المادة    
فيقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله: ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن )، قال: وفي حديث عائشة : ( ترددي عن موته )، ووقع في الحلية في ترجمة وهب بن منبه : إني لأجد في كتب الأنبياء: أن الله تعالى يقول: ( ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن... ) إلخ)، وبدأ يذكر الأقوال كعادته رحمه الله، فنذكرها ثم نبين الحق منها. ‏
  1. تأويل الخطابي لقوله: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله...)

    قال الحافظ: (قال الخطابي -هو ينقل عن شرح البخاري للخطابي رحمه الله-: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ) والبداء من البدوء وهو الظهور، أي: أن يظهر ويتبين له علمٌ أو وجه مصلحة بشيء كان خافياً عنه من قبل، ولا شك أنه بهذا المفهوم أو المعنى لا يمكن أن يوصف الله عز وجل به، إذ إن الذي يصف الله عز وجل بالبداء هم اليهود ، أما أمة الإسلام جميعاً، وكل أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذين عرفوا الله، وقدروا الله حق قدره، وأتباعهم، فلا يقرون هذا الذي شذت به اليهود واتبعهم بعض من ينتسب إلى الإسلام؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو العالم العليم بكل شيء بما كان وبما سيكون، وبما لم يكن لو كان كيف يكون، فهو الذي له العلم الأزلي، فهو عليم بكل شيء قبل أن يخلق أي شيء، ثم كتب ذلك سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث الصحيح من حديث عمران بن حصين : ( وكتب في الذكر كل شيء.. )، وفسرته الأحاديث التي في صحيح مسلم : ( إن الله تبارك وتعالى كتب كل شيءٍ -أي: في اللوح- قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )، فكل ما هو واقع وكائن في هذا الوجود قد كتبه الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق هذا الوجود بخمسين ألف سنة، والكتابة مطابقة للعلم الأزلي، فإذاً كيف يمكن أن يوصف الله تبارك وتعالى بالبداء؟! تعالى عن ذلك علواً كبيراً، لكن هل الحديث يتضمن البداء؟ لذلك نحن قلنا: إنه يؤتى مثل هؤلاء العلماء من فهمهم للحديث.
    يقول الخطابي رحمه الله في الحديث: (ولكن له تأويلان: أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمراً، ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه). أي: أن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً، وأناله درجة الولاية، ثم أصاب هذا العبد مرضٌ من الأمراض، فالعبد الولي الصالح يدعو الله تبارك وتعالى، ويتضرع إليه أن يرفع عنه هذا البلاء، فيستجيب الله عز وجل له، لكنه كتب عليه الفناء والموت، يقول: فيكون هذا الشيء كأنه بداء، وكأن الله عز وجل يتردد، وكأن هذا هو التردد الذي يقع؛ لأنه كتب عليه الفناء والموت، ومن جهةٍ يريد أن يستجيب دعاءه.
    يقول: (والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيءٍ أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن). فيؤول: (ما ترددت) بـ(وما رددت)، والفرق بين ترددت ورددت: أن (تردد) فعل لازم لا مفعول له، فإذا قال المتكلم: (ترددت) فيحتاج إلى فاعل مضمر فقط، ولا يحتاج إلى مفعول؛ لأنه فعل لازم، وأما (ردد) فهو فعلٌ متعد يحتاج إلى مفعول، فيجعلون ذلك وقع على الرسل، لكن هل ينجيهم هذا من المعنى المحظور؟ إن مشكلة أهل التأويل أنهم دائماً يحاولون أن يفروا من معنى يقولون: إنه يوهم التشبيه أو يوهم النقص، فيقعون أحياناً في أشد منه أو في مثله، فنفس الشيء في: (وما رددت رسلي في شيء) فلماذا يرددهم؟ فهو نفس الشيء، تردد أو ردد، لكن أهل هذا التأويل يرون أن هذا أسلم في نظرهم، فيقولون: إن المعنى: ما رددت رسلي، أي: أرسله ثم أعيده.
