المادة    
المسألة الثالثة: هل لأولياء الله شيء يتميزون به في الظاهر؟ أي: هل لهم شيء مصطنع متكلف يتميزون به عن غيرهم؟ والجواب: أننا نعلم جميعاً أن المؤمنين أولياء الله المتبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتميزون في الظاهر، وكلامنا هذا كله في التميز المصطنع الذي يمكن الإنسان أن يفعله، فنقول هل للمؤمنين تميز عن غيرهم من الناس؟ والجواب: نعم؛ مثل سمتهم العام، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في مظهره: في لحيته، في لباسه، في كلامه، وذهابه، وإيابه، فلهم ما يميزهم ظاهراً، وهكذا المؤمنون أولياء الله جميعاً، وليس الأمر أن صنفاً منهم هم الأولياء، ولهم شعار خاص كما يقول أولئك، فعندهم أن الناس عامة فئة، وأما الأولياء ففئة معينة مخصوصة لها شعائر معينة، وتتميز بلباس معين، وهذا موجود، وليس لذلك أصل في الدين، فليس الولي هو الذي لابد أن يلبس عمامة لونها أسود مثلاً، ويلبس طرحة خضراء، وخرقة لونها كذا، وشكله ومرتبته كذا.. فهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو مما أحدث. ‏
  1. تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وعدم تميز البعض على الآخرين

    وإذا نظرنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فإنا نجدهم أقل الناس تكلفاً، وهذه حقيقة عامة في كل شيء، ففي اللباس: إن جاءتهم الثياب من البرد اليمانية لبسوها، وإن جاءتهم الثياب المصرية لبسوها، وإن جاءتهم رومية لبسوها، فإن كان لأحدهم إزار لبسه، وإن كان له حلة لبسها، وإن لم يكن عنده إلا سراويل لبسها، فهم يعيشون بحسب الحال والحاجة، وكلهم مؤمنون، وكلهم أولياء لله عز وجل، ولا يتخصص طائفة منهم عن طائفة بشيء يميزهم ويكون بذلك من أهل مرتبة معينة.
    وأوضح مثال على ذلك: العسكريون، فيعرف أن هذا نقيب، وهذا عريف بالتميز الظاهر، فلم يكن للصحابة درجات وميزات ظاهرة يعلم بها أن هؤلاء من أهل بدر، وهم أفضل درجة، وهؤلاء من أهل الحديبية، وهم درجة ثانية، وهؤلاء من العرب آخر الناس إيماناً، وإنما كانوا أقل تكلفاً في كل شيء.
    بل كان الأعرابي كما في صحيح البخاري وغيره يأتي فيدخل إليهم في المسجد وهم جالسون فيقول: أيكم محمد؟! فهو لا يدري أين رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء؛ لأنهم كلهم سواء، ومتقاربون ومتجانسون، وإن اختلفوا في شيء فاختلاف طبيعي، فهذا فتح الله عليه فاشترى بزاً، أو حلة جيدة في نوعها، جيدة شكلها، والآخر لبس السراويل ولم يجد غيرها، أو لبس كساء وحبة من صوف، أو نمرة؛ كوفد مضر الذين جاءوا مجتابي النمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنه.. )، فجاء هذا بنمرة، وهذا بالبجاد، وهذا بصوف، وهذا بقطن، وكل يأتي بما يسر الله له، ولا يدل هذا على ميزة لذلك بهذا عن ذلك.
    وحصل فيما بعد شيء من التميز الذي قد يكون له نوع من الاعتبار، أو هو قريب من المباح، كما يذكر العلماء: أن القاضي لابد أن يكون متميزاً في لبسه مثلاً؛ حتى لا يطمع فيه الناس، أو يُظن أنه فقير فيرشى، أو غير هذا من الاعتبارات أو الاجتهادات التي رآها الفقهاء.
