المادة    
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فلا زلنا بعون الله في شرح ذلك الحديث العظيم الجليل القدر وهو حديث الولي، وقد وقفنا عند قوله: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )، وذكرنا ما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله مما جاء في إجابة دعاء الولي، وهذا ثمرة من ثمرات الولاية: أن يكون للولي هذا الفضل، وهذه المنزلة، فإن سأل الله سبحانه وتعالى أعطاه، وإن استعاذ بربه تبارك وتعالى من شر ما يخاف أعاذه الله تبارك وتعالى.
وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عدة قصص لعباد الله الصالحين الذين من الله تبارك وتعالى عليهم بإجابة الدعوة، فكان ذلك دليل ولايتهم لله تبارك وتعالى، وفي هذا تحقيق لهذا الحديث الصحيح، وذكرنا منهم قصة الربيع عندما أقسم أخوها أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه ألا تكسر سنها، وكذلك قصة البراء بن مالك . ‏
  1. استجابة الله دعاء النعمان بن نوفل

    ثم بعد ذلك ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله قصة عن ابن أبي الدنيا أنه روى بإسناده: ( أن النعمان بن نوفل قال يوم أحد: اللهم أقسم عليك أن أقتل فأدخل الجنة، فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن النعمان أقسم على الله فأبره ).
  2. استجابة الله دعاء عبد الله بن جحش

    وذكر أيضاً أن أبا نعيم روى بإسناده: [أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: يا رب! إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله فيك ويقتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلت: يا عبد الله! من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك، وفي رسولك، فتقول: صدقت، قال سعد -وهو الراوي-: لقد لقيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط]. أي: استجاب الله تعالى دعاءه، فجاء من قتله، ومثل به؛ حتى إنه قطع أذنه وأنفه وعلقهما كما ذكر.
    وهذا ليس بغريب على من كان هذا حالهم من الأولياء، وهم الصحابة، فأفضل الأولياء في الدنيا بعد الأنبياء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هذا إلا غيض من فيض.
  3. استجابة الله تعالى لدعوة سعد بن أبي وقاص

    ثم ذكر ما كان من شأن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولا يخفى فضله رضي الله تعالى عنه، ولا مشاهده العظيمة وفتوحاته، ولا بلاؤه في سبيل الله عز وجل، ومشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان مجاب الدعوة.
    قال: (وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة، فكذب عليه رجل، فقال: [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فأصاب الرجل هذا البلاء كله، فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد] ).
    وهذا له قصة صحيحة ثابتة، وذلك عندما شكي سعد رضي الله تعالى عنه، ودائماً أهل الوشاية وأهل الحقد لا يخلو منهم زمان، فـسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو بهذه الدرجة والمكانة من الفضل؛ ومع ذلك وشى به أقوام ممن لا خلاق لهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتعلمون قوة عمر رضي الله تعالى عنه في الحق، وشدة تحريه، فلا يمكن أن يرضى أن أحداً من ولاته يحتجب عن الرعية، أو لا يعدل بينهم، أو يفعل شيئاً من التهم التي تنسب إليهم، وقد اتهم عدد من ولاة عمر رضي الله تعالى عنه، وتظهر براءتهم جميعاً، وأنهم على خلاف ما يتهمون به، حتى أصبح من علامة تعديل الرجل، أو تبرئته من النفاق: أن يكون من ولاة عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأنه لم يثبت على أي منهم تهمة، وقد كان منهم سعد رضي الله تعالى عنه، وربما كان أجلهم، وأشرفهم، وأفضلهم قدراً، فكيف يتهم؟!
    فأرسل إليه عمر رضي الله تعالى عنه، ثم وقف في المسجد يسأل الناس ويستشهدهم عن سعد رضي الله تعالى عنه، فقام هذا الرجل المفتون وغيره، فشهدوا عليه أنه لا يخرج مع السرية، ولا يعدل بالسوية، وكان من جملة ما اتهموه به أنه لا يحسن الصلاة، ولهذا كان يتعجب رضي الله تعالى عنه كما جاء في الصحيح فيقول: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة في الإسلام -أي: من أول الناس إسلاماً-، وقد غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرحت أشداقنا من ورق الشجر، وجعل يذكر سابقته وبلاءه وجهاده، وقال: والآن أصبحت بنو أسد تعذرني على الإسلام والصلاة! يعني أصبحت الأعراب الجفاة الذين لا سابقة لهم، ولا هجرة، ولا جهاد؛ ينتقدونني في صلاتي، وهذا من الابتلاء الذي تعرض له رضي الله تعالى عنه.
    فقام هذا الرجل وشهد شهادة الزور هذه، فقال سعد : اللهم إن كان كاذباً.. أما إن كان صادقاً فقد قال ما عليه، ويجب على الإنسان أن يشهد شهادة الحق، (( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ))[البقرة:283]، فيشهد بالحق، وينكر المنكر، ولو كان على وال، أو أي إنسان، فلو أنه قال هذا بحق فلا شيء عليه.
    وإنما قام هذا الرجل رياء وسمعة؛ حتى يقال: قام فلان من بني فلان وتكلم في سعد ، وأبلغ في القول، قال سعد : فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، نسأل الله العفو والعافية، فكان ما دعا الله به، فأعمى الله تعالى بصره، وأطال عمره، وهذا من سوء الخاتمة -نعوذ بالله- كما قال تعالى: (( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ))[آل عمران:178]، فطال عمره حتى عمي بصره، وعرضه الله تعالى للفتن، فكان يخرج ويتلقى الجواري في سكك البلد، ويغمز هذه، ويتعرض لهذه، أي: كما نسميه الآن المعاكسة، وهو في هذه السن: رجل أعمى، كبير السن، ويفعل هذا الفعل، فهذا أقبح ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية-، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد ؛ لأنه يعلم أنه إنما قام ذلك المقام، وشهد تلك الشهادة زوراً وبهتاناً ورياء، ولم تكن لوجه الله تبارك وتعالى، نسأل الله العفو والعافية.
  4. استجابة دعوة سعد فيمن شتم علي بن أبي طالب