  2. كلام الإمام الكلاباذي في معنى التردد في حديث الولي

    قال الحافظ: (قال الكلاباذي ما حاصله: إنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات. أي: عبر عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعفٍ ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت فيقبض على ذلك). وهذا هو نفس المعنى الثاني، لكن الزيادة يقول: أن الله سبحانه وتعالى يجعل هذا العبد الصالح يرضى بالموت، فيحب الموت في النهاية، ثم لا يقع عليه ولا يقدر الله عليه إلا ما يحب لا ما يكره، فيردد الله تعالى عليه الأحوال حتى يتحول من كارهٍ للموت إلى محب له، فتقبض روحه وهو محب للموت، فيكون هذا هو معنى التردد.
    قال: (وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه، والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلاً عن إزالة الكراهة عنه). وهذا صحيح، إذ إن بعض عباد الله الصالحين ليس فقط أنه لا يكره الموت، بل إنه قد يشتاق إلى الموت لما يحدث الله تعالى في قلبه من محبة لقائه، ( ومن أحب لقاء الله أحب الله تبارك وتعالى لقاءه )، لكن هل هو المقصود بالحديث؟
    قال: (فأخبر أنه يكره الموت ويسوءه، ويكره الله تعالى مساءته، فيزيل عنه كراهية الموت لما يورده عليه من الأحوال، فيأتيه الموت وهو له مؤثر وإليه مشتاق).
    وحقيقةً على هذا المعنى كأنه لم يعد هناك تردد؛ لأن الله تعالى لا يوقع به إلا ما يحب، والعبد صار يحب أن يموت، ولا يوجد تردد بين أمرين، لكن ظاهر الحديث أن هناك أمران: وهما: وجوب الموت على العبد، وهذا أمر نافذ، وقضاء لازم لا محيص عنه ولا مفر منه، وكراهة العبد للموت فيتعارضان، فلا بد أن أحدهما يقع، وإذا وقع أحدهما وهو الموت بخلاف ما يريد العبد، فيكون ذلك نوع من عدم الاستجابة والإكرام والمنة، وإعطائه ما يريد، والمسارعة له فيما يحب وما يريد، فهنا يكون الحالان المتعارضان.
    قال: (وقد ورد تفعَّل بمعنى: فعَّل، مثل: تفكر وفكر، وتدبر ودبر، وتهدد وهدد والله أعلم)، فهذا تخريج لغوي، والمهم والمقصود أنه على المعنى الثاني مما ذكره الخطابي .
    قال: (وعن بعضهم: يحتمل أن يكون تركيب الولي، يحتمل أن يعيش خمسين سنة، وعمره الذي كتب له سبعون، فإذا بلغها فمرض دعا الله بالعافية فيحييه عشرين أخرى.
    فعبر عن قدر التركيب، وعما انتهى إليه بحسب الأجل المكتوب بالتردد)، وهذا أيضاً نوع من التأويل، قالوا: إن التردد هو بين حالتين: الأولى: تركيب العبد، فإن العبد ركب بدنه ليعيش خمسين سنة، وبعد الخمسين يتوقف القلب، يتوقف المخ، تتعطل الأعضاء، ينتهي كل شيء، فإذا دعا الله تبارك وتعالى فهو ولي، والولي له هذه القيمة، وله هذه المنزلة، فإن الله تعالى يمد في عمره، كأن يمد له من العمر عشرين أو ثلاثين ليوافق ما قدر وما كتب له من قبل، وبالتالي فالتردد وقع في هذا، أي: بحسب التركيب، وبحسب القدر النافذ، وهذا أيضاً تأويل، وليس هو الوجه الصحيح في الحديث.
  3. تأويل ابن الجوزي لمعنى التردد في حديث الولي

    قال: (وعبر ابن الجوزي عن الثاني بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه؛ لأن ترددهم عن أمره. قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة، فإن قيل: إذا أمر الله بالقبض فكيف يقع منه التردد؟ فالجواب: أنه يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت، كأن يقال: لا تقبض روحه إلا إذا رضي، ثم ذكر جواباً ثالثاً: وهو احتمال أن يكون معنى التردد: اللطف به، كأن الملك يؤخر القبض).