  2. بعض المميزات الظاهرة الباطلة الفرق

    وهناك أيضاً تميزات لا شك أنها باطلة ومن البدع، وهي التي يهمنا أن نذكرها هنا، كما يظن أن للأولياء ما يتميزون به، فـالبطائحية الذين ناظرهم شيخ الإسلام ابن تيمية يحملون أطواق الحديد على رقابهم، أو على أيديهم؛ حتى يعرف إذا ذهب إلى أي مكان، أو مشى في الشارع أن هذا من الأولياء، وبعضهم يتميزون بالخرقة، وكل طريقة لها خرقة معينة، ورتب وشارات، وهذه لم تكن معروفة إلا عند الأعاجم قبل الإسلام، ثم أخذها من انحرف من المسلمين تقليداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن سنن من كان قبلكم؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فأخذوا منهم الرتب والشارات والعلامات الظاهرة؛ اتباعاً وتقليداً، وذلك بغض النظر عن درجتها من الحرمة والابتداع، فالمقصود: أنها أخذت ونقلت نقلاً من هؤلاء، وهذا فيما يتعلق بالدنيا.
    وأشد من ذلك ما يتعلق بالدين، فنجد أن البابا عند النصارى ، أو البطريك -الذي يسمونه الآن: البطريك، وأصلها البطريك- له لباس معين، وشعارات معينة، وشكل معين، ثم الأسقف الكبير، ثم تحته القس، ثم تحته كذا، وهكذا نجدهم درجات، فأتوا هؤلاء فجعلوا نفس الدرجات، ونفس الشعارات، ونفس الشارات، ويميز بينها، فـالرافضة -كما يرون في الحج والعمرة- يلاحظ الاختلاف في ملابسهم، فيلبسون إما عمامة سوداء أو بيضاء، فإن كانت عمامته لونها كذا فهو مجتهد، وهو من آل البيت، وإن كان لونها كذا فهو دون ذلك، وليس مجتهداً، وهذا الشعار في اللباس الظاهر ليس له أصل في الإسلام، وأحياناً نرى في وسائل الإعلام لباس أحبار اليهود عند حائط المبكى، فنجد أنه نفس لباس الرافضة ، فمشابهتهم لليهود واضحة، وذلك من اتباع أحوال وتقاليد من كان قبلنا.
    فأراد شيخ الإسلام بهذه الفقرة أن يقضي على هذا التميز الذي يراه بعض الناس، فالشيخ عندهم لابد أن يلبس بصورة معينة، وبحالة معينة، وبطريقة معينة، والذين تحته لهم شعار ولباس معين إن كانوا مقربين، وإن كانوا مجرد مريدين؛ فالمريد يمكن أن يلبس لباساً عادياً من جملة ما يلبسه الناس.
  3. خطأ جعل المباح فوق منزلته

    يقول رحمه الله: (وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس؛ إذا كان كلاهما مباحاً).
    والقاعدة: أن المباح إنما يكون مباحاً إذا عومل على أنه مباح، وأما إذا عومل على أنه واجب فهذا بدعة، وجاء الابتداع من جعل المباح واجباً، كما أنه يأتي من جعل الحلال حراماً، فلو جاء أحد وجعل هذا المباح حراماً كما حرم أهل الجاهلية الوصيلة والسائبة والحام وغيرها؛ فهذا فيه تحريم لما أحل الله، وهذا ابتداع عظيم في الدين، وقد بين الله ذلك في الحديث القدسي من حديث عياض بن حمار : ( كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم )، فهؤلاء أتوا بهذه البدع من السائبة والوصيلة وغيرها كما ذكر الله في القرآن، وكذلك قتلهم أولادهم بغير حق وما إلى ذلك.
    وحتى لو كان من المباح فجعلوه واجباً فهو أيضاً بدعة، وهو افتراء على الله، فما جعله الله مباحاً فهو مباح، ولا يجوز لك أن تجعله حراماً، ولا أن تجعله واجباً.
    فإذا كان اللباس مباحاً لا يصح أن نجعل هذا النوع لطبقة معينة، مثل أن نقول: إن البشت الأسود للكبار، وإذا كان بنياً فهو لطلبة العلم، فهذا الترتيب حرام وابتداع، ولكن ليلبس الإنسان ما شاء.
  4. التميز بحلق الرأس أو تقصير الأظافر وحلق اللحية وغيرها

    ويقول: (وأيضاً ولا بحلق شعر، أو تقصيره، أو ظفره إذا كان مباحاً).