    وأيضاً سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه رجلاً يشتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدعا عليه، قال الراوي: فما برح مكانه حتى جاء بعير ناد -والبعير الناد: هو الضال الشارد- فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله؛ استجابة لدعائه رضي الله تعالى عنه.
  5. استجابة الله تعالى لدعاء سعيد بن زيد

    ومن هؤلاء أيضاً سعيد بن زيد ، فقد جاء في الصحيح أن امرأة نازعت سعيد بن زيد في أرض له، فادعت أنه أخذ منها أرضها، فتعجب كيف تنسب إليه تلك الفرية؛ وهو الذي يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين )، فدعا عليها وقال: [اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، قال الراوي: فعميت، فبينما هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت]، فاستجاب الله دعاءه، فقد أعمى بصرها، وقتلها في أرضها، نسأل الله العافية.
  6. استجابة الله تعالى لدعاء العلاء بن الحضرمي

    ومنهم أيضاً: العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه، قال بعضهم: كان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا، فقام فصلى، وهكذا المؤمن إذا كربه أو حزبه أو أهمه أمر فإنه يلجأ إلى الله عز وجل، وأما الذين لا يؤمنون بالله، ولا يلجئون إلى الله؛ فإنهم إذا أحاطت بهم الهموم إما أن ينتحروا، وإما أن يضجوا ويضجروا، وإما أن تضيق بهم الدنيا؛ لأنهم لا يجدون ملاذاً ولا ملجأ، أما المؤمن فلديه الملجأ والملاذ وهو: الدعاء، والتضرع إلى الله تبارك وتعالى.
    فلما عطشوا، واشتدت بهم الحال، وضاقت عليهم صلى وقال: اللهم يا عليم! يا حكيم! يا علي! يا عظيم! إنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، فاسقنا غيثاً نشرب منه، ونتوضأ، ولا تجعل لأحد فيه نصيباً غيرنا، فساروا قليلاً فوجدوا نهراً من ماء السماء يتدفق، فشربوا وملئوا أوعيتهم، ثم ساروا، فقال بعض أصحابه بعد أن تقدموا: والله لأرجعن كي أرى موضع النهر، فلما رجع لم ير شيئاً، وكأنه لم يكن في مكانه شيء قط؛ لأنه دعا ألا يجعل لأحد غيرهم نصيباً فيه، فهو لهم، وعلى قدرهم، فتوضئوا وشربوا، فلما ذهبوا ذهب الماء وكأن الأرض لم يكن فيها شيء، فهذا طلب مخصوص لمن طلبه، ولا يشاركهم فيه أحد غيرهم.
  7. استجابة الله تعالى لدعاء أنس بن مالك

    ومن هؤلاء أيضاً: أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هذا الفتى الأنصاري الذي شرفه الله عز وجل بخدمة خير خلقه وأشرفهم؛ محمد صلى الله عليه وسلم، فنال هذا الغلام هذا الشرف العظيم، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بطول العمر، والبركة في الولد، وكان -كما تعلمون- من أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً؛ لأنه كان يرى أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ويعاينها، فروى كثيراً من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، فشكا رضي الله تعالى عنه عطش أرضه في البصرة ، فتوضأ، وخرج إلى البرية -أي: الخلاء- وصلى لله تعالى ركعتين، ودعا، فجاء المطر وسقى أرضه، ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيراً؛ لأن المقصود هي أرضه، فقد دعا دعاء خاصاً، فاستجاب له الله تبارك وتعالى، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء.
  8. عظم إيمان الصحابة، وثباتهم على الحق

    وأحوال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كثيرة جداً، وهذه مجرد أمثلة، ومع ذلك فمجموع ما نقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا الباب لا يعني أن فضلهم لا يتجاوز هذا، وأن قدرهم عند الله تبارك وتعالى هو بقدر ما نقل