    وخلاصة كلام ابن الجوزي : أن التردد بالنسبة للملائكة الموكلين بقبض الأرواح، والله تعالى أضاف التردد لنفسه، قال: لأنهم جنده وملائكته وبأمره يفعلون، فهو يقول: (وما ترددت) أي: وما ترددت ملائكتي، فهذا مختصر تأويل ابن الجوزي ، وتتردد الملائكة؛ لأنهم يعلمون أن الله يحبه، وأن له عند الله كرامة، وأن له عند الله منزلة، ومع ذلك فهم مأمورون أن يقبضوا روحه فيترددون، وكل هذا حتى يفر من نسبته إلى الله تعالى.
    ثم يقول: فإذا قيل: الله تعالى أمر الملك بالقبض، فكيف يقع منه التردد؟ أي: إذا أمر الله تعالى الملائكة أن تقبض روحه، فلماذا تتردد وقد أمرها الله؟ فيقول: عدة أجوبة:
    الأول: أنه يتردد فيما لم يحد له فيه وقت، أي: أنه يقول: اقبض روح عبدي فلان ولم يحد له وقتاً، فيتردد متى يقبضه أو كيف يقبضه؟ أما لو حدد الساعة فإنه ينفذ ولا يبالي، وهذا احتمال.
    الاحتمال الثاني: أن يقول له: لا تقبض روحه حتى يرضى، وكأنه أعطاه أمراً مطلقاً، وعلى هذا نرجع إلى القول السابق، أي: كأن الملائكة تنتظر فلا تقبض روحه حتى يشتاق إلى لقاء الله، ويرضى بأن يموت، فيأتيه الموت وهو غير كاره له، فلا يقع ما يسوءه ويضايقه ويكرهه.
    قال الحافظ: (ثم ذكر جواباً ثالثاً فقال: احتمال أن يكون معنى التردد اللطف به، كأن الملك يؤخر القبض، فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه، فلم يبسط يده إليه، فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بداً من امتثاله). أي: فالملك يقول: هذا عبدٌ مؤمن له قدر عظيم واحترام وكذا، ويتهيب أن يقبض روحه، ومن ناحية أخرى يعلم أن الله قد أمره أن يقبض روحه، فلابد لي منه، فيقع منه التردد.
    أيضاً ذكر جواباً رابعاً فقال: (أن يكون هذا خطاباً لنا بما نعقل، والرب منزه عن حقيقته). وبالتالي فما هي الحقيقة؟ هل الحقيقة تستلزم النقص؟ لا يوجد فيها نقص، وهذا الذي نريد دائماً أن نقوله، فلا يمكن أن يأتي شيء من الأحاديث أو الآيات من باب أولى في الصفات، وفيها إثبات نقص أو خلل أو أي شيء لا يليق بالله عز وجل، المهم أن كل ما يأتي في النصوص فهو يثبت لله تبارك وتعالى الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
    يقول: (فهو من جنس قوله: ( من أتاني يمشي أتيته هرولة )، فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديباً، وتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما -وهذا مثال جيد- ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد، بل كان يبادر إلى ضربه لتأديبه، فأريد تفهيمنا تحقيق المحبة للولي بذكر التردد)، وهذا الكلام هو الواقع، ولله المثل الأعلى، فالمثال هذا قريب من تفسير الحديث، فابنك أنت تحبه، لكن لا نقول: اضربه؛ لأن الضرب أذى، ومثال أوضح: هذا الابن لابد أن يدخل المدرسة، أو تحفيظ القرآن وهو يكره المسجد، يكره أن يذهب إلى التحفيظ؛ لأنه يحب اللعب، وأنت تحب ابنك حباً شديداً، ولابد لك أن تدخله للتحفيظ، وهو يكره ذلك، وأنت تكره مساءته، وهو يكره ذلك، لكن لابد لك من أمر من الأمور فتفعل، وهذا مقتضى المحبة، إذ إن مقتضاها الإكرام والعلم بالمصلحة؛ لأنك تعلم أن مصلحة ابنك ليس أن تحبه فيبقى في البيت، بل تحبه فيحفظ القرآن، ولله المثل الأعلى، فالله تبارك وتعالى عندما يصف نفسه بالتردد، أو يسند ذلك إليه لإظهار أنه يحب عبده المؤمن، فهذا حق، لكن هل هذا مما يعاب أو يذم؟ وهل فيه نقص؟ لو جئت إلى أحد الآباء فقلت له: لماذا تتردد في ولدك؟ يقول: أنا أحب الولد، ولا أريد أن أغضبه، وفي نفس الوقت لابد أن يتعلم، فأدخلته التحفيظ وهو كاره، فهل هذه صفة نقص أو كمال؟
