المادة    
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الإخوة الكرام! وفقني الله وإياكم لطاعته، وجعلنا من أوليائه الصالحين وعباده المقربين، ونفعنا بما نسمع وما نقول إنه سميع مجيب.
سنتحدث عن بيان حدود طاعة الولي، وهل يمكن أن يكون الولي ولياً وهو غير متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا فرع عن الكلام في عصمة الأولياء المتقدم.
ولعلكم تتذكرون الكلام عن هذا الموضوع من قبل، حيث نجد أن شيخ الإسلام رحمه الله ينتقل إلى موضوع الكرامات والخوارق أي: خوارق العادات التي تقع على أيدي بعض من يدعون أنهم أولياء، ويحتجون على أنهم أولياء بما يقع لهم من هذه الخوارق والكرامات.
وموضوع الكرامات هو من آخر موضوعات العقيدة، إذ الكرامات والإيمان بها مذكور في آخر العقيدة الطحاوية ، وهناك -إن شاء الله- نفصل الكلام عن الفرق بين الكرامة وبين المعجزة، وحقيقة الكرامة وأنواعها، والفرق بين الخارق الذي يجريه الله تعالى كرامة، وبين ما يحدثه على أيدي السحرة أو المشعوذين إلى غير ذلك من الأمور المهمة، فهذه إن شاء الله سنتكلم عنها هناك، ولكن هنا فقط تأتي إشارة مجملة لذلك؛ لأن هؤلاء الذين يدعون الولاية يحتجون على الولاية بهذه الخوارق، ولا سيما في زمان شيخ الإسلام رحمه الله والعصور الماضية، ولا يزال لهم بقية إلى اليوم في الواقع، أما كلامهم عنها في الكتب فهو موجود وكثير.
يقول الشيخ رحمه الله: (إن كثيراً من الناس يغلط فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله) أي: ما دام أنه ولي لله فيقبل الناس منه كل ما يقوله (ويسلم إليه كل ما يقوله وكل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة) وذلك ما قد يقع من بعضهم، فيوافق هذا الولي ويتبعه ويطيعه وإن خالف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  1. مشابهة من يقدم طاعة المشايخ على طاعة رسول الله لليهود والنصارى

    ثم يقول الشيخ رحمه الله: [ هؤلاء -أيضاً- مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[التوبة:31] وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم )].
    إذاً: هذه الآية بينت لنا حال أهل الكتاب، وإن كان الشيخ نص على النصارى فقط، لكن الآية يمكن أن يدخل فيها اليهود؛ ولذلك فسر العلماء الأحبار بأنهم العلماء، والرهبان بأنهم العباد، فإذاً: هؤلاء يشابهون اليهود الذين هم من أبعد الناس عن العبادة، وهم غلاظ الأكباد والقلوب، عتاة الرقاب، لا يخضعون لله عز وجل ولا يتقربون إليه والعياذ بالله، وقلوبهم من أقسى القلوب؛ لأنها غلف وكالحجارة أو أشد قسوة كما ذكر الله تعالى عنهم؛ ولذلك مسخوا قردة وخنازير.
    فـاليهود يطيعون الأحبار؛ ولذلك نجد الآية: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ ))[التوبة:31] فـاليهود يطيعون الأحبار الذين هم علماء الضلال نعوذ بالله ولا يعملون بعلمهم، وينطبق عليهم المثل الذي ضربه الله تبارك وتعالى في حقهم: (( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ))[الجمعة:5] فهم يطلعون على الكتاب ويعرفون أحكامه وحلاله وحرامه، ولكنهم يشرعون من عند أنفسهم، ولا يلتزمون بأحكامه، ولا يتقيدون بحلاله وحرامه، فأحلوا للناس ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، كما تقدم في آيات المائدة من بيان أنهم غيروا حكم الله تعالى الذي هو الرجم بالجلد والتحميم، هذا هو حال الأحبار من اليهود.
    وأما الرهبان فهم عباد النصارى ، وإلى الآن لا زال هذا هو حال النصارى ، فهم لا يعظمون العالم لعلمه فقط كحال اليهود ! بل قد يكون أكثر علماء النصارى متبوعيهم وأئمتهم ليسوا بعلماء، فلم يعظموهم لأنهم علماء، لكن عظموهم لأنهم عباد، فإذا انقطع الإنسان في فلاة أو في كهف أو في مكان، وأكثر التبتل والذكر والتعبد عظموه وقدروه وأجلوه واحترموه وإن كان ليس لديه من العلم أي شيء، وأكثر النصارى إلى اليوم في الدنيا لا يفقه من النصرانية شيئاً، كل ما في ذلك أن لديهم تعلقاً عاطفياً بالمسيح، وأن المسيح قتل من أجل خلاصنا، ونحن نحبه، ويبكي ويتأثر ويتألم، ويحاول أن ينقطع عن الشهوات، ويقول: إن المسيح لم يتزوج فلا يتزوج النساء، والمسيح حذر من الدنيا فلا أقرب الدنيا.
