المادة    
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
نتناول الحديث حول ما يتعلق بفكرة القومية أو القبلية التي نشأت مخالفة لما ذكر الله تبارك وتعالى، ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وفي غيره من الأحاديث.
فالقومية، أو الوطنية، أو القبلية، أو الحزبية المذهبية، أو النعرات العرقية، أو الطائفية، كلها يجمعها أنها تنافي وتخالف هذه القاعدة وهذا الأصل العظيم، وإذا أردنا أن نرجع إلى تاريخ القومية القديم فإنا نجد أن أكثر الناس غلواً في القومية وفي العنصرية؛ ولا يزالون إلى اليوم كذلك هم: اليهود ، وربما يكون لليهود السبق في تعليم غيرهم من الأمم التعصب العرقي الذميم، والمغالى فيه جداً، فإن الأمم الأخرى؛ وإن كانت كل أمة تتعصب لقوميتها إلا أنها لم تصل ولم تبلغ حداً يفوق اليهود ، وإنما كانت أكثر الأمم تبعاً لليهود ؛ كما حدث للقومية النازية في ألمانيا ، أو والفاشية في إيطاليا ، فهي ظهرت متأثرة بالفكر اليهودي، فـاليهود هم أكثر الناس عنصرية وقومية.
وقد ذكر الله تبارك وتعالى عنهم ما يدل على ذلك في القرآن، قال الله عز وجل: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، ويدعي اليهود أنهم شعب الله المختار، وأيضاً يرون استحلال أموال غير اليهود كما ذكر الله عز وجل: (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ))[آل عمران:75]، فيرون أن أموال الأميين حلال لليهود .
  1. سبب نشوء القومية والعنصرية لدى اليهود وأثر ذلك

    وهذه القومية عند اليهود إنما جاءتهم من فهم باطل للتوراة وتحريف لبعض نصوصها، أو من ابتداعهم في الكتاب الكبير الذي ابتدعوه واتبعوه أكثر من التوراة وهو ما يسمى: التلمود ، ومن آثار هذه القومية والعنصرية اعتقادهم أنه لا يمكن أن يكون نبي إلا من بني إسرائيل، وكان ذلك من جملة أسباب كفرهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الأميين، وقد بين الله تبارك وتعالى في سورة الجمعة تفضله وإنعامه على الأميين فقال: (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ))[الجمعة:2]، ثم بين سبب هذا التفضيل وهو: أن اليهود لا يستحقونه فقال: (( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ))[الجمعة:5]، فهذا الفضل من الله تبارك وتعالى على الأميين هو بحكمته، فهو الذي اختارهم لحكمة يعلمها، وأما أولئك فنزع منهم النبوة لأن حالهم أصبح كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فنزعت منهم النبوة، فهم يرون أنهم أحق الناس بالنبوة، وألا نبوة في غيرهم، ووصل بهم الحد إلى اعتقاد أن غير اليهود هم من الأميين، أو يسمونهم: الكفار، فالمهم أن أي إنسان غير يهودي؛ سواء كان نصرانياً، أو مسلماً، أو من أي دين آخر من باب أولى؛ فهم إنما خلقوا ليكونوا كالحمير لليهود ، فيركبهم شعب الله المختار.
    ويعللون سبب خلقة الله سبحانه وتعالى لغير اليهود على شكل اليهود فيقولون: هذا من فضل الله على اليهود ؛ حتى يستطيعوا استخدامهم، وإلا فهم في الحقيقة كالحمير والبغال والجمال وغيرها من الحيوان، لكن الله خلقهم على صورة اليهود ليستطيع اليهود أن يستخدموهم كما يشاءون، فهم وأموالهم حلال لهم، ولا حرج عليهم في شيء من ذلك.
    وذلك كما قلنا بسبب نصوص من التوراة حرفت، أو ما وضعه الأحبار والرهبان في التلمود ، فأما نصوص التوراة المحرفة فكثيرة، وهذا ما بينه الله تبارك وتعالى، وذلك معلوم بالتواتر: أنهم حرفوا التوراة.
  2. صور من عنصرية اليهود المقيتة

    ومن جملة ما حرفوا من الكلم عن مواضعه: أن الله سبحانه وتعالى أمر في الوصايا العشر التي أنزلها في التوراة ، وفي كل كتاب؛ أمر الناس بأن يقوموا بالقسط، وأن يوفوا الكيل والميزان، وألا يزنوا، وألا يسرقوا، فحور اليهود ذلك وحرفوه، فلا تزن، أي: بـاليهودية ، ولا تسرق مالاً، أي: لا تسرق مال اليهود ، ولا تقتل النفس، أي: لا تقتل أحداً اليهود .. وهكذا.
    فحرفوا ذلك ليصبح خاصاً بـاليهود ، وأما غير اليهود فجاء التلمود وأكمل هذا، فمن نصوص التلمود : إذا وقع أممي -يعني: أمي غير يهودي- في حفرة فلا تنقذه منها، بل إن استطعت فألق عليه حجراً حتى لا يخرج.
    أي: إذا وقع في حفرة، أو غرق في ماء، أو سقط في أي مكان فلا تنقذه أبداً؛ لأنه عدو لك، فالتفضيل تحول إلى عداوة شديدة مقيتة.
  3. سبب وجود هذه العصبية في التلمود اليهودي

    والتلمود كتب في بابل ، وبابل هي المدينة المشهورة في العراق ، والتي كانت مقر حكم الفرس: بختنصر ومن معه، وقد سبوا اليهود إلى بابل ، فـاليهود كانوا في ظل ظروف الأسر والضيق، فهم مأسورون مقهورون للفرس، وعندهم شعور بالاستعلاء، وأن الله اصطفاهم واختارهم، وأن هؤلاء وثنيون مشركون، وفي نفس الوقت هم يعيشون تحت قهرهم؛ فكتبوا التلمود في ظل هذه الظروف، فكانت فيه روح الاستعلاء مع الشعور بالذلة، إلا أنه كتب بلهجة الاستعلاء والكبر، واحتقار جميع الشعوب، والعداوة لهم، فأي إنسان كائناً من كان من غير اليهود لا حرمة له عندهم، كما أنهم كانوا لا يرون أي حرمة أو تقدير لهؤلاء الذين أسروهم، وقهروهم، وسلبوهم ملكهم، وآذوهم وعذبوهم.
    فالنفس الانتقامية لدى اليهود هي التي كتبت هذا التلمود ، وعندما تحرروا أيضاً من الأسر البابلي ودخلوا وانتشروا في أوروبا وغيرها؛ كان النصارى يضطهدونهم اضطهاداً شديداً؛ لأنهم يعتبرونهم قتلة المسيح ، و المسيح عند النصارى هو الرب، فهؤلاء هم قتلة الرب الذين صلبوه، وقبل ذلك كذبوه.. إلى آخره، فأخذ النصارى يتفننون في تعذيب اليهود ، فازداد اقتناع اليهود بما في التلمود كما كان الحال في بابل ، وكانوا يكتبون عبارات شنيعة جداً في المسيح عليه السلام لكن لا يضعونها؛ لأن التلمود في الأصل كتاب سري، فلا يطلع عليه غير اليهود ، فكانوا يكتبون هذه العبارات ويضعون مكان اسم مسيح علامات، أو نقاط، أو مربعات، أو مثلثات؛ حتى لا يذكروه، لكن الحبر عندما يقرؤه عليهم فإنه يقول لهم: إن المقصود هم المسيحيون، أو المسيح، ثم بعد ذلك عمم على غير النصارى في خارج أوروبا .
    وبهذه الروح كان اليهود -ولا يزالون- ينظرون إلى غيرهم من الشعوب؛ ولهذا لا يرون لأي أمة فضلاً عليهم مهما أعطتهم، أو أنفقت أو أغدقت عليهم، أو وقفت معهم؛ لا يرون لها أي فضل؛ لأن هذه الأمة وما ملكت هي ملك لليهود أصلاً؛ ولأن الله تعالى أراد أن تكون ملكاً لليهود ، فمهما فعل بهم الناس، أو أسدوا إليهم من معروف فالفضل لا يزال لهم؛ لأنهم هم الأصل، ومن عداهم فلا قيمة له.
  4. أخذ النازيين للفكرة العصبية من اليهود

    فتعلم من هذا الفكر اليهودي القوميون الغلاة في أوروبا وأهمهم: النازيون، لكن قبل أن نتكلم أو نتحدث عن هذا الفكر نرجع إلى أصل وجود فكرة القومية في أوروبا ؛ فهي تسبق النازية، وتسبق التأثر الواضح بـاليهود ، وذلك أن القومية لم تكن معروفة في أوروبا على الإطلاق، وإنما كان العالم فيما يسميه المؤرخون: القرون الوسطى؛ كله كان الأصل فيه هو الدين، وكان هو القاعدة في التعامل، وكان الإنسان أكثر وأعظم ما يسأل عن دينه، فهو إما مسلم، وإما نصراني، وإما يهودي، وإما مجوسي، أي: من أهل الملل.
    وأما العصبيات والعنصريات فلها اعتبار ثانٍ، وتأتي بعد الدين، والأصل هو الدين؛ سواءً كان ذلك في أوروبا ، أو في الشرق، أو في أي مكان، وأول ما ظهرت الفكرة القومية ظهرت في شكل وطني؛ وذلك بظهور الثورة الفرنسية التي يزعم الغربيون أنها مفتاح الحرية، ومشرق النور، وفجر المساواة والعدالة والحضارة الحديثة، فعندما ظهرت الثورة الفرنسية لم يكن لها أي طابع ديني، وإنما كانت وطنية. وتقول: إن الناس جميعاً متساوون في الوطنية، فالجميع أبناء وطن واحد، فلا ينظر إلى أديانهم، ولا إلى عقائدهم ومللهم، وهذه الفكرة كانت جديدة على الناس؛ سواءً في بلاد الغرب، أو الشرق، فالناس إنما يتفاضلون بحسب الدين، وكل إنسان يرى أنه أفضل من غيره ديناً، ومهما كان المخالف له في الدين فإنه يحتقره، لكن هؤلاء المفكرون -كما يسمون- الذين وضعوا أفكار الثورة الفرنسية كانوا معادين للدين؛ لأسباب ولظروف خاصة لا وقت الآن لشرحها.
    فكانوا يأخذون من الفكر اليوناني القديم، ومن الأفكار التي ظهرت في أوروبا ، ونمت وترعرعت شيئاً فشيئاً بعد ظهور حركة الإصلاح الديني، وهذه نأتيها إن شاء الله عندما نتحدث عن النازية، فعندما كان هذا الفكر بعيداً عن الدين؛ جمعوا الأمة كما يزعمون على أساس وطني.
    فهناك دول الوطنية والقومية فيها شيء واحد، أي: لا فرق بين القومية والوطنية، وهناك دول أو مجتمعات القومية فيها أوسع وأعم من الوطنية، وأوضح مثال على ذلك: الدول العربية، فالدول العربية: الوطنية فيها أضيق من المفهوم القومي؛ فإن الوطنية المصرية شيء، والوطنية العراقية شيء آخر، وكذلك الوطنية السورية، أو الوطنية المغربية، فهذه كلها وطنيات، لكن يجمعها جميعاً قومية واحدة وهي: القومية العربية.
    وأما بعض الدول فقوميتها هي وطنيتها مثل: ألمانيا ، ومثل: اليابان ، فهم شعب يعيش على أرض واحدة، ويتكلم لغة واحدة، وفي مكان واحد، وله تاريخ واحد، فقوميته هي وطنيته، وكذلك الفرنسيون وخاصة عند ظهور هذه الثورة، فكل فرنسي فهو يعيش على أرض فرنسا ، ويتكلم هذه اللغة، وله هذا التاريخ المشترك، فهو ينتمي إلى الوطن بهذا الحكم، فالوطنية هي القومية التي ينتمي إليها هذا الشعب.
    فقد ظهرت وترعرعت الوطنية هنا مختلطة ومندمجة مع القومية، فيمكن أن تعتبر الثورة الفرنسية ثورة وطنية، أو ثورة قومية، وكلاهما سواء، ثم نشأت بعد ذلك القوميات الأخرى في أوروبا ، وارتبطت بالحروب الدينية.
  5. تفتت أوروبا وسبب ذلك

    وأول ما تفتتت أوروبا كان ذلك على يد حركة الإصلاح الديني التي يتزعمها مارتل لوثر و كانفل ، ومن كان معهم، وهؤلاء ابتدعوا الدين الذي يعتبرونه تصحيحاً للنصرانية وهو: البروتستانتية، ومعنى البروتستانت: المعارضون المحتجون، أي: معارضون للبابا زعيم الكاثوليك في روما ، ومحتجون عليه وعلى ما أحدث في الدين من بدع، وأرادوا تصحيح الدين، ولكنهم لم يأتوا على القضايا الأساسية في الدين، فلم يصححوا التثليث ليصبح توحيداً، ولم يصححوا اعتقاد أن المسيح ابن الله ويقول: بأنه عبد الله ورسوله، وغير ذلك من الأمور، ولكنهم اعترضوا عليه في أمور كثيرة من أهمها: توسط رجل الدين بين العبيد وبين الله تبارك وتعالى، فالكاثوليك يقوم دينهم على هذا التوسط، فرجل الدين هو الواسطة، فلا يمكن الاستغفار إلا عن طريقه، ولا يمكن الصدقة إلا عن طريقه، حتى إنه يباشر كثيراً من أمور الناس عند الموت، وعند الولادة، وعند الزواج، والأسرار السبعة -كما يسمونها- من التعميد، والزواج، والبيت المقدس عند الموت، وما أشبه ذلك، فهذه مراسيم معينة لابد أن يقوم بها القديس، وإن لم تفعل لأي إنسان فإنه يعتبر ويعد محروماً من الجنة؛ لأنه ليس بينه وبين الله أي صلة.
    ومن ذلك احتكارهم لقراءة وتفسير الإنجيل ، فلا يمكن لأحد أن يقرأ الإنجيل ، أو أن يفسره إلا رجال الدين القساوسة، ويقرءونه باللغة القديمة وليس باللغات المعاصرة، واللهجات المحلية التي كانت في أوروبا ، فعندما ظهر مارتل لوثر أحدث انفجاراً قوياً وعنيفاً جداً في هذه التركيبة التي كانت أوروبا بأجمعها مجتمعة عليها.
    وقد تأثرت حركة مارتل لوثر تأثراً واضحاً جداً بالإسلام والمسلمين؛ نتيجة الحروب الصليبية، فوجدوا أن المسلمين يقرءون كتاب الله، وكل منهم يقرأ كلام الله كما يشاء، ويعبد الله سبحانه وتعالى وليس بينه وبين الله واسطة، فوجدوا أنهم يمكن أن يعيشوا ولهم الكرامة الإنسانية الحقيقية، والعبودية لله تبارك وتعالى من غير توسط أحد.
    وقد اجتهد أناس قبل لوثر في ترسيخ هذه المبادئ، أو زحزحة هذه التقاليد العتيقة القديمة التي نشأ عليها الغربيون، فنشأت حركة سموها: حركة تحطيم الصور والتماثيل، وأخذوا يحطمون الصور، ويحطمون التماثيل في كثير من أنحاء أوروبا ، ويقولون: إن هذه وثنية؛ لأنه مكتوب في التوراة : لا تعمل صنماً، ولا ترسم صورة، ولا تعبد وثناً.. إلى غير ذلك مما هو موجود في التوراة ، فقالوا: هذا ليس من الدين في شيء، وهم تأثروا في هذا بالمسلمين، وهكذا بدأت الحركات من هذا النوع، ثم بلغت القمة في حركة مارتل لوثر ، والإصلاحيين البروتستانت.
    وقد كان لوثر ألمانياً، فترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية، وجعل الناس كلهم يقرءونه، فكل إنسان يقرأ الإنجيل ، ويتعبد كما يشاء، ولا يراجع أي قسيس، وأصبحوا يعتقدون كفر الكالثوليك الذين في روما، أي: البابا، ومن يتبعه في أوروبا كلها، والبابا في المقابل يعتقد أن البروتستانت كفار، وحرم كل منهما الزواج من الآخر، فلا يجوز للبروتستانتي أن يتزوج كاثوليكية والعكس، وصارت بينهم عداوة شديدة جداً.
    و لوثر باعتبار أنه لم يضع منهجاً دقيقاً ومنضبطاً بقدر ما وضع خروجاً عن البابوية؛ خرجت فرق وقواعد كثيرة تحت الشعار نفسه، وخالفته وخالفت البابا، فكثرت الفرق والطوائف الدينية في أوروبا ، والمهم أن القومية الألمانية تمحورت حول البروتستانتية ديناً وعقيدة، فالشعب الألماني قومية، فلغته الألمانية، ودينه البروتستانتية.
  6. الثورة على الدين ورجال الدين في أوروبا

