المادة    
وشيخ الإسلام رحمه الله ينبه إلى قضية مهمة جداً، وذلك بقوله: (وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور) فالقضية ليست مشياً على الماء، أو طيراناً في الهواء، أو إخباراً بشيء ضاع ومعرفة شيء مفقود، إذ الأولياء الحقيقيون كراماتهم أعظم من هذا بكثير، وهذه أمور ممكن أن تقع لأي أحد ولا تعد ولاية.
  1. التوفيق للعلم والحق كرامة

    إن الإمام البخاري مثلاً رحمه الله ما طار في الهواء، ولا مشى على الماء، فهل يعني ذلك أنه ليس لديه كرامة؟ الجواب: لا، فهو له أعظم من هذه الكرامات، منها كونه أُعطي هذا الحفظ، ووفقه الله لكتابة الصحيح الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله، تقرؤه الأمة وتهتدي به الأئمة إلى قيام الساعة، وهذه كرامة عظيمة جداً.
    وكذلك الإمام أحمد أُعطي كرامات عظيمة جداً، وليس منها أنه طار في الهواء مثلاً، بل لأنه صبر في الفتنة، وسجن، وأوذي، وضرب في الله عز وجل حتى خرجت أمعاؤه وهو صابر على الحق، ووقف في وجه الظلم والضلال والبدعة بعد أن استسلم أكثر الناس أو جاملوا أو وروا وعرضوا حتى لا يفتنوا، فكون الله تعالى يختص عدداً من الأئمة وحملة الحق أن يصمدوا وحدهم في الميدان مع انحراف أكثر الخلق، فهذه كرامة عظيمة أعظم من أنه طار في الهواء أو مشى على الماء، ثم إنه ألف المسند ، هذا الكتاب العظيم الذي يعد ديوان الإسلام وديوان السنة، فقل حديث في الصحيحين إلا وهو في المسند ، وكذلك الكتب الستة هي في المسند إلا ما ندر، وفيه زيادات أخرى عظيمة، فتأليف المسند كرامة عظيمة جداً، وليس كأي كتاب، ومن كراماته أيضاً ما أعطاه الله من القبول بين الناس، وما أعطاه الله عز وجل من هذه الإمامة في الدين، فإذا اختار الله عبداً واصطفاه جعله إماماً في الدين، وإماماً للمتقين كما قال تعالى عن عباد الرحمن: (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74] فهؤلاء هم الأئمة إلى قيام الساعة، وهذه هي الولاية والكرامة الحقيقية.
  2. نشر السنة ومحاربة البدعة كرامة

    ولو أردنا أن نأخذ جانباً آخر من العباد بدون فقه، وهو الشيخ أبو عمر الزاهد، الذي كان من كبار الزهاد والعباد، جاء إليه أهل العراق ، من الموصل وما حولها فطلبوا منه أن يكتب إلى نور الدين محمود رحمه الله، الذي قال فيه ابن الأثير وغيره: ما رأيت بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز مثل نور الدين محمود في سيرته وجهاده وعدله، ولكن أهل العراق لما جاءوا للشيخ أبي عمر الزاهد وقالوا له: اكتب إلى نور الدين، لأن نور الدين كان قد ألغى جميع الأحكام إلا حكم الشرع، فاكتب أنا: كنا نأخذ الاعترافات ونفيض على المتهمين بأوضاع وأحكام وضعها الشُرط، فاكتب إليه أن هذا الأمر لا يصلح، لأن الدعارة ستنتشر ويكثر الإجرام إذا احتكمنا إلى الشرع، فكتب الشيخ أبو عمر إلى نور الدين يشفع في هذا، وهو زاهد عابد مشهور، ولكن العبادة من غير فقه لا تنفع، فكتب إليه نور الدين رداً على خطابه فقال: إن الله تبارك وتعالى قد شرع لنا الحق، وما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا ونهانا عنه، وفي اتباع الشرع غنية وكفاية، وذكر قوله تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ))[النساء:65] فكانت رسالة عظيمة مبينة أن الشرع فيه الكفاية عن كل زيادة من البشر، فلما وصل الكتاب إلى الشيخ الزاهد، أخذ الكتاب وقرأه على الناس وهو يقول: انظروا كتاب الزاهد إلى السلطان، وكتاب السلطان إلى الزاهد، يعني: السلطان أصبح هو الذي يأمر بالكتاب ويأمر بالسنة ويأمر بالحق، والشيخ يريد غير ذلك، وهذه كرامة عظيمة لـنور الدين رحمه الله، نالها بكرامة الجهاد، وكان يحكم مجموعة قرى صغيرة، ويجاهد الصليبيين ويجاهد الروافض ؛ لأن صلاح الدين كان قائده الذي فتح مصر وقضى على دولة العبيديين، ولم يمت نور الدين رحمه الله حتى حكم بلاداً تمتد من تركيا إلى اليمن ، هذا من الشمال إلى الجنوب، ومن العراق شرقاً إلى بلاد المغرب غرباً، فكانت كلها تحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطمست كل معالم الرافضة وكل بدعهم وضلالاتهم التي ظلت أربعة قرون وهم ينادون فيها: حي على خير العمل، وأشهد أن علياً ولي الله، فقضى عليها، وكذلك لم يبق للصليبيين إلا القدس التي كان يريد أن يفتحها، ثم فتحها الله على يد قائده صلاح الدين الذي تولى الملك من بعده، فكانت كرامة صلاح الدين هنا أنه فتح القدس ، فليست الكرامات أنه طار في الهواء أو مشى على الماء، بل قد تكون الكرامات أن يكون من المجاهدين، ومن العباد الحقيقيين الذاكرين، وممن يقفون عند حدود الله، فهذه كرامة عظيمة، ومن الكرامة أن يهدي الله تعالى على يدك رجلاً كان من أبعد الناس عن الله، وكثير من الناس لا يتفطن لهذا، ولكنه إذا وجد شخصاً مجنوناً وذهب به إلى شيخ وقرأ عليه وشفي تحدث الناس بهذا الحديث على مر الأيام والليالي، وقالوا: ما شاء الله! كان مجنوناً لا يفيق فلما قرأ عليه الشيخ تعافى وشافاه الله وأصبح صحيحاً، ولكن لو رأى الناس رجلاً كان شارباً للخمر فاسقاً فاجراً لا يرعوي عن الكبيرة، فوعظه إنسان ونصحه وكرر عليه حتى هداه الله واستقام لم يلتفتوا إليه، فأيهما أعجب؟ لا شك أن هذا الأخير أعجب وأشد كرامة، والكرامة له أعظم؛ لأنه هدى الله تعالى به هذا الذي كان لا يصدر عنه إلا الشر والإجرام؛ فأصبح من أولياء الله المتقين العابدين لا يأخذ مالاً حراماً ولو قل، وقد كان يسطو على أي مال ويأخذه كله، ويهتك أي عرض ولا يبالي، فهدايته بسبب بعض الدعاة كرامة لهؤلاء الدعاة، لكن مشكلة الناس الإيمان بالماديات، والشيطان يزيد في إضلال الناس فيحصرون الكرامة في شيء معين لا دلالة فيه على الولاية، وهم يظنون أن تلك هي الخارقة العظيمة، ولكنهم لا يتأملون كيف اهتدى فلان بنصح هذا العالم الذي منحه الله هذه الكرامة، وهي أن يهدي الله على يده الجموع من الناس، ومن هنا فأعظم الناس كرامةً هم العلماء الربانيون الذين يضيء الله تبارك وتعالى بعلمهم وكلامهم للأمة كلها، وهي الكرامة الحقيقية؛ فلذلك إذا أراد الإنسان أن يبلغ أو يريد أن يكون من أولياء الله المتقين، وأن ينال درجة هؤلاء فعليه أن يسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم بتحمل العلم والتبليغ عن رب العالمين تبارك وتعالى، ونشر كلمة الحق، ولا يبالي بالخلق، فهذه من أعظم الكرامات التي يختص الله تعالى بها من يشاء؛ ولهذا تقدم في شرح حديث الولي عند الكلام عن تفسير آيات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] إلى أن قال: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] فهذا فضل من الله يختص الله تبارك وتعالى به أمثال هؤلاء الذين يقولون كلمة الحق، ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
    فصح قول الشيخ بأن كرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان صاحبها قد يكون ولياً لله، وهذا لا ينكر، وهناك أمثلة كثيرة مما خرق الله تبارك وتعالى من العادات لأوليائه الصالحين، ولكن في المقابل قد يكون من تحصل الخوارق عدواً لله، فهي تقع من هؤلاء وهؤلاء.