    صفة كمال في الأب وهو مخلوق، وأي صفة كمال في المخلوق فالله تبارك وتعالى أحق بها وأولى، وبالتالي يكون التردد نقصاً أو عيباً إذا كان المتردد لا يدري أي الأمرين خير، لا يدري عاقبة الأمرين، وهذا في حق البشر، أما الله تبارك وتعالى فهو يعلم الغيب، يعلم ما كان وما سيكون، فلا يتعارض عنده تبارك وتعالى أمران بهذا المفهوم أبداً، فالبشر أنفسهم إذا تردد أحدهم في أمرين يقول: لا أدري أدخل ولدي في هذا المجال، أو في هذا المجال، فهو متردد محتار، فيذهب يستشير؛ لأنه لا يعلم العاقبة والمصلحة؛ لأنه مخلوق لا يعلم الغيب، وهذا بهذا المعنى نقص في حق الله، أما المخلوق فهو بطبيعته ناقص، وبهذا المعنى لا يثبت لله تبارك وتعالى أبداً، أما من يعلم العاقبة وإنما تعارض أو أظهر أن الأمرين لديه متعارضان، جعل إكرامه لوليه كأنه مساوياً، وهو ليس مساوياً في الحقيقة، ولهذا قال: ولا بد له منه، فهو ليس مساوياً، لكنه جعله كالمساوي لقدره الذي لا بد منه؛ إظهاراً منه لمحبته ولكرامته عليه، فهذا ليس فيه نقص، بل فيه إظهار صفة من صفاته تبارك وتعالى، وهو لطفه وكرمه وتفضله على عبده، وإظهار قيمة هذا العبد ودرجته عنده.
  4. تأويل معنى التردد في حديث الولي عند الكرماني

    يقول: (وجوز الكرماني احتمالاً آخر: وهو أن المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج، بينما بقية الأمور يقول: كن فتكون). أي: أن روح المؤمن إكرام الله تعالى له يجعله لا يأخذها منه إلا بالأناة والتدرج.
  5. المعنى الصحيح لقوله: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله...)

    وكل هذه التأويلات -كما قلنا- مبنية على فهم أن التردد نقص، فنحن نقول: لا يمكن أن يثبت الله تبارك وتعالى أو يثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم ما فيه نقص، وما في ظاهره نقص فلا بد من أن الحديث أو الآية توضح، فمثلاً: حديث: ( مرضت فلم تعدني )، فالمرض نقص، وفسره بقوله: ( مرض عبدي فلان فلم تعده )، وبالتالي لا ينسب المرض إلى الله؛ لأن الحديث يقول: ( مرض عبدي فلان ) مثل حديث الولي، لكن لماذا يقول: مرضت؟ يقول: يا من تغفلون عن قدر أولياء الله وعباد الله الصالحين، انتبهوا، عندما مرض هذا العبد فلم تعودوه، وعندما جاع فلم تطعموه، فأنا أنسب ما وقع به إلى نفسي من شدة محبتي له، ولعظيم منزلته عندي، ولذا أقول: مرضت، فالحديثان متطابقان، وغيرها من الأحاديث لا تتناقض أبداً على مذهب أهل السنة والجماعة والحمد لله؛ لأنه: ( كنت سمعه وبصره ويده ورجله ) التي مرت معنا في الحديث، نفس الشيء، وهذه منزلة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، فهل يتضمن ذلك إثبات المرض لله؟ لا؛ لأن الله ما قال ذلك، وإنما بين أن الذي مرض هو العبد.
    أما التردد فنسبه إلى نفسه ولم يقل: ترددت ملائكتي، لكن لماذا نحن نؤول؟ نقول: التردد على ظاهره، وهو ليس تردد الجاهل بالعاقبة حتى يذم، وإنما هو تردد الكريم الذي يريد أن يفعل أحد الأمرين، ولكن أحدهما لا بد منه، والله تعالى كريم وعليم ولطيف، فهذه كلها ثابتة له تبارك وتعالى ولا تتعارض.
    لكن قد يقول قائل: إن مصلحة الولي أنه يعيش ليزداد من الحسنات حيث قال: ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله )، لكن قال: (ولا بد له منه) (( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))[الأعراف:34] فقد جاء الأجل فكيف ذلك؟ نقول: لا تعارض، إذ إن التردد يقع بعد أن طال عمره وحسن عمله، ثم إن طال عمره وحسن عمله، أليس لزاماً أن يموت؟ وهل أحد من الناس يحب الموت؟ هل من طبع البشر أن يحب الموت؟ إن القضية مهما طولتها فإنه يأتي وقت لابد أن تقبض روحه، ولو خير لما اختار، وإن اختار البعض فلا يختار الكل، فالمقصود هنا ليس العموم على أية حال، لكن يوجد من لو خير لما اختار الموت.
    إذاً: الحديث على ظاهره، والتردد بهذا المعنى لا يستلزم النقص والتمثيل والتشبيه كما يقولون، وإنما هو صفة كمال يتصف بها الكريم إذا أراد أن يترفق بمن يريد أن يكرمه من أحبابه.
    كما أنه أيضاً قد يقول قائل: يمكن أن يكون كناية، قلنا: الكناية لا تنفي الحقيقة، والإمام الخطابي رحمه الله لما قال: (إن هذا عطف الله على العبد ولطفه وشفقته)، قلنا: هو عطف ولطف وشفقة، لكن الكلام: هل نؤول أم لا؟ والقاعدة التي اتفقنا عليها من قديم -وهي قاعدة مهمة-: أنه لا يمكن أن نؤول أي نص من النصوص بالمعنى الذي يعنيه أهل البدع، أي: أن نصرفه عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، إذ إن مراد الله تبارك وتعالى من الآية، أو الحديث القدسي، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث الظاهر المراد منه لا يمكن أن يستلزم نقصاً أو تمثيلاً أو تشبيهاً، بحيث لا بد أن نؤوله ونقول: إن هذا الظاهر غير مراد؛ لأنه يلزم منه كذا وكذا، وفي الحقيقة أن التأويل تحريف الكلم عن مواضعه، أي: أن يكون الله عز وجل أراد أمراً معيناً، ونحن عرب ونفهم كلامه ونؤوله بمعنىً آخر، فمثلاً: ( إن الله يستحيي أن يرفع العبد يديه فيردهما صفراً )، فيقولون: الحياء هذا ضعف، وفيه شيء من الذلة، أو فيه شيء من الانكسار أو الرقة، وهذا لا يليق بالله عز وجل! فمن قال: إن شيئاً يثبت لله ويكون فيه هذه اللوازم، إن هذه اللوازم لو صحت فهي في حياء المخلوق، أما حياء الله فلا، إذ إن الرحمة هي انكسارٌ وخضوع ورقة، والله منزه عن ذلك، فنقول: إذا كانت هذه اللوازم باطلة، أو فيها شيء من الضعف والنقص فهي في حق المخلوق، مع أنه حتى المخلوق يرحم، وهي صفة كمال فيه، والله أولى بها، كذلك الغضب، إذ إن بعضهم قال: إنه غليان القلب وإرادة الانتقام، وهذا لا يليق بالله عز وجل، لكننا نقول: إن هذه اللوازم هي في حق المخلوق، أما الله تعالى فلا.
  6. أدلة الخطابي في تأويله لقوله: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله...)

    ويستدلون على ذلك بحديث صحيح -لكن هل يدل على مرادهم؟- وهو ما روي في قصة موسى من لطمه لملك -يجوز أن تقول: ملِك بالكسر، أو ملَك بالفتح، ومعنى الكسر: أن الله ملكه هذا الأمر- الموت حتى فقأ عينه، وتردده إليه مرة بعد أخرى، والقصة معروفة، إذ إن الله أرسله إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه، وموسى عليه السلام كان ذا قوة وشدة في الحق، ففوجئ بملك الموت جاء ليقبض روحه، فلطمه موسى عليه السلام ففقأ عينه، فرجع الملك إلى ربه عز وجل يشكو إليه ما فعل به موسى عليه السلام، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن ضع يدك على ظهر ثور -هنا يظهر إكرام الله عز وجل لموسى عليه السلام- فمهما وقع تحت يدك من شعر فإنك تعيش قدره من السنين، قال: ثم ماذا بعد يا ربِّ؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن إذاً؟ أي: ما دام بعد كل هذا موت، والموت حق وهو آت لا بد منه، فالآن إذاً. فالملك إذاً ذهب ثم عاد إلى ربه، ثم رجع إليه وقبض روحه في اللحظة التي كتب الله أزلاً أنه يقبض روحه فيها، وصدق الله إذ يقول: ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[الأعراف:34]، أبداً في تلك اللحظة، فالذهاب والإياب هذا كان قبل اللحظة التي كتب الله تعالى أنه يقبض فيها، ولذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن روح القدس نفث في روعي، إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهذه وصية عظيمة، وقوله: (يجمل في الطلب) أي: لا يلح ولا يبالغ، فإن طلبت فاطلب طلباً جميلاً أو مجملاً؛ لأنه لن تموت نفس أبداً حتى تستكمل رزقها وأجلها، فأما الرزق فإننا نلاحظ ونشاهد أن الإنسان قد يعطى بملء الملعقة، فيأخذ البعض ويرد البعض، ثم يموت، فهو أخذ ما كتب له، ورد الذي لم يكتب له، ولا يمكن أن يموت وبقي له شيء أبداً، والأجل كذلك، إذ إن الحياة أنفاس تتردد، فيتنفس العبد النفس الذي كتب الله له، ثم لا يتنفس له بعد ذلك ما كتب الله أنه يوقف، وعليه فلا يمكن أن يموت أحد حتى يستوفي ذلك، والمقصود أن هذا وقع حيثما قدره الله عز وجل، فإذاً يقولون: إن الملك تردد.
    وفي قصة أخرى أيضاً ما يتعلق بموت الأنبياء، ففي حديث صحيح بمجموع طرقه، وبعضها حسن وبعضها ضعيف: أن الله تعالى أطلع آبانا آدم عليه السلام على ذريته، واستخرجه من ظهورهم، وذلك كما هو موضوع الميثاق، قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ))[الأعراف:172] فرأى آدم عليه السلام رأى من بينهم ابناً من أبنائه أعجبه وبيص ما بين عينيه، أي: رأى فيه وضاءة ونوراً، فقال: من هذا يا رب؟ قال: هذا عبدي داود عليه السلام، فقال: كم يعيش؟ قال: ستون عاماً، فتقالَّها آدم عليه السلام، وقال: يا رب! أعطه من عمري، فأعطاه من عمره أربعين سنة، وقد جاء في بعض الآثار أن آدم عمِّر ألف سنة والله أعلم، إذ إنها ليست أحاديث مرفوعة ثابتة، لكنها آثار فقط، فلما جاءه ملك الموت ليأخذ روحه قال له: بقي من عمري أربعون سنة، فذكَّره بأنه أعطاها ابنه داود عليه السلام، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، وخطي آدم فخطئت ذريته)، فنحن أبناء آدم عليه السلام فينا النسيان والجحود والخطأ، وكل هذه الثلاثة من طبعنا؛ لأن الله تبارك وتعالى جعلها في أبينا آدم عليه السلام، فهو نسي ما أمره الله تبارك وتعالى به وأكل من الشجرة، ومثل هذا الموقف وغيره، فحصلت منه هذه الصفات التي ورثها بنو آدم منه، والمهم أن هذا القول بمعنى: ترديد الرسل، أي: أن الرسل يرددون إلى الولي أو العبد الصالح الذي يراد قبض روحه.
    قال: (وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه). وهذه لا شك فيها، وكأنه يقول: إن هذا كناية عن العطف، واللطف والشفقة والإكرام، وهذا ليس فيه خلاف، والكل متفقون على أن المقصود من هذا الكلام هو أن الله تبارك وتعالى يحب عبده، ويلطف به إلى درجة أنه لو كان يدفع أمراً مقدراً سابقاً لدفع عن عبده هذا الموت؛ لأنه يكره الموت، والله تعالى يكره مساءة هذا العبد، ولا يريد أن ينزل به إلا ما يحبه، فلأنه يكره الموت فالله تعالى يكره له الموت أيضاً، لكن لابد منه ولا بد له منه، والمعنى في النهاية ليس فيه شك، إنما الإشكال: هل يوصف أو ينسب التردد إلى الله عز وجل؟