    فـاليهود غلب عليهم جانب العلم بلا عمل، ولذلك فهم المغضوب عليهم، والنصارى غلب عليهم جانب الزهد والعبادة والرهبانية التي ابتدعوها من غير علم فكانوا ضالين.
    إذاً: عندما يأتي في هذه الأمة من يقول: إن فلاناً ولي، وهذا الولي يؤخذ كلامه ويطاع أمره وإن كان ذلك في تحريم حلال أو تحليل حرام، فإنه أيضاً مشابه لأهل الكتاب في هذا، وهذا ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لتتبعن أو لتركبن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) وفي الرواية الأخرى: ( حذو القذة بالقذة ) يعني: لا تتركون شيئاً من مداخلهم، أو مخارجهم، أو عاداتهم، أو تقاليدهم، أو ضلالاتهم إلا ويكون لكم فيها نصيب، إلا من رحمه الله وجعله من الطائفة المنصورة التي جعلها الله تبارك وتعالى قائمة بأمر الله، لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.
    يقول المؤلف رحمه الله: (ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول) أي: حرموا الوصول إلى الله بتضييعهم لأصول الدين فـالصوفية يكثرون الكلام عن الوصول؛ ولهذا يسمون المبتدئ مريداً، والذي لا يزال في أثناء الطريق يسمونه سالكاً، والذي انتهى به الأمر يسمونه واصلاً، فقيل فيهم: إنهم حرموا الوصول ولم يصلوا -وإن زعموا ذلك- بتضييع الأصول؛ لأنهم أخذوا مثلاً: جانب الأذكار، الانقطاع عن الشهوات وجوانب أخرى معينة وتركوا الأصول، وذلك مثل تركهم أصل المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تركوا الاعتقاد الصحيح الذي هو الأصل، وأخذوا ببعض الأمور التي ظنوا أنها هي الدين، بل حتى هذه ابتدعوا فيها، فبدل الذكر أخذوا السماع والرقص على صوت الطبل والعياذ بالله، فحتى الذكر لم يعد هو الذكر المشروع، مع أن الذكر لو كان على غير اتباع لما قبل، فكيف إذا لم يكن أيضاً ذكراً مشروعاً وإنما هو ذكر بدعي.
  2. انسداد كل الطرق إلى الله إلا طريق الرسول صلى الله عليه وسلم

    يقول الشيخ رحمه الله: (فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم -وتفصيلاً لما قبله قال- فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم، ملوكهم وسوقتهم) فلا يصح إيمان أحد إلا بهذا، فالقول بأن العباد لا يدخلون تحت الاتباع وأن لهم أن يعبدوا الله كما شاءوا كفر وضلال مبين.
    والقول أيضاً أن الملوك لهم أن يحكموا بما شاءوا ولا يتقيدوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم -كما يقول النصارى : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله- كفر وضلال، فلا طريق إلى الخير والنجاح والسعادة والفلاح إلا من طريق اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فرض على جميع الخلق أياً كانوا، وأياً كانت درجتهم أو مرتبتهم.
    يقول المؤلف رحمه الله: (وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً).
    فقول الشيخ: (باطناً وظاهراً) فيه رد على الصوفية الذين يقولون: إن اتباع الشريعة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون في الشريعة، أما الحقيقة فتؤخذ من الأولياء، فجعلوا الدين حقيقة وشريعة، وجعلوه ظاهراً وباطناً، فالعمل الظاهر يقولون: نأخذه من الفقهاء؛ لأنهم في العلم الظاهر يأتونك بالآيات وبالأحاديث لتعمل بها، أما العلم الباطن فيؤخذ من الأولياء وهم لا يحدثونك بالآيات والأحاديث، وإنما يقولون: حدثني قلبي عن ربي، وهذه هي المشكلة.
    يقول الشيخ رحمه الله عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: (حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه) والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كلهم كذلك، فإذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان كما يؤمن به أهل السنة والجماعة ويعتقدونه فإنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويصلي خلف المهدي من هذه الأمة إشعاراً بأنه متبع، فهو في العبادة لا يتعبد الله إلا بما شرع لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فلا يأتي بشرع من عنده أبداً، ولو أدركه موسى عليه السلام أو نوح أو أي نبي لما كان له طريق إلى الله إلا اتباعه، فكيف من دونه؟
    ولهذا قال الشيخ: (كما قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ))[آل عمران:81] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) فالنبي يأخذ الله تعالى عليه الميثاق فيقر به، ويأخذ النبي الميثاق على أمته أنه إن بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه.
    إذاً: لا طريق للخلق إلا من طريقه.
  3. عاقبة طاعة المشايخ والأولياء في مخالفة رسول الله

    يقول الشيخ رحمه الله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، وجعله الفارق -أي: محمداً صلى الله عليه وسلم- بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص -أي: الذي اتخذه وجعله ولياً- أولاً إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق).
    وهذه هي حقيقتهم أول ما يبدءون بالابتداع والعياذ بالله، وينتهي بهم الأمر إلى النفاق إلى الخروج عن الدين؛ لأن الشيطان إذا أخرجه عن السنة وبدأ يلقي في قلبه تصديق ما يوحى أو ما يلقى إليه وما يقوله شيخه فإنه لا يقف عند حد معين؛ بل في النهاية ربما أمره بترك الجمعة والجماعات، وربما أوهمه أنه يمكن أن يصل إلى الله من غير طريق اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك يقع في الكفر الأكبر والعياذ بالله.
    ثم قال رحمه الله: (ويكون له -أي: هذا الذي اتخذ ولياً يقود- نصيب من قوله تعالى: (( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا ))[الفرقان:27-28]).
    و(فلاناً) هنا تشمل الذين يدعون إلى الفجور، وإلى الخمور، وإلى الفواحش، وإلى الشهوات، ويدخل في ذلك الذين يدعون إلى الضلالات والبدع وإن ادعوا أنهم أولياء لله تبارك وتعالى وأنهم عباد مقربون وصالحون، فالدعاوى وحدها لا تكفي، وكذلك قوله تعالى: (( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ))[الأحزاب:66-67].
    وليس المراد بالسادة والكبراء الأمراء أو الحكام، أو شيوخ العشائر، أو كبار العوائل فقط، بل أيضاً يدخل فيهم سادة وكبراء الدجل والخرافة والبدعة والتدين الذين يدخلون في هذا الذين ما ليس منه، فكل من اتخذ سيداً مطاعاً وقدم أمره وحكمه ورأيه على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتباعه يدخلون في هذه الآية، ويقولون يوم القيامة هذه المقالة.
    قال المؤلف رحمه الله: (وقوله تعالى أيضاً: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ))[البقرة:165]) أي: فهؤلاء ينطبق ذلك عليهم؛ لأنهم يعظمون من يدعون أنهم أولياء هؤلاء ويتبعونهم ويقدسونهم، بل ربما قدموا محبتهم على محبة الله، وجعلوا تعظيمهم أكثر من تعظيم الله، وهذا ثابت في القديم والحديث؛ حتى إنك الآن لو قابلت أحداً من الرافضة أو من هؤلاء الصوفية المتعصبين الغالية أو الموغلين، وأردت أن تستوثق منه وطلبت أن يحلف، فإنه يحلف لك بالله، وإذا لم تصدقه أو شككت في يمينه فإنه يحلف بالولي والعياذ بالله؛ لأنه يرى أن الحلف به أوثق من الحلف بالله عز وجل؛ فيعظمه أكثر من تعظيمه لله، وهكذا حالهم نسأل الله العافية، فلذلك تنطبق عليهم آية البقرة.
  4. زعم المنافقين الإيمان وإرادة التحاكم إلى غير رسول الله

    ثم ذكر الشيخ أيضاً قوله تعالى: ( (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ))[النساء:60]).
    وهذه الآية فيها الإشارة إلى المنافقين، فالمنافقون ادعوا الإيمان وزعموه، ولكنهم عندما رفضوا الاتباع كما في سبب النزول، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ قالوا: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة على اختلاف الروايتين ولا نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سمى الله دعواهم الإيمان زعماً؛ لأنهم ليسوا بمؤمنين، فقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ))[النساء:60] إذ لو كانوا مؤمنين لما رضوا أبداً أن يتحاكموا إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان، وقد علل الله تعالى عدم إيمانهم بأنهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت فقال: (( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60] فمجرد الإرادة ومجرد الرغبة في التحاكم إلى غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يعد نفاقاً أكبر والعياذ بالله، فهم ما تحاكموا إلى الطاغوت، وإنما أرادوا ذلك، فبهذه الإرادة كفروا؛ لأنها تدل على خلو القلب من الإيمان بمتابعته صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم متابعة مطلقة؛ ولهذا جاء في آخر الآيات: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] يعني: من غير منازعة ولا مدافعة ولا ممانعة، وهذا هو الإيمان، وما عداه فليس بإيمان.
    ثم يقول رحمه الله: (وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي الله، فإنه بنى أمره على أنه ولي لله)، يعني: إذا قلد شخص أي إنسان فيما يعلم أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فهذا يدل على أن الدافع له إلى ذلك اعتقاد مركب من جزئين:
    الجزء الأول: أن هذا ولي لله.
    والجزء الثاني: أن أولياء الله تعالى لا يخالفون، فما دام ولياً لله فأولياء الله لا يخالفون أوامره، فتجد التابع للولي مطلقاً قد خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاع الولي.
    يقول الشيخ رحمه الله: (فلو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك) فلا يصح هذا أبداً، ثم ذكر الشيخ رحمه الله عمدتهم وحجتهم عندما يعتقدون في هؤلاء أنهم أولياء وبالتالي فهم لا يخالَفون في شيء، فيخرجون عن حد الإيمان -والعياذ بالله- إلى اتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم.