا الوهم الكاذب، وهذه الخيلاء وهذا الفخر الذي لا حقيقة له، فلا يستحق صاحبه أو المتفاخر به إلا أن يكون -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- كذلك الجعل الذي يدهده القذر بأنفه، نسأل الله العفو والعافية والسلامة.
  12. ترسيخ النبي لمبدأ المساواة والتفاضل بالأعمال وثمرة ذلك

    فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، ورسخت وثبتت هذه القاعدة؛ حتى أصبح الناس جميعاً يعلمون أن الفضل والقدر إنما هو بالتقوى، ولم يعد هناك شيء يميز أحداً عن أحد إلا بذلك، والميزات الأخرى مما اختار الله عز وجل أو اصطفى، أو فضل بعضهم على بعض؛ فإنها تأتي تبعاً لها، فالإنسان وإن كان سباقاً في الشجاعة، أو في الإنفاق فكل ذلك تبع لذلك الأصل العظيم وهو: التقوى.
    فكانت غاية المجتمع هي التقوى، وكان هم كل إنسان منهم أن يجتهد في التقوى، فرسخت عند الناس هذه الحقيقة، وأصبح المجتمع تقياً، وإذا صار المجتمع تقياً، وكانت قاعدة التعامل هي التقوى، وإذا كانت قاعدة التواصل والتواد والتحاب والتراحم هي التقوى؛ فإن الخير سيأتي والبركات ستعم، (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ))[الأعراف:96]، فجاءت الخيرات، وجاء النعيم، وجاء العز، وجاء الشرف، فأصبح أدنى رجل من هذه الأمة المتقية يُرهب أكبر أعداء الله، ويعادل في عالم الأرض كلها أفضل وأشرف ملوك الروم أو الفرس، وهذه حقيقة عظيمة قررها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ).
  13. عجز الغرب عن تطبيق مبدأ التكافؤ والمساواة

    وهذا الشيء لم يعرفه العالم من قبل أبداً، ولم يستطع الغرب إلى يومنا هذا أن يصدق، ولا أن يهضم -كما يقولون- هذا المبدأ، فمستحيل أن يصدق الغرب أو الشرق، أو يقرون بأن الدماء تتكافأ؛ فضلاً عن أن يسعى بذمتهم أدناهم. فلا يعقل في الغرب أن تكون دية الوزير، أو الأستاذ البروفيسور مثل دية العامل، وكذلك الفنان إذا كان فناناً كبيراً، ولاعب الرياضة الكبير إذا سقط وانكسرت يده فإنه يعوض بعشرة ملايين دولار، وأما إذا كان عاملاً في مطعم وكسرت يده فقد يعوض بألف دولار، أو عشرة آلاف دولار، فإلى الآن لا يستطيع الغرب أبداً وأتباعهم وأذنابهم الذين أخذوا منهم القوانين الوضعية؛ لا يستطيعون أن يستوعبوا أن الناس سواء في القيمة والمقدار، وأن الدماء تتكافأ! فلو قتل رجل غربي وليكن أمريكياً، وقتل الأمريكان القتلة الذين قتلوه ومائة أو ألفاً معه؛ فإنهم لا يشعرون بأنهم تجاوزوا الحد أبداً؛ لأن هذا في نظرهم هو الشيء الذي يجب أن يكون، وأما العكس فلا يمكن أن يقع؛ لأنهم لا يرون أن دماء الناس والبشر تتكافأ. فالذي علم الناس هذه الحقيقة هو محمد صلى الله عليه وسلم بوحي من الله، ولم يجعلها صلى الله عليه وسلم شعاراً، بل جعلها حقيقة معاشة يقر بها كل أحد، ويطمئن إليها كل أحد، وأما أولئك -حتى في نظرياتهم الخيالية- فلم يستطيعوا ذلك، ولا حتى في قوانينهم الوضعية التي يتلاعب بها إذا خالفت الأهواء السياسية، ولا أن يقروا بذلك.
  14. صورة واقعية من صور مبدأ المساواة والاحترام في الإسلام

    ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: ( ويسعى بذمتهم أدناهم )، ولما أجارت أم هانئ من استجار بها قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ )، فحتى لو كانت امرأة تجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك نأخذ به، وأما الآن فلا يستطيع أي جيش، ولا أي قيادة في العالم أن تجعل أدنى فرد في الأمة يسعى بذمتهم جميعاً، ويعطي الأمان لأي واحد، فهذا مستحيل أبداً، فلا بد من القيادة العليا أن تراجع الوزارة، والوزارة تراجع أعلى مسئول؛ حتى يحصل هذا الشيء، وأما أن يكون الإنسان فعلاً دمه مكافئاً، وجواره مقبولاً على مستوى القائد الأعلى في الدولة الإسلامية فهذه حقيقة لا نقول لم يعرفها غير المسلمين، بل إلى الآن لم يصلوا إليها ولن يصلوا إليها، إلا في ظل الإسلام.
  15. وجود العنصرية في أمريكا وأثرها

    ولذلك قامت الحروب الطاحنة الشرسة بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية في أمريكا من أجل الرق، ومن أجل العبيد، ومن أجل اللون، ومن أجل العنصرية، واستمرت إلى أن كان الاجتماع الذي رتبوه وقننوه، ويدعون إليه، ومع ذلك مهما كتبوا، ومهما أقروا من أنظمة، ومهما ادعوا من تساوي وتسامح؛ فلا يمكن أن يزول ذلك من القلوب؛ لأنها لم تتغير، فكل ما وضع لم يمس شغاف القلوب، ولم يصل إلى أن تتقي الله، وإذا اتقت القلوب الله عز وجل انتفى ذلك كله، وأما أن تظل تربية خارجية، وشعارات تردد فلا يمكن أن يصلوا إلى شيء.
    فإذا ارتكبت الجرائم قيل: إن هذه الجرائم ارتكبها أناس لهم لون معين، أو دين معين، أو من طائفة معينة؛ قالوا: إن هذا بسبب الاضطهاد الاجتماعي الذي تكثر في هذه الأماكن.
    وعندما يحللون الأحداث التي تقع في العالم الإسلامي فإنهم يقولون: إن هذه الجماعات تشعر بالقهر الاجتماعي، فهم ليس لديهم تفسير للحياة إلا من خلال هذه النظريات، فيطبقونها حتى في غير بيئتهم، لكنهم يتكلمون عن واقع موجود، فهناك قهر وهناك اضطهاد، ولا يستطيعون أن يغيروا قلوب الناس، بل إن الذين يدّعون هذه الشعارات، ويدعون الناس إليها لا يستطيعون أن يلتزموا بها كما ينبغي؛ لأنهم لا يتدينون بها، فهي شعارات، وهي حقائق في نظرهم موضوعية، يجب أن تقام، لكنه على صعيد الواقع العملي يقول: أحدهم أنا لا أستطيع أن أطبق ذلك.
    وهكذا حال الناس إذا لم يعرفوا الله، وأعرضوا عن دين الله سبحانه وتعالى.