  3. حب سماع القرآن علامة على الولاية

    يقول الشيخ رحمه الله: (قال ابن مسعود رضي الله عنه: [لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن، فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله]) والمعنى: إذا أردت أن تسأل عن إيمانك في قلبك، فانظر منزلة القرآن من قلبك، فإيمانك بقدر منزلة كلام الله تعالى في قلبك، فمقدار هذا الحب هو مقدار إيمانك.
    فإذا كان هؤلاء يكرهونه والعياذ بالله،كما يذكر الغزالي من طوامه الكبرى أنه ذكر في الإحياء أن بعض العباد أو الصوفية يفضلون سماع الألحان على سماع القرآن من سبعة أوجه -والعياذ بالله- وذكر أن رجلاً منهم كان يقال له يوسف الزنديق ، فجاء رجل فقرأ عليه الآيات فلم يتأثر، فلما أخذ في الشعر بكى، فقال: يا بني! يقولون: يوسف زنديق ، ما هو إلا ما ترى، لماذا يقولون عني أني زنديق؟ لأني إذا سمعت القرآن لا أتأثر، فإذا جاءت الأشعار تأثرت وبكيت، فهذا زنديق لا شك فيه، وهو يرى أن هذه تهمة عظيمة، فغريب أن تشبع هذه القلوب وتلتذ وتأنس بمزمار الشيطان، وتنفر من كلام الرحمن، ثم تدعي أنها من أولياء الرحمن؟ سبحان الله! ولذلك فإن الذين يسمعون الغناء إن كانوا يسمعون الغناء كحال كثير ممن يسمع الأغاني في الإذاعة أو يشتريها فيهم فسق وشهوة، فهذا من الكبائر المحرمة -والعياذ بالله- وأما إن كانوا يسمعون ذلك تديناً، فهذه قد أصبحت بدعة وزندقة -نعوذ بالله- أشد ممن يستمع إليها شهوةً وطرباً.
    يقول الشيخ رحمه الله: (وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل]) يعني: إذا قرأت القرآن ووجدت أنك تعبت أو شبعت فالقلب فيه شيء، ولكن لو طهرت القلوب تماماً فإنها لا تستطيع أن تشبع من القرآن، ومن ذكر الله عموماً، والإنسان لا بد له من أمور أخرى يعملها في حياته، ولكن إذا كان يقرأ القرآن فيجب أن لا يشبع، نعم قد يضع القرآن؛ لأنه يريد أن يصلي، أو يجاهد، أو يقوم بحق من حقوق الله الأخرى، أو يقوم بحق للأهل، أو حق للعمل للدنيا لينفق على نفسه، لكن ليس معنى هذا أنه شبع من القرآن، بدليل أنه لو كفي هذه الأمور لما ترك القرآن وذكر الله عز وجل، أما إذا وجد الإنسان أنه عندما يقرأ يتعب أو يشبع فذلك فيه دلالة على أن القلب فيه شيء، وإلا فأين كمال طهارة القلب التي تجعله يشبع من كلام الله عز وجل؟
    (وقال ابن مسعود: [الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل]). يعني: إما أن يكون الإنسان يمارس ذكر الله فينبت الإيمان، وإما أن يكون في قلبه الغناء فينبت النفاق، وهذا أحد ما يقيس به الإنسان نفسه، فإذا كان يسمع القرآن ويلتذ بسماعه ويأنس به فليحمد الله على ذلك، وإن كان لا يطيق سماعه، فليعلم أن قلبه تسلطن عليه الشياطين، وأن الشيطان قابض على قلبه، فهو لا يطيق ذكر الله، ولا يتحمل أن يسمع شيئاً منه.