    وأما الفرنسيون -وهم الأعداء الألداء؛ ولا سيما في تلك المرحلة- فإنهم بقوا على دين الكاثوليك، وهم إلى اليوم كذلك، فدينهم الكاثوليكية تبعاً للبابا، ولكن عندما ظهرت الثورة الفرنسية أصبحت دعوتهم لا دينية، فهم ثاروا على البابا، لكن ثورة غير دينية، وثاروا على رجال الدين، ولكنها ثورة غير دينية، فبقي عندهم الدين في حدوده المعينة التي رسموها له، والتي لا يتدخل فيها في شئون الحياة، وأما في مجال الكنائس وما يتعلق بها فقد أعطوها الحرية، وبقيت على مذهب الكاثوليك، فهنا نشأ الصراع والتنافس الشديد في أوروبا بين هاتين الدولتين وبين غيرها من الدول فيما بعد، وارتبطت القومية بالدين أيضاً، وأصبح كل منهما يمثل شيئاً واحداً.
  7. القومية الإنجليزية

    وأما الإنجليز فقد أخذوا العقيدة والديانة البروتستنتية، ودعوا إلى القومية الإنجليزية، وبدأت تظهر فكرة: القومية الإنجليزية، لكنهم انتشروا وتبددوا في أنحاء كثيرة من العالم خارج حدود بلادهم، فأصبحت العداوة بين الألمان والإنجليز عداوة قومية محضة، وإلا فهم في الدين على مذهب واحد.
  8. الخلافات القومية بين الإنجليز والألمان والفرنسيين

    وأما الفرنسيون؛ فقد كانت العداوة بينهم مختلفة؛ ولهذا نجد أن هذه الدول الثلاث قل أن تتفق تاريخها، فتجد أن الحروب والخلافات والشحناء موجودة بينها، فإذا اتفقت منها اثنتان فهما ضد الثالثة غالباً، وفي هذه الأيام يريدون إقامة الدولة الأوربية، أو الولايات الأوربية المتحدة، فتصبح أوروبا دولة واحدة تتناسى كل هذه الخلافات، لكن الغالب عليها هو هذا.
    فهنا في هذه الفترة -وهذا الكلام قبل مائتين سنة تقريباً فصاعداً- امتدت ونشأت وترعرعت الأفكار القومية في كل دولة من هذه الدول، فأصبح لكل دولة شعراؤها، وشعاراتها ورموزها، وتاريخها، ومفاخرها.. وهكذا، وابتعدت كل واحدة عن الأخرى ابتعاداً شديداً بعد أن كانت قبل الثورة الفرنسية، وقبل حركة مارتل لوثر ؛ كانت أوروبا كلها أمة واحدة، ويجمعها دين واحد، فتشعبت تشعباً شديداً جداً.
  9. استيراد الوطنية من أوروبا إلى البلاد العربية

    وفي هذه الفترة كان العالم الإسلامي كله أو -على الأقل- ما يوازي منه أوروبا وهي: منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط؛ كانت تحت حكم الدولة العثمانية، ولم يكن المسلمون يعرفون أي شيء عن الفكرة القومية، ولا الوطنية، إلى أن استوردوا هذه الفكرة، وأول ما ظهرت في مصر ، وظهرت أيضاً وطنية، ولم تظهر قومية، فظهرت الوطنية المصرية، والافتخار بـمصر ، وأمجاد مصر ، وبدءوا يفتخرون بالفراعنة، وما قبل الفراعنة؛ تأثراً منهم بالمبتعثين الذين ابتعثوا إلى فرنسا ، وتأثروا بفكرة الوطنية الفرنسية، والدولة اللادينية، ونشأت في مصر دعوة قوية جداً إلى الوطنية؛ حتى كانت كل الأحزاب -على اختلافها- تفخر بالوطنية، فنجد حزب الوفد كان وطنياً، وكذلك كان سعد زغلول ، و مصطفى كامل ، ورغم عداوة مصطفى كامل لـسعد زغلول ، ورغم ما عنده من مسحة إسلامية، لكن كان يقول: لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً، وكان هذا شعاراً يبثه على قومه.
    وكان أحمد شوقي ، و حافظ إبراهيم شاعرين وطنيين، وقل أن تجد لهما شيئاً من الشعر الذي يفتخرون فيه بالعرب، أو بالعالم الإسلامي إلا أحياناً، فالأصل عندهم في الفخر هو الوطنية، ونوع من الامتزاج بالقومية لكن لم تظهر ملامحه، ولم تتضح في تلك المرحلة.
  10. ظهور القومية العربية والقومية التركية

    ثم ظهرت فكرة القومية العربية، والقومية التركية، والقومية العربية أول من دعا إليها وأظهرها كقومية عربية هم النصارى العرب هم الذين دعوا إليها، وهؤلاء النصارى كانوا في بلاد الشام ، وأما النصارى الذين كانوا في مصر -وهم الأقباط- فلم يكونوا يفكرون في القومية العربية، بل ولا حتى في الوطنية المصرية، وإنما كان همهم هو التبعية للاستعمار، وأما النصارى الذين تبنوا فكرة القومية العربية فهم نصارى بلاد الشام ، لكن الذي حدث أن الدولة العثمانية ضغطت عليهم، وآذتهم، فهاجرت منهم عقول كبيرة إلى مصر ، وهناك أسسوا جريدة الأهرام، ومجلة المقتطف وغيرها، وبدءوا يبثون الفكر القومي في مصر ، فأصبح الفكر القومي منتشراً في مصر إلى حد ما، وكذلك في بلاد الشام ، وهي مقره ولا سيما في لبنان ؛ لأن النصارى كانوا في منطقة جبل لبنان ، ولم تكن الدول مقسمة مثل اليوم.
  11. تأييد الغرب لفكرة القومية العربية

    وهناك تركبت الفكرة والدعوة النصرانية، وأيدها الغرب، فقد قال برنارد لويس في كتابه الغرب والشرق الأوسط : لقد تبنى الغرب القومية العربية؛ لتكون معولاً لهدم الإسلام، لتختلف آصرة التجمع عند العرب عن الترك، وعن الإسلام، فينفصلون عن الترك، وعن الهنود وغيرهم، وتصبح القومية العربية هي التي تجمعهم فقط، فيسهل تفتيتهم.
  12. سعي الغرب لتفتيت الدولة العثمانية

    لقد كان غرض الغرب تفتيت الدولة العثمانية بأي شكل من الأشكال، ففي الدول العربية أظهروا فكرة القومية العربية، ونشأت فيها الجمعيات مثل: جمعية العربية الفتاة وما تفرع عنها، وقد كانت متأثرة بالماسونية وهناك خلاف كبير: هل كانت جمعيات كثيرة فعلاً، أو أنها جمعية واحدة، وهي متأثرة جداً بالماسونية، وكانت تظهر بأسماء مختلفة مثل: جمعية باريس وغيرها التي ظهرت في أثناء الحرب العالمية الأولى.
    فالمهم أنها ظهرت جمعيات كثيرة وأهمها: الجمعية القحطانية، وجمعية العهد، والجمعية العربية، والعربية الفتاة.. إلى آخره، وهذا كان في لبنان والدول العربية.
    وأما في تركيا فقد بعثوا القومية التركية، أو القومية الطورانية، فأصبح النصراني يتغنى بأمجاد الأمة العربية، كما قال اليازجي وأمثاله:
    تنبهوا واستفيقوا أيها العرب                        فقد طمى الخطب حتى غاصت الركبُ
    إلى آخر ذلك الشعر، فكانت هناك أشعار، ومنشورات، وكتب ألفوها، وظهرت الدعوة في تركيا إلى القومية الطورانية التركية.
  13. حال الذين دعوا إلى القومية التركية والعربية

    والذين دعوا إلى القومية الطورانية التركية كانوا من اليهود ، وهذا شيء ثابت، حتى إن أحد المؤرخين الغربيين والأمريكان واسمه: واطسون يقول: إنه لا يوجد أحد في حركة الاتحاد والترقي -وهي الحركة القومية التركية- من أصل تركي حقيقي، وإنما هم من اليهود وغيرهم، والذين دعوا إلى القومية العربية ليس فيهم -في الأصل- مسلم، فأكثرهم وأصولهم أيضاً نصارى، وهنا يجد الإنسان المفارقة، فقد كانت كلها تهدف إلى تحقيق التمزق والفرقة بين المسلمين؛ لمعرفتهم بأخطار الحركة القومية.
  14. انتهاء القوميات في أوروبا والسعي إلى التوحيد

    و أوروبا في هذه المرحلة قد عانت وذاقت الأمرين من الفكر القومي، والتمزق القومي، فجاءت وصدرت هذا الفكر إلى العالم الإسلامي؛ في حين أنها قد بدأت هي تكون التحالفات والتكتلات الأممية، وفوق الأممية -أي: العالمية- التي ظهرت في الحرب العالمية الأولى، ثم في الثانية، وبعد الحرب العالمية الثانية -كما تعلمون- انتهت القوميات في أوروبا واختفت، والآن يريدون إخفاء حتى الوطنيات تماماً، وتصبح أوروبا أمة واحدة ليس فيها الوطنية فضلاً عن القومية.
    فهم قد ذاقوا مرارة القومية، فأرادوا أن يصدروها لتفكيك العالم الإسلامي، فظهرت الدعوة الطورانية أو التركية، وأرادت أن تفرض اللغة التركية على جميع العرب، وفي المقابل ظهر الدعاة القوميون العرب، وأكثرهم من النصارى ، ثم تبعهم الشيعة ، و الدروز وأمثالهم، ويقولون: العروبة، واللغة العربية، والأمة العربية، وكل منهم يحارب ويعادي الآخر.
  15. سقوط الدولة العثمانية ودخول الاستعمار الأوروبي

    وقد كانت بداية تقسيم ميراث الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى؛ عندما عقدت اتفاقية: سايكس وبيكو التي يسمونها: سايكس بيكو، فاتفقوا على تقسيم الخلافة العثمانية بين الغرب، فقامت الحركة القومية العربية وجيشت جيوشاً؛ لمحاربة الدولة العثمانية مع الإنجليز، فعندما أراد الصليبيون أن يدخلوا إلى القدس كانت رايتهم تضم جموعاً عديدة منهم: الإنجليز، ومنهم: العرب القوميون الذين آمنوا بفكرة القومية العربية، فقد انظموا إلى الإنجليز؛ لمقاتلة إخوانهم في الإسلام (الترك)، ودخل الإنجليز القدس ، ولما دخل القائد اللمبي إلى مدينة القدس قال: الآن انتهت الحروب الصليبية. أي: أنهم لم ينسوا صليبيتهم.
    والترك في المقابل كان فيهم الانحراف الآخر أيضاً، وهي: القومية الأخرى، فبانتهاء الحرب العالمية الأولى انتهت الخلافة العثمانية تماماً، وتمزق العالم الإسلامي، ونفذت اتفاقية سايكس بيكو، وظهرت الأفكار الوطنية والقومية كأكثر ما يكون، لكن كانت في بلاد مصر -كما ذكرنا- أكثر ما تكون وطنية، وأما في بلاد الشام فإنها كانت قومية.
  16. مباركة الغرب لنشوء التطورات القومية في العالم العربي