    أي: ليس من العلامة أنه يحلق دائماً، أو أن لأظفاره شكل معين، أو ما أشبه ذلك، إذا كان في حدود المباح، فيعمل الجميع بالسنة بما يقصر كالأظافر، أو بما يعفى كاللحى، فعلى الجميع يجب أن يعملوا بالسنة الواجبة، أو يستحب لهم أن يعملوا بالسنة المستحبة، وإذا عكس ذلك وجعل شيئاً من هذا الواجب أو المستحب ميزة لأناس محرماً عليهم؛ فلا يصح، فبعض الصوفية عكسوا: فجعلوا حلق اللحية علامة على الصوفي، وحلقها حرام أصلاً، فجعلوا ذلك علامة للعباد وللأولياء، وهذا أشد ممن يحلقها على أنه تقليد، أو عادة، أو تشبهاً بالمردان، فهذا هو صاحب الكبيرة، أو المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، الواقع فيما نهى عنه، لكن إذا حلقها لتكون علامة على أنه من الأولياء كـالملامتية أو أمثالهم من الصوفية؛ فهذا أشد إثماً، وضرره أعظم في الدين.
    يقول: (ولهذا كما يقال: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء).
    والقباء: هو الثوب العادي الذي يلبسه أكثر الناس، والعباء: هي الثياب التي يلبسها القضاة، أو العلماء، أو أهل الدين والخير، فاللباس يشترى، والشعر يمكن أن يطيله أو يحلقه أي شخص، وكذلك الظفر وغيره، فلو كانت الولاية تحصل بمجرد أي تميز ظاهر وما عداه ليس بولي -أي: بهذه القيود، ولا يفهم الكلام على غير وجهه- لكان الأمر أهون ما يكون، لكن الحقيقة غير ذلك.
  5. وجود الأولياء في جميع أصناف الأمة

    يقول شيخ الإسلام: (فأولياء الله يوجدون في جميع أصناف الأمة، فيوجدون في أهل العلم والقرآن، ويوجد في أولياء الله من هم من أهل الذكر، والفقه، والدين، ويوجد منهم في أهل الجهاد والسيف؛ الذي شغلوا أنفسهم بالجهاد، ولا لباس لهم يتميزون به، ويوجدون في التجار، فمن التجار من لا يفارق متجره إلا إلى مسجده، أو إلى بيته، وهو من أولياء الله في بيعه وشرائه وتصدقه، وكذلك الصناع؛ فقد يكون صانعاً يصنع الآلات وينتجها ولا يفارق ذلك إلا إلى بيته، أو إلى مسجده، وهو من أولياء الله في عمله، أو الزراع، أو ما أشبه ذلك).
    إذاً: فليس الأولياء فئة مخصصة من الناس، ولا يتميزون بشيء خاص بهم، فالأولياء من هذه الأمة هم المتقون، (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]، فالمؤمنون إن كانوا عمالاً، وكانوا أطباء، أو مهندسين، أو فلاحين، أو سياسين، أو حكاماً، أو قضاة، أو علماء؛ إن كان فيهم تقوى الله، واتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهم أولياء لله، وهذا من فضل الله وكرمه، فكيف إذا كانت الولاية ليست إلا لمن حصر نفسه وجلس في المسجد، أو قرأ أشياء معينة، ولبس ملابس معينة، فأين يذهب الآخرون؟! فلا يمكن ذلك، ورحمة الله أعظم من ذلك وأشمل.
    يقول شيخ الإسلام: (وقد ذكر الله أصناف أمة محمد في قوله: (( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ))[المزمل:20] إلى أن قال: (( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ))[المزمل:20]) فقوله: (منكم) أي: من هذه الأمة القوامة المصطفاة من يضربون في الأرض -أي: تجار- يبتغون الرزق، إذاً: فالتجار قد يكونوا من هؤلاء، ((وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[المزمل:20]، إذاً فالمجاهدون قد يكونون من الأولياء.. وهكذا.
  6. الأوصاف المميزة عند السلف

    ولهذا استطرد الشيخ إلى ذكر الصفات المميزة، وليست مجرد شعارات، فقال: (كان السلف يسمون أهل الدين والعلم: القراء)، فكان مصطلح القراء يطلق على كل من يقرأ القرآن في عهد الصحابة، فلما خرجت الخوارج ، وكان كثير منهم من القراء، لكنهم كانوا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فكأن الناس أهملوا هذا اللقب حتى تخصص فيه من يجيد القراءة؛ بغض النظر عما فيه من صفات أخرى، لكن في أول الأمر كان القراء العباد يتميزون عن الأمة بصفة وهي: أنهم يقرءون القرآن، فالأمة كلها أولياء الله، لكن تميزوا بأنهم يقرءون القرآن، وهذه ميزة عظيمة ولا شك، والناس -والحمد لله- يعتبرونها ميزة إلى هذا الزمان، فيقولون: فلان قارئ لكلام الله.
    ثم ظهرت الصوفية فأصبحوا يلقبون الأولياء بـالصوفية ، فعندما يتكلم عن أصناف الأمة يقال: الأمة فيها العلماء، وفيها الفقهاء، وفيها الأصوليون، وفيها المؤرخون، وفيها أهل اللغة، وفيها الصوفية ، فصار مصطلح الصوفية مصطلح يطلق على أهل العبادة والذكر والورع، وأما الفقهاء فالفقيه إنما يفتي الناس، وقد يكون على أية حال من حيث العبادة، وهذا التقسيم خطأ، فقد حدث التمايز بين الأمة بهذا الشكل.
    ثم أصبح اسم الصوفية أو الفقراء محصوراً فيمن ينتظم في الطرق المعينة فقط، وليس في أي عابد، أو أي ذاكر، وهكذا يتغير ويتحدد الاصطلاح، والمقصود أن أولياء الله الحقيقيين لا يحصرهم شيء من ذلك، وأما الأوصاف الشرعية فإنها لا تعني الحصر أو التميز، بل كما تقدم في أول موضوع الإيمان: أن الألفاظ تختلف دلالتها عند الاقتران عنها عند الإفراد، فإذا قلنا: هؤلاء متقون، وهؤلاء مهاجرون، وهؤلاء مجاهدون، وعابدون؛ فهذه ليست متباينة؛ فإنها يمكن أن تقال وتطلق على فئة واحدة من عباد الله تكون هذه الصفات فيهم، لكن إذا قرنت فإنه يظهر التباين فيها كالإسلام والإيمان، فإذا قيل: هؤلاء مؤمنون ومجاهدون؛ فهمنا أن هؤلاء يشتغلون زيادة على الإيمان بقتال الكفار، لكن إذا قلت: هؤلاء مؤمنون؛ فإننا نفهم أن منهم المجاهد، ومنهم العابد، ومنهم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وطالب العلم وغير ذلك، وكذلك أهل الحق، أو أهل الدين، أو أهل السنة تشمل كل من كان على السنة حتى لو كان من العوام، وإن كان الأخص به هم العلماء العاملون بالسنة، لكن حتى العوام، وحتى أهل اللغة وأهل التاريخ إن كان أحدهم من أهل السنة ويؤرخ، وحتى الأديب إن كان أديباً وهو من أهل السنة والجماعة ، والكتّاب إن كانوا من أهل السنة ؛ فهم جميعاً من أهل السنة ، وكذلك القراء أو المهاجرون.
    فهذه الألقاب كلها صفات شرعية تدل على أن صاحبها محقق لهذه الشعبة من شعب الإيمان، أو هذا العمل، أو هذا الوصف من أوصاف المؤمنين، وليست شارة أو شعاراً يطلق على فئة معينة من الناس وإن كان فيهم من يخالف هذا الوصف، فهذا هو الفرق بين الحق وبين الدعاوى الباطلة، وإلا فقد يأتي بعضهم ويقول: نحن مجاهدون، ولا جهاد فيهم، وربما يكونون من أهل البدع، فالأسماء بذاتها لا تدل على الحقائق، لكن الأوصاف الشرعية إذا استحقها الإنسان أو الأمة أو الطائفة فإنها توصف بها، وقد يوصف الإنسان أو الطائفة بأكثر من وصف؛ لترادف تلك الأسماء.