المادة    
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنا كنا قد تعرضنا -بفضل الله تبارك وتعالى وتوفيقه- لمسألة عظيمة تتعلق بالتفاضل بين الناس، فقد قال الشيخ -رحمه الله تعالى- قوله: (وأكرمهم عند الله أطوعهم لله، وأتبعهم للقرآن)، وبينا بعض العادات والمعتقدات الجاهلية؛ قديمها وحديثها، في التفاخر بالأنساب والعنصر، أو بالأوطان.. أو بغير ذلك.
ونريد اليوم -إن شاء الله- أن نأتي على بقية ما يتعلق بهذا الموضوع قبل الدخول في المسألة التي ذكرها الشيخ بعد ذلك وهي: مسألة التفاضل بين الفقير الصابر، والغني الشاكر، وهي ليست من المسائل المؤثرة في العلم، ولا في العمل؛ إلا أن العلماء أكثروا من الحديث فيها، وفيها تفصيل كما ذكر ذلك الشيخ رحمه الله، وذلك يغني ويريح من الجدل الطويل فيها.
فنقول: كما قال الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، فالله عز وجل خلق الخلق كلهم من نفس واحدة؛ كما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك في أول سورة النساء، وكما جاء في الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب ) ، فكل هذا الجنس البشري هو أصله من آدم، وهذه حقيقة عظيمة لم يكن باستطاعة أحد أن يقولها، أو أن يثبتها جازماً بها إلا من كان لديه وحي من الله عز وجل، والناس لو تركوا بغير الوحي لتخبطوا، ولظن كثير منهم، أن كل طائفة من الناس، أو كل لون لهم أب مستقل.
  1. إنكار علماء الأحياء وحدة الأصل البشري

    وأسوأ من ذلك ما يتخبط فيه من يسمون بعلماء الأحياء؛ فإنهم يزعمون أن مسألة: أب واحد، أو أسرة واحدة من أب وأم، وتفرع منها -أي: من الأسرة- الجنس البشري كله؛ أنها خرافة قديمة، وأن المسألة -كما يزعمون- هي تطور عضوي، وهناك طوائف من الناس في أقاليم معينة قد سبقت في التطور أبناء طوائف أخرى؛ ولهذا يختلفون: في أي مكان ظهر الإنسان القديم، وفي أي منطقة من مناطق العالم يكون تطوره أعظم؟ فالبعض يرى أن الإنسان كان تطوره الأول في الصين ، وأن الإنسان الصيني -كما وجد من خلال الحفريات- قد اكتمل تطوره قبل كذا ألف سنة، فبعضهم يقول: قبل خمسين ألف سنة، أو خمسة وأربعين ألف سنة، والبعض يرى أنه أول ما تطور الإنسان كان في بلاد الرافدين ، وبعضهم يزعمون: أن الإنسان أول ما وجد، وأول ما تطور كان في أفريقيا ، وكان من أسرة سوداء؛ رداً على العنصرية البيضاء.. وهكذا.
    فيختلفون في ذلك، وينكرون القول بأن أصل بني آدم جميعاً هو رجل واحد، أو أسرة واحدة، وتفرع منها هذا الجنس بأكمله.
  2. الرد على من أنكر وحدة الأصل البشري

    ومن أعظم الدلائل على كذبهم -وهي كثيرة، ولا نطيل فيها؛ لأن هذا الموضوع مقدمة فقط: أولاً: أنهم حاولوا -عندما كانوا في ثورة وشدة وحماس التعصب لهذه القضية وهذه النظرية- اكتشاف الحلقات المفقودة بين السلالات البشرية الموجودة وبين المتقدمة، فأخذوا ينقبون الأرض: في الكهوف، والمغارات، وفي مصبات الأنهار، وفي الجزر النائية، وفي المناطق الثلجية المتجمدة؛ ليصلوا إلى ما يدل على هذه الحلقة المفقودة، وأخذ كل منهم يدعي من الكشف ما لم يدعيه الآخر.
  3. التزوير والتدليس عند بعض علماء الأحياء

    فظهرت مجموعة من العلماء الإنجليز أرادوا أن يسجلوا فضل السبق في هذا المقام، فصنعوا جمجمة صناعة كما يخرط الحديد أو غيره، وصنعت بحيث تصبح الحلقة المفقودة التي يريدون ويبحثون عنها، ثم أعلنوا عن أعظم كشف علمي يؤيد نظرية داروين ، ويثبت وجود الحلقة المفقودة، وهم يعتقدون بأن الإنسان الإنجليزي هو أول من تطور من الأجناس البشرية في العالم، وادعوا أنهم وجدوا هذه الجمجمة عند مدينة صغيرة في بريطانيا يسمونها: بلت داون ، فسموها جمجمة بلت داون .
    وينسبون الجماجم إلى المناطق التي وجدت فيها، فهناك جمجمة في ألمانيا ، وجمجمة في الصين ، وجمجمة في أمريكا ، وجمجمة في جنوب أفريقيا ، وجمجمة في وسط أفريقيا ، فهذه أصبحت أعظم وأهم جمجمة اكتشفت، وهي: جمجمة بلت داون .
    فتحير بعض العلماء في ذلك وشكك علماء آخرون في الموضوع، وبعد جهد جهيد فحصوا الجمجمة فوجدوا أنها مصنوعة ومكذوبة، وأعلن العلماء بعد ذلك أنها كذب، وأنها لا أصل ولا حقيقة لها، وأن هؤلاء غشاشون مزورون، ولا يستحقون الألقاب العلمية التي يحملونها، وصارت فضيحة كبيرة جداً تحدثوا عنها في التاريخ الذي يسمونه: التاريخ الطبيعي.
    والمقصود: أن هناك قدراً كبيراً من التزييف، فإذا كان هناك تضليل أو ضلال في فهم الحقائق، أو في استنتاجها؛ فإن هناك تزييفاً متعمداً فيما لم يصلوا فيه إلى نظرية، ولا إلى حقيقة، هذا جانب.
  4. ظهور بطلان إنكار وحدة البشرية بعد ظهور علم الهندسة الوراثية

    الجانب الثاني -وهو أهم، وأصبح الآن لا نقاش فيه-: أن الناس بعد ما تطور علم الأحياء في القرن العشرين، ثم بعد ما توصل إليه في العشرين سنة الأخيرة تقريباً وهو: علم الهندسة الوراثية -كما يسمونه- أو الهندسة الجينية، تبين لهم بما لا يدع مجالاً للشك بطلان تلك النظريات جميعاً، وأصبح كثير من العلماء المتعمقين المختصين يقولون بكل صراحة وبكل وضوح: لا بد لنا من الإيمان، فأبحاثنا وتجاربنا وآخر ما توصل إليه العلم الحديث يقودنا إلى الإيمان المطلق بوحدة الجنس البشري، وأن أصل بني آدم كلهم مهما اختلفت مناطقهم أو ألوانهم رجل وامرأة. فهذه الحقيقة أصبحت مسلمة، وسواء نظرنا إلى الأسبينو، أو نظرنا إلى الأقزام، أو نظرنا إلى العمالقة الموجودين في مناطق معينة من العالم، أو إلى سكان المناطق الاستوائية، أو سكان الجزر النائية التي تبعد آلاف الكيلو مترات عن القارات المعروفة.. كل هؤلاء على اختلافهم لوناً أو حضارة أو فهماً أو تاريخاً؛ يرجعون إلى أب واحد، وأم واحدة، أي: أسرة واحدة فقط، ومنها تفرعت البشرية، أصبحت هذه عندهم حقيقة، وصار هذا يدرس في جامعاتهم؛ لأنهم يطورون مناهجهم، وأما عندنا في العالم الإسلامي فلا يزال يدرس الكلام المتأثر بنظريات القرن التاسع عشر، وأن هذه السلالات تطورت كل سلالة فيها منفردة عن الآخرى. وعندنا كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو قطعي وصريح في ذلك، وهو يغنينا والحمد لله، وليس عندنا شك في هذا، لكن كونهم ينطقون، ويشهدون على أنفسهم بأنفسهم فهذه حقيقة، وهذا برهان من الله عز وجل ساقه إلينا؛ ليؤكد ما نقوله: إن دعوة الله عز وجل، ودين الله ليس فيه فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، وهذه هي القاعدة التي يجب أن يتعامل بها بنو الإنسان.
  5. الفائدة من تصحيح مبدأ: وحدة البشرية

    فلابد من هذا المبدأ كمعتقد؛ لأن الإنسان لو اعتقد ما يقوله هؤلاء الذين يدعون أنهم علماء الأحياء لكفر؛ لأنه خلاف صريح القرآن، فتصحيح هذا المعتقد يترتب عليه هذه العقائد الأخرى ومنها: اعتقاد أن الناس متساوون في الأصل، وأنه لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى؛ إلا من فضله الله عز وجل وهذا أمر آخر، وسيأتي -إن شاء الله- الحديث عنه في النقطة التالية. إذاً: هذه القضية الأولى: وحدة الأصل البشري بأجمعه.