    ثم تطورت الحركة القومية وجمعية الفتاة العربية -وكانت هناك: جمعية مصر الفتاة، والعربية الفتاة- فأرادوا تأسيس رابطة قومية تجمع العرب، وبارك هذه الرابطة وشجعها؛ بل هو الذي اقترحها في الأصل كمنظمة: إنطوني إيدل ، وقد كان وزير خارجية بريطانيا ، ثم رئيس وزراء بريطانيا ، فاقترح فكرة إنشاء جامعة الدول العربية، فأنشأ بروتكول أسكندرية، ثم جامعة الدول العربية، وكان الذين أثبتوها ووقعوا ميثاقها هم أصلاً -قبل قيام هذه الجامعة- كانوا أعضاء في جمعية العربية الفتاة، وأشباهها من الجمعيات التي كانت قائمة في ذلك الزمن، ومن أوضح الكتب على هذا كتاب نشأة القومية العربية لـمحمد عزة دروزة ، وهذا الكتاب موجود ويباع، كان مؤلفه واحداً منهم، وكذلك كان الشاعر خير الدين الزركلي صاحب الأعلام وواحداً من هؤلاء القوميين، وشعره وحياته يظهر فيها هذا الشيء، وغيرهم كثير.
    فكانت بلاد الشام هي الأساس، وكان رئيس بلاد الشام شكري القوتلي كان من الجمعية العربية الفتاة، ووقع ميثاق جامعة الدول العربية، فنشأ الفكر القومي بعد ذلك؛ حتى قام الحزب البعثي، واستطاع حزب البعث بقيادة ميشيل عفلق أن يؤسس فكرة عقدية قوية جداً تحكم الآن العراق و سوريا ، ولهم وجود قوي في ليبيا و السودان ، وهم الآن تقريباً أقوى حزب في موريتانيا .
    وبعد الحرب العالمية الثانية نسيت في أوروبا القوميات تماماً، فأصبحت تكتلات عقائدية وعسكرية، وأصبحت أوروبا -في الحقيقة- معسكرين: حلف وارسو، وحلف الناتو، أو شمال الأطلسي، وحلف شمال الأطلسي يضم الولايات المتحدة الأمريكية ، ومعها دول غرب أوروبا كلها، على اختلاف مذاهبها الدينية، وقومياتها، فأصبحت كتلة واحدة، وأصبحت أوروبا الشرقية الشيوعية -على اختلاف أجناسها، وأعراقها- كتلة واحدة، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في عام (1945م).
    وبعدها وقع ميثاق جامعة الدول العربية، ثم ظهر وتأسس حزب البعث، وقد كان المعسكر الشرقي معسكراً اشتراكياً، فاندمجت الفكرة الاشتراكية في الحركات القومية والوطنية؛ لأنها كلها مستوردة من الغرب، فقامت الثورة المصرية، وحولها جمال عبد الناصر من فكرة وطنية إلى فكرة قومية؛ ولذلك لا تجد قبل جمال عبد الناصر في مصر إلا إشارات إلى العرب، أو العروبة ككل، وكانت الفكرة راسخة في مناهج التعليم، وفي الصحافة والإعلام، والشعر والشعارات هي الوطنية والفرعونية .. إلى آخره، فالمهم أن تكون وطنياً مصرياً، فأنشأ جمال عبد الناصر إذاعة صوت العرب، والصحافة العربية، والفكر العربي، والأمة العربية من المحيط إلى الخليج وغير ذلك، فأجج الفكر العربي القومي.
    وفي المقابل أيضاً جاء البعثيون بشعار: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، فهذا هو شعار حزب البعث، فبدءوا ينشرون هذا المبدأ، وأخذ الصراع يشتد بين هؤلاء وهؤلاء، مع أن جمال عبد الناصر دعا إلى الاشتراكية مع القومية العربية، وأولئك دعوا إلى الاشتراكية مع الوحدة العربية، فالثالوث الذي جعله ميشيل عفلق بدل الأب، والابن، وروح القدس؛ جعل الوحدة، والحرية، والاشتراكية.
    فهؤلاء اشتراكيون، وهؤلاء اشتراكيون، لكن هناك خلافات حزبية بينهم، واختلاف في الولاءات: فهذا مع الغرب، وهذا مع الشرق؛ كان على أشده، والذي يجمع الجميع: أنهم لا يريدون الإسلام، والغرب -سواءٌ كان شرقاً أو غرباً- لا يريد أن يكون هناك أي تجمع باسم الإسلام، كما عبر براز بلويس وغيره بأوضح ما يمكن: أن الغرب أراد هذا بوضوح، أي: أراد ألا تكون هناك أي رابطة، أو جامعة إسلامية، وإنما يكون المبدأ القومي هو الذي يجمع هذه الشعوب جميعاً.
    وتحت شعار الحركة القومية، والحركة البعثية نشأت أيضاً في دول أخرى مثل: دول الجزيرة العربية ؛ نشأت الفكرة الوطنية التي لم تكن معروفة من قبل، ففي هذه البلاد، وفي عمان ، وفي بلدان الخليج ، و اليمن لم يكونوا يعرفون على الإطلاق فكرة التفاخر بالحضارات القديمة، وبالوطنية، ولا يعلمون عنها أي شيء؛ فضلاً عن القومية، فنجد أن القوميين تبنوا إحياء هذه الحضارات والآثار القديمة؛ وحتى الوثنيات القديمة، بل مع أنهم يدعون القومية العربية، ويتعصبون للغة العربية؛ فقد أحيوا ما يسمونه: بالتراث الشعبي، والأشعار النبطية، وما أشبه ذلك، وهذه كلها عوامل تفتيت، فالأمة الإسلامية تفتت إلى قوميات، والقومية تفتت إلى وطنيات، والوطنية تتفتت إلى قبليات، وإلى حزبيات، وإلى حضارات مختلفة، فهنا حضارة عاد، وهنا حضارة ثمود وغير ذلك، كل هذا بغرض تفريق وتمزيق الأمة الإسلامية، ورابطة الولاء، فأصبح الإنسان لا يوالي ولا يعادي إلا فيما يعتقد من قومية، أو وطنية.
    وقد كان الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله أكثر كلامه -إن لم يكن كل كلامه- يصب في حرب الماسونية، وهؤلاء القوميين المجرمين، وخاصة: إذا ما روج للشعارات القومية إلى حد لو أن أحداً يذكر الدين، أو يقول: إن هذا العربي ليس مسلماً؛ فإنه ينكر أشد الاستنكار في أي مكان، وأصبحت كل الأمور عربية، ورسخت فكرة القومية العربية حتى قال شاعرهم:
    سلام على كفر يوحد بيننا            وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
    هبونيَ عيداً يجعل العرب أمة            وطوفوا بجثماني على دين برهمِ
    بلادك قدمها على كل ملة            ومن أجلها أفطر ومن أجلها صمِ
    وإلى آخر هذا الكلام والعياذ بالله تعالى.
    والثاني يقول:
    داعٍ إلى العهد الجديد داعاكِ            فاستأنفي في الخافقين علاكِ
    يا أمة العرب التي هي أمنا            أي الفخار نميته ونماك
    وتسمع أشعار ميخائيل نعيمة و جبران خليل جبران ، و إيليا أبو ماضي ، و إيليا حاوي ، إلياس أبو شبكة وغيرهم، فقد كانوا نصارى، وهؤلاء كلهم هم الشعراء الذين يتغنى الناس بأفكارهم. وحتى أحمد شوقي قد أخذ عليه الفخر بالقومية العربية، فيقول:
    بلاد العرب أوطاني            من الشام لبغدادي
    فلا دين يفرقنا            ولا حد يباعدنا
    أي: لا يفرقنا دين، ولا شيء.
    وأصبحت المفاخرة: بأن أبناء الوطن جميعاً يعملون ضد الاستعمار، وضد القوى الرجعية، ولو سمع الواحد منكم الإذاعات العربية قبل حوالي عشرين أو ثلاثين سنة فإن أكثر ما يتعبه هو تكرار عبارة: إن القوى الوطنية الواعية والتقدمية تحارب الاستعمار، والقوى الرجعية، والمراد بالرجعية: الدين في نظري، فكانوا يستغلون فكرة القومية والوطنية لإشعال الحرب الضروس على الدين، وعلى كل من يدعو إلى الانتماء إلى الإسلام، أو يوالي أو يعادي في هذا الدين، حتى مسخت الأمة -تقريباً- مسخاً كاملاً، أو شبه كامل، وأصبحت نظرة كل الناس متجهة إلى الأمة العربية، والوطن العربي، فإن درست الجغرافيا؛ فهي جغرافية الوطن العربي، وإن درست الثروة؛ فهي ثروة الوطن العربي، وإن درست السكان فهم سكان الوطن العربي، وإن تحدث أحد مثلاً عن الأخطار فإنه يذكر الأخطار على الأمة العربية.. وهكذا.
    فالقضية عندهم هي قضية عربية؛ بغض النظر عن كون لبنان مثلاً دولة نصرانية، أو فيها نصارى يصلون إلى النصف أو أقل، وهناك الأقباط في مصر وغيرها، فذلك لا يضر فكلنا عرب ويكفي، وفي الحقيقة: أن هذه مجاملة لهؤلاء الحفنة القليلة من النصارى في لبنان و مصر حيث تخلى الباقون عن دينهم، وإلا فهؤلاء ليس لهم قيمة، فالتعبير المستخدم -ولا زال موجوداً إلى الآن - يقال: الأمتان العربية والإسلامية، فجعلوها أمتين من أجل خاطر مليون أو مليون ونصف في لبنان ؛ وأما الأقباط في مصر فإنهم إلى الآن لا يعدون إلا أقلية، لكن الدولة التي رئيسها نصراني في العالم العربي هي لبنان ، فمن أجل هذه الدويلة التي ما كانت إلا ولاية صغيرة جداً، ومن أجل خاطر هؤلاء تجعل الأمة الواحدة التي قال الله تعالى فيها: (( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ))[المؤمنون:52]؛ تجعل الأمة أمتين: الأمة العربية، والأمة الإسلامية.
    ولذلك تجد أن أي قضية تمس لبنان وتقصدها فإنها تأخذ حجماً أكبر بكثير جداً من قضية تمس المسلمين مثلاً في أي مكان؛ نتيجة رسوخ الفكرة القومية عند الناس، وأصبح لا يمكن أن تنظر إلى أي أحد وتقول: هذا مسلم، أو نصراني، أو تسأل: ما هو دينه؟ إلى ظهور هذه الصحوة الإسلامية الحديثة -والحمد لله- فما كان يتحدث أحد بهذا إلا ويحتقر، ولا يستطيع أن يكتب في مجلة، أو يتكلم في الإذاعة وهو يخالف فكرة القومية العربية، أو الأخوة العربية، والرابطة العربية، واللغة المشتركة، والتاريخ المشترك.. إلى آخره.
    فكان هذا هو المسمار الذي دقه الغرب لتفتيت وتمزيق هذه الأمة، وهذا مخالفة صريحة وواضحة لما ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الشريفة التي ذكرها الشارح (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، ولما قاله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى )، وأمثاله كثير، والغرض هو تفتيت وتحطيم وتدمير هذه الأمة، فكل حزب بما لديهم فرحون، فتجد أن العراقي -وإن كان يدعي القومية العربية- يفتخر بالآشورية والبابلية والكلدانية.. إلى آخره، وأهل بلاد الشام -وإن كانوا يدعون أيضاً القومية العربية والبعثية- يفتخرون بآثار من كان في بلادهم أيضاً من تلك الأمم المتقدمة والسابقة: من السومريين، والفينيقيين وغيرها، وفي مصر يفتخرون بالآثار الفرعونية، وعندنا نحن هنا؛ مع أن عندنا -والحمد لله- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والعقيدة السلفية التي لا تفرق بين عربي وعجمي، وهذه الدعوة -والحمد لله- قد دخلت إلى بلاد الهند ، ووصلت إلى نيجيريا ، فهي دعوة سلفية تجمع كل من يؤمن بها، ومع ذلك أيضاً أصبحت عندنا دعوات باسم الآثار وغيرها، وإحياء فكرة أن عندنا آثاراً قديمة، كآثار الأخدود، وآثار عاد، وآثار ثمود، ومدينة الفاو.. وغير ذلك، وإذا حفروا في مكان ما حفرة وفيها بيوت قديمة قد طمرها الطين؛ اعتبروا هذا اكتشافاً حضارياً، ومنقبة عظيمة، وأننا لنا ماضٍ ولنا آثار، وهكذا في كل مكان، فدخلنا فيما دخل فيه غيرنا، وهذه الأفكار قد رفضتها ولفضتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وانتهت منها.
  17. محاربة الإسلام للعنصرية المقيتة

    فهذه العنصرية المقيتة البغيضة هي التي يحاربها الإسلام أشد الحرب، وقد كان أول من رفع راية الحرب عليها هو: محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك عندما أنزل الله تعالى عليه هذا الدين العظيم، وأصبح الناس سواسية، (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13].
    فهذا بلال الحبشي، وهذا أبو سفيان ، وهو في ذؤابة قريش، وهذا سلمان الفارسي يصبح كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا آل البيت )، فالكل لا فرق بينهم، وكذلك من أسلم من اليهود ، أو كان أنصارياً أو مهاجرياً، فالكل: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13].
  18. ظهور المفاخرة والعنصرية في القرن الثاني الهجري وأثرها على المسلمين

    وهنا نشير إلى قضية تجدونها في التاريخ الإسلامي -مع الأسف- وهي: أن المفاخرة قد ظهرت مرة أخرى قبل نهاية القرن الأول الهجري، والشيخ هنا لم يتعرض إلا لمسألة: الفقير الصابر، والغني الشاكر، وهناك عدة أنواع من المفاخرات سنتعرض لها إن شاء الله بالتفصيل، لكن الأمر الخطير الذي ظهر هو: فكرة العنصرية والجاهلية التي نشأت بين العرب اليمنية، والعرب المضرية، وهذه نشأت في أيام الدولة الأموية، ولو قرأتم كتاب فتح الأندلس أو فتح بلاد ما وراء النهر ، وتاريخ الطبري فستجدون أن اشتداد هذه العنصرية والعصبية بينهما أدت -أكثر من مرة- إلى هزيمة المسلمين، وإلى أن يغلبهم أعداؤهم، فكانوا في أثناء الحرب تشتعل بينهم المفاخرة، وينسون العدو المشترك، فيأتي العدو -سواءٌ كان من الترك في بلاد الشرق، أو من الغربيين الأوروبيين في الأندلس -؛ فيغلبون هؤلاء المسلمين.
    وقد عانى قتيبة بن مسلم الباهلي -القائد المشهور المعروف- أشد المعاناة من أن جيشه ينقسم إلى قسمين: العرب اليمنية، والعرب المضرية أو (قيس)، وقيلت أشعار الهجاء الطويلة الشديدة كما في دواوين الشعر، ونجد في كتب الأدب وكتب التاريخ: أنهم كانوا في مجالس الخلفاء يفخارون بين العرب المضرية، والعرب اليمنية، وكل منهما يفتخر على الآخر، فكانت هذه بداية مؤلمة جداً، وفي عصر يعتبر مبكراً لنشوء الفكرة الجاهلية العنصرية العصبية.
    وقد دفع المسلمون ثمن ذلك، ومن ذلك ما جرى في معركة: بلاط الشهداء، فقد عانى عبد الرحمن الغافقي رحمه الله من انقسام الجيش إلى عرب مضرية، وعرب يمنية، وما حدث بينهما من فرقة وخصومة، فبدأ ذلك في القرن الأول.
  19. ظهور الشعوبية

    ثم نشأت أنواع أخرى من العصبيات، فظهرت الشعوبية، وقد جاء بها الفرس، والفكرة الشعوبية هي ازدراء بالعرب مطلقاً، وتفضل عليهم العجم، وكثير من الشعراء -وإن كانوا شعراء باللغة العربية، واستعربت ألسنتهم- كانوا دعاة للشعوبية، أي: لتفضيل العنصر الفارسي أو غيره من الشعوب على العنصر العربي، وكثر ذلك جداً حتى قيل: إن الجاحظ كان يميل إلى الشعوبية؛ لأن الجاحظ ذكر في كتاب الحيوان وغيره عادات العرب واستطرد في ذكر كيف كان العرب يأكلون الميتة، ويأكلون الحيوانات القذرة ويفعلون ويفعلون .. واستطال في الأعراب يذمهم، ويقدح ويطعن فيهم.
    وقد كان معتزلياً، ويعد نفسه من أهل التوحيد والعدل كما بينا في الكلام عن المعتزلة ، فالنفوس -والعياذ بالله- إذا مرضت فإنها تأتي بكل بلاء، ومن أخبث أنواع الأمراض التي تصاب بها القلوب، وتصاب بها الأمم: مرض القومية، وتفريق الناس، وتحبيب الناس على غير التقوى، وجعل المعيار غير التقوى.
  20. ظهور التحزب القبلي

    ثم ظهرت أفكار أخرى كالتحزب القبلي، كما كان بين هلال وعبس، ونشأت حركة بني هلال، وقد كانت الخلافات على أشدها، وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع، ولعلنا نأتي إليه إن شاء الله، وكذلك ظهرت النزعة القبلية الأضيق من ذلك، حتى أصبحت القبيلة ضد القبيلة.
  21. ظهور التعصب المذهبي

    وظهرت النزعة الحزبية المذهبية، فأصبحت الرافضة عدواً لـأهل السنة .
    فمزقت الأمة بأنواع كثيرة من التمزقات، والعنصريات، والجاهليات؛ وكل ذلك حتى لا يكون ولاؤها لله، ولا تعمل بمقتضى قوله تعالى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، وأنه (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى).
  22. نشوء التعصبات الفقهية

    ونشأت التعصبات الفقهية أيضاً، وهي نوع من الجاهلية، فأصبح الحنفية والشافعية يتقاتلون قتالاً شديداً في بلاد ما وراء النهر ، وشرق العالم الإسلامي.
  23. نشوء التعصبات العقدية

    وكذلك شهدت بغداد وغيرها من مدن العراق معارك شديدة بين الحنابلة والأشاعرة والأصل أن الحنبلي يمثل السنة، لكن بعضهم خالف منهج أهل السنة في كثير من الأمور، وأصبحت المسألة فيها شيء من العنصرية.
    ونشأت الطرق الصوفية أيضاً، فزادت الأمة انقساماً، وأصبح الناس يعادون ويوالون كل في شيخه، وفي طريقته، فانتشر التمزق أكثر فأكثر، فهذه كلها من مظاهر الفرقة الشديدة وليست المسألة فقط مجرد مسألة: الفقير الصابر أو الغني الشاكر، وترجيح أحدهما على الآخر.
  24. التفضيل بين العرب المضرية، والعرب اليمنية

    ونجد أن العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقبله ابن حزم اضطروا إلى أن يتكلموا في مسألة: العرب اليمنية والعرب المضرية، أو: القحطانية والعدنانية، فقد صارت مسألة مشكلة عند المؤرخين والعلماء، ويسأل الفقهاء والمتكلمون في الأنساب: أيهما أفضل؟
    وللفائدة: لولا العصبية، ولولا النعرات الجاهلية فلا شك أن الفرد في ذاته يفضل ويكرم بالتقوى؛ فكون هذا الفرد ينتمي إلى الفاضل أو المفضول لا إشكال في ذلك، لكن هم أرادوا ترسيخ هذه الفرقة، ومن حيث المجموع لو أردنا أن نعرف حكم الشرع أيهما أفضل؟ فقد ذكر الإمام ابن حزم قاعدة جيدة في هذا، وذلك من إنصافه رحمه الله، وجاء بذلك في الأندلس وهذه العصبية على أشدها هناك.
    فقال -ومع أنه هو من العرب اليمنية-: إلا أن العرب العدنانية أفضل في الجاهلية، وأفضل في الإسلام، فأما في الإسلام: فالعرب العدنانية منهم المهاجرون، والعرب اليمنية منهم الأنصار، والمهاجرون أفضل، فـأبو بكر و عمر و عثمان و علي كلهم من المهاجرين، ومن العرب المضرية، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهو أفضل الخلق كلهم- هو من مضر.
    وأما في الجاهلية.. فأخذ يعدد الشعراء، والأدباء، والملوك مما يدل على أن عرب الشمال أفضل.
    وقد تكلم العلماء في هذه المسألة حتى يحلوا هذه المشكلة، وصارت قضية؛ مع أنها ليس لها كبير أهمية إلا من باب معرفة الفضائل أو المناقب، لكن إذا أدى ذلك إلى التعصب الجاهلي فإنه لا يزول بأي حال من الأحوال، بل هو من أمور الجاهلية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
  25. تفضيل بعض شعب الطاعات على بعض

    وهذه المسألة سابقة على اختلاف العلماء حول الغني والفقير، واختلافهم في أمور كثيرة -لعلنا إن شاء الله نأتي عليها- في قضايا العبادات، فالتفضيل إذا تعلق بالعبادة فالأمر ليس فيه إشكال إن شاء الله، وهو من باب تفضيل شعبة من شعب الإيمان على شعبة أخرى، أو تفضيل العاملين بشعبة على شعبة، مثل: أيهما أفضل: أهل الذكر أو أهل الجهاد؟ وأيهما أفضل: أهل التفسير أم أهل الحديث مثلاً؟ .. وهكذا. وهذه المسائل أيضاً قد نشأت لكنها أخف؛ لأنها كلها خير، وكلها علم، وكلها من الدين والحمد لله، فأيما كان الإنسان فهو آخذ بشعبة من الخير، لكن لا يجوز له أن يفتخر بحيث يغمط الآخرين أي فضل؛ لانتمائه إلى أهل القراءة، أو انتمائة إلى أهل الحديث، فيحتقر أهل التفسير، أو الانتماء إلى اللغة العربية فيحتقر الفقهاء والمفسرين؛ لأن اللغة العربية هي الأم في نظره، أو يأتي الآخر ويقول: نحن من أهل الأصول -أصول الفقه-، فيحتقر اللغويين، ويقول: لا قيمة لهم.. فكل هذه لها طرف أحياناً قد يتصل بالجاهلية والعنصرية، لكن شكلها البارز الواضح هو ما عرفه التاريخ من الشعوبية، وهي: تعظيم الفرس على العرب كأمة، وهذه المشكلة لم تظهر ولم تعرف عند العرب -من فضل الله تبارك وتعالى كقومية- إلا في هذا العصر الذي بلغ الانحطاط فيه ذروته.
  26. خبث مذهب الشعوبية وسعيهم في هدم الإسلام

    فظهرت فكرة الشعوبية ولم يظهر لها في المقابل تعصب من العرب، وهذا شيء يبشر بالخير، ويدل على أن الأمة كان فيها خير والحمد لله، فكان هؤلاء الشعوبيون حاقدين؛ لأن الإسلام سل عروشهم، وهدم ملكهم وأمجادهم وحضارتهم، ودمر ما كانوا يفخرون به، وما أثروه عن أجدادهم وآبائهم، فلم يكن بإمكانهم أن يطعنوا في الإسلام، ولو طعنوا في الإسلام هكذا بوضوح لقتلهم الناس، ورفضوهم؛ وحتى من أسلم من أبناء دينهم وجنسهم، وهم كثير والحمد لله، فهذه القلة القليلة الحاقدة اضطرت إلى أن تعمل تحت مبادئ متفترة، ومنها: الدخول في المذاهب الهدامة مثل: الرافضة ، فهذا مذهب هدام يدخلون فيه، وعن طريقه يمكن أن يهدم القرآن، وتهدم السنة، ويهدم الإسلام.
    والحمد لله أن من الشيعة المعاصرين من اعترف بهذه الحقيقة، كما رأينا في الكتاب الذي سئلنا عنه وهو كتاب: الشيعة والتصحيح ، فهو يعترف بصراحة أن كثيراً من مؤلفي الشيعة إنما كان همهم الأكبر هو هدم الإسلام فقط، وليس فقط الطعن في مذهب أهل السنة ، فهم إذا طعنوا في القرآن، وطعنوا في الصحابة، وألغوا صلاة الجمعة والجماعة، وألغوا الجهاد إلا مع الإمام إذا خرج، وأحلوا المتعة -وهي الزنا-.. إلى آخره فلم يبق من الدين لا أخلاق، ولا عقائد، ولا أحكام، ولا شيء، فقد كان همهم هدم الإسلام ولكن تحت ستار التشيع لآل البيت، وهذا قد تقدم الحديث فيه، وفيه ما يكفي.
  27. ميل زنادقة العرب إلى الفكر الشعوبي

    وفي الجانب الآخر وجدوا متنفساً لهم، وخاصة غير المتدينين منهم في الفكر الشعوبي، والمفاخرة الشعوبية، والعجب أن بقية المسلمين في المقابل لم يلتفتوا إلى هذا، ولم يفاخروا باسم العرب والعروبة، وإنما كان العربي منهم والعجمي يردون ويحاربون الشعوبيين ويعتقدون جميعاً أن الشعوبيين زنادقة؛ ولهذا فأكثر ما يسمون: الزنادقة، وقليل ما يسمون الشعوبية؛ وإنما يسمون: الزنادقة، وإلى الآن والقوميون العرب زنادقة؛ فلا يؤمنون بالإسلام، ولا يتدينون به، حتى ولو كان الواحد في ذاته يصلي، فبعض القوميين يصلي في ذاته، ويحب أن يصلي، لكن فكرته، وولاءه، وبراءته، وحياته، ومنهجه غير قائم على الدين.. فهؤلاء حوربوا من قبل المسلمين باسم الزنادقة، والذين قتلهم المهدي كانوا زنادقة، وقتلهم تحت شعار الزندقة.
  28. نكبة الرشيد بالبرامكة بسبب شعوبيتهم وغير ذلك

    وقد قضى الرشيد على البرامكة؛ لأنهم كانوا كذلك، وكانوا يجمعون بين الشعوبية وبين الباطنية الخفية جداً، وبعض الناس لم يذكر عنهم إلا شعوبيتهم، وأنهم أعادوها فارسية كسروية، فشعارات كسرى، وآثار كسرى، وقصور كسرى.. وكل مظاهر الحياة في أيام كسرى أعادها البرامكة، وقد كانوا وزراء الرشيد ، فلما رأى الأمر كذلك استأصل شأفتهم، وقبل ذلك كلمه علماء المسلمين فيهم، فقضى عليهم، فقتل من قتل، وسجن من سجن، وشتت الله شملهم، وفرق جمعهم ولله الحمد.
  29. انطماس الشعوبية في العصور المتأخرة وبقاء الخلافات الدينية

    ونجد في العصور التي تلت ذلك أن كل فكرة ما عدا الدين قد طمست واندثرت، وبقي الخلاف بين الشيعة والسنة، وبين الباطنية وغيرهم، وبين فئات مختلفة؛ لكنه على أساس من الدين، وإن كان فيه نوع من الجاهلية، فالطرف الآخر المخالف لـأهل السنة والجماعة نجد أن تعصبه جاهلي في كثير من الأوقات، لكن نجد في الأخير أن تلك الخلافات لم تكن ترجع إلى نعرة عنصرية، وإنما هي كما يسمى الآن: النعرة والفكرة الطائفية.
    وتمزقت الأمة إلى دويلات، فتجد أن حلب دولة ، و دمشق دولة ، و أنطاكية دولة ، و الموصل سلطنة، فهنا دولة، وهنا سلطنة، وكل دولة من هذه الدول -وإن كانت ليست مثل الدول الآن: لها وجود واضح ومتميز- كانت كلها عبارة عن ولايات صغيرة متباعدة متناحرة متعادية، حتى شاء الله عز وجل وجاء الصليبيون، فلقنوا الأمة درساً عظيماً، فانتبهت من غفلتها، وبدأت ترجع إلى وحدتها عندما ظهر نور الدين و صلاح الدين ، ثم جاء المماليك، وهؤلاء ليسوا عرباً، والسلاجقة ليسوا عرباً، والأصل في هؤلاء جميعاً والغالب عليهم هو العنصر التركي، والترك -كما هو معلوم- دخلوا في الإسلام ولم يكونوا من العرب، فظلوا يحملون راية الإسلام إلى أن ظهرت فيهم القومية الطورانية كما ذكرنا.
  30. سقوط فكر البعث العربي وتمزق لبنان

    فهذا إجمال وإيجاز سريع لنشأة هذه النعرات الجاهلية في العالم؛ سواء كانت في العالم الإسلامي، أو في العالم الأوروبي الذي منه أخذنا القومية العربية الحديثة، وقد تفتتت القومية العربية بحربين: الحرب الأولى: هي حرب لبنان ، وتمزقت لبنان ، فكانت هذه نعمة، ولو تأمل متأمل في التاريخ فإنه سيجد أن لبنان كانت منطلقاً لتمزيق الأمة الإسلامية، والدولة العثمانية، والرابطة التي جمعتهم هي: رابطة القومية في نظرهم، فأراد الله عز وجل أن تتمزق لبنان نفسها، وتصبح فئات متناحرة، فالموارنة طائفة، مثلاً والأرمن طائفة، بل إن الموارنة أنفسهم ينقسمون إلى أحزاب، فهناك حزب شمعون ، وحزب مع فرنجية .. وهكذا، فحتى الفئة الواحدة تجدها متمزقة، والدروز لهم حزب، ولهم إذاعة، ولهم جنس.
    والرافضة حزبان: حزب الشيطان، وهو الذي يسمونه الآن: حزب الله، وأمل أتباع نبيه بري ، وكل حزب منهما له جيش، وله مليشيات، وله إذاعة، وله دولة، وله كلام، فتمزقت البقعة الصغيرة هذه التي من أجلها مزقنا الأمة الإسلامية وجعلناها أمتين: أمة عربية، وأمة إسلامية، حتى كان إذا عقد مؤتمر القمة العربي فإنه يحضر رئيس لبنان ، إذا عقد مؤتمر قمة إسلامية حضره أيضاً رئيس لبنان ، وهو نصراني، لكن قالوا: لازم يحضر والعياذ بالله، فمن أجلهم ضيعنا ولاءنا، وعقيدتنا، وانتماءنا، فمزقهم الله، فبدأت القومية العربية في الانتكاس بهذا الحال.
  31. تمزق البعثيين ونشوء العداوة بينهم

    ومزق الله حزب البعث، وأشد عداوة في الدنيا في جميع القوميات -خاصة في العرب- هي ما بين حزب البعث في سوريا ، وحزب البعث في العراق ، فهي عداوة مستحكمة؛ بحيث إنك تتعجب من ذلك، وكل واحد منهم لو مكن لكان أول ما يبدأ به هو أن يفترس ويبطش بأخيه البعثي الآخر، وتجد سجون العراق مليئة بالبعثيين السوريين، وبالاتجاه البعثي الموالي لـصلاح جديد ، و خالد بكداش ، وسجون سوريا ممتلئة بالبعثية المنتميين إلى ميشيل عفلق ، و حسن البكر وأمثالهما، وهذا شيء عجيب جداً، فمزقهم الله، وأذاق بعضهم بأس بعض.
    وأما مصر فعندما جاء أنور السادات تخلى تماماً عن حكاية القومية العربية، ورجعت مصر وسمت نفسها: جمهورية مصر العربية ، وألغوا: الجمهورية العربية المتحدة ، وصار كلامهم كله حول مصر ، وهذا أيضاً فيه تفتيت لفكرة القومية العربية.
    وكان القذافي -وهو من تلاميذ جمال عبد الناصر هو و النميري - يريد أن يعمل دولة موحدة من هذه الدول الثلاث ومعها سوريا ، فتكون أربع دول موحدة، وكلها لا يوفقها الله؛ لأنها لا تقوم على أساس الإسلام، ولا تتفق معه أبداً، وقد جاء بمبدأ الاشتراكي، والكتاب الأخضر ، والنظرية الثالثة لجميع شعوب العالم، وأيضاً هو نفْي للقومية العربية وتحول إلى نظرية عالمية بزعمهم، فتمزقت أيضاً القومية العربية التي كانت تربط ما بين مصر و ليبيا .
    والحرب الثانية هي: حرب الخليج الأخيرة، وكان ذلك من فضل الله تعالى، وفي كل فتنة أو شر أو مصيبة تجد فيه جانباً من الخير وإن كان خفياً، فتمزقت القومية العربية، واختلف العرب في داخل البيت الواحد، وداخل الحزب الواحد، وداخل الدولة الواحدة، فبعضهم وقف مع العراق ، وبعضهم وقف ضد العراق ، وتشاحن الطرفان ودخل البعثيون السوريون الذين تربطهم بـالعراق رابطة القومية والبعثية؛ دخلوا العراق من ضمن الجيوش التي دخلت إليه، وقتلت من العراقيين من قتلت.
    فبعدما كانوا يتقاتلون وفي لبنان ، فهذا يؤيد عون ، وهذا يؤيد شمعون ؛ أصبحوا يتقاتلون بأنفسهم وجهاً لوجه.
  32. بطلان وخذلان أي رابطة غير رابطة الإسلام

    والآن -والحمد لله- صارت القومية العربية في حالة احتضار، ولا نأسف عليها، ونتعجب عندما نجد من يكتب ويتأسف عليها، وبعضهم يكتب ويتأسف على الجامعة العربية؛ لأنها لم تقم بأي دور، ونقول: فلتمت الجامعة العربية، ولتذهب إلى غير رجعة، فلا نريدها، وليمت كل اسم غير الإسلام، فعلينا أن نكون أمة مسلمة فقط، فمن أين أخذنا هذه المصطلحات، وهذه القوميات، وهذه العنصريات، وهذه الجاهليات، وهذه الولاءات؟ إنها من غير الإسلام، فكلها يجب أن تموت، وكلها يجب أن تلغى.
    وقد أفاق المسلمون -والحمد لله- إلى حد كبير، فما حدث في أفغانستان ، أو في الفلبين ، أو في البوسنة و الهرسك أو غيرها؛ المسلمين يشعرون بضرورة الولاء الإسلامي، وأن تكون العقيدة هي الرابطة، فالكل اشتركوا وجاهدوا، ودعموا إخوانهم بالمال، والدعاء، وكلهم مع إخوانهم المسلمين في كشمير ، وفي أفغانستان ، وفي البوسنة ، وفي أي مكان، فهذه المصائب وهذه المحن جعلت المسلمين يشعرون بأنهم أمة واحدة: واحدة في آمالها، وواحدة في آلامها؛ لأنها واحدة في عقيدتها، وفي قبلتها، وفي كتابها، وفي سنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وفي كل الأواصر، والروابط، والتاريخ المشترك كما يسمونه.
    بل في الحقيقة ليس هناك تاريخ أعظم من تاريخ المسلمين؛ لأن التاريخ الإسلامي يبدأ بآدم ويمر بنوح وإبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى وداود، ولوط وشعيب و صالح و هود عليهم السلام، فكل هذا من التاريخ الإسلامي، لا توجد أمة هي أوغل أو أعمق في التاريخ من هذه الأمة والحمد لله؛ لأنها فوق كل القوميات، والعنصريات، والعصبيات، وفوق الفخر بالحجارة والطين، كما بعضهم بالأهرامات، وبعضهم بحدائق بابل، وبعضهم بمدائن صالح.
    وأما نحن فنفخر، ونعتز بالانتماء إلى ركب الإيمان، وإلى ركب الأنبياء، وإلى الذي بنى هذا البيت: (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ))[آل عمران:96-97]، فهذا هو البناء الذي يجمعنا، والذي نفتخر به، فنعتز -والحمد لله- ونفتخر بالعبودية لله باستقبالنا لهذا البيت الذي بناه أنبياء الله، وحجه أنبياء الله، فهذه هي حضارتنا وآثارنا التي نفتخر بها، وهذا هو انتماؤنا الذي نفتخر به، وما عدا ذلك فكلها جاهليات، وعصبيات ممقوتة مذمومة، وقد جاء الإسلام لحربها، وللقضاء عليها، ويكفيها أنها عادات جاهلية، كما سماها الله تعالى، وسماها رسوله صلى الله عليه وسلم.
    فهناك أنواع المفاضلات قد ظهرت، وبعض هذه المفاضلات إما أن يكون جاهلياً أو فيه شعبة من الجاهلية.
    وأما المسألة التي ذكرها الشيخ هنا فهي مسألة علمية ذكرها المتأخرون، وسنأتي -إن شاء الله- على تفصيل الكلام فيها وهي: التفضيل بين الفقير الصابر والغني الشاكر.
    هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  33. ظهور النازية والفاشية في أوروبا والعنصرية في أمريكا

    فالنازية والفاشية -كما ذكرنا في أول الحديث- ظهرت نتيجة التأثر بالفكر التلمودي اليهودي، وكل ما فعله هتلر أنه قرأ ما في التلمود، فوجد الفكر اليهودي يجعل اليهود فوق الجميع، فأراد هتلر مضادة اليهود فقال: الألمان فوق الجميع، وأخذ كل الخصائص التي يدعيها اليهود وجعلها في الألمان، فربى القومية الألمانية على هذا الشيء، وتعاون معه وأفاد منه في نفس الوقت: موسوليني في إيطاليا ، وهو من الفاشية، وفي الطرف البعيد قامت اليابان على هذا المبدأ؛ ولذلك لما قامت الحرب العالمية كانت هذه الدول الثلاث تحارب بريطانيا و فرنسا ، ثم بعد ذلك دخلت أمريكا مع الطرف الأخير، وكانت النهاية التي تعلمون.
    فالفكر النازي هو بمعنى الفكر القومي، والفكر القومي الذي وجد في ألمانيا وما زال له جذور وبقايا إلى الآن، وكذلك في إيطاليا ، وحتى في فرنسا ، وفي هولندا ، وأتباعه هم أصحاب الرءوس الملساء أو الرءوس الحليقة، الذين يحلقون رءوسهم، ويغتالون ويقتلون كل ملون، وكل من ليس من أصل عرقهم، أو قوميتهم، أو لا يتدين بدينهم، أو لونه غير لونهم، فكونوا جمعيات وعصابات وجدت حتى في أمريكا هذه الأيام، وهذا خطر ما كانوا يتوقعونه؛ لأن أمريكا هي البلد الغربي الوحيد الذي لم يقم في أي مرحلة من تاريخه على فكرة القومية، وإنما كانت الفكرة العنصرية والجاهلية عند الأمريكان هي: فكرة اللون فقط، وأما القومية فلم توجد عندهم، فأي إنسان من أي بلد يأتي ويأخذ الجنسية، ويعيش كما يعيش غيره، بشرط أن يكون أبيض اللون.
    وتحاول القوانين في أمريكا أن تضيق الفجوة، وتحارب العنصرية الموجودة وراثة عند الأمريكان، فتحاربها، وتوجد المساواة بين الشعب على أساس أنهم دولة تقوم على مبدأ، وعلى فلسفة وليس على عنصر، فيوجد في الأمريكان الأصول اليونانية، والهندية، والفرنسية، والألمانية، والأيرلندية، والإيطالية، والعربية، والأفريقية.. وكل شعوب العالم تجد أن لها وجوداً في أمريكا ، ففوجئ الأمريكان هذه الأيام، ونشرت ذلك مجلاتهم: أنه يوجد عندهم أيضاً بعض النازيين المتشبعين بالفكر القومي، والذي يمثله أصحاب الرءوس الحليقة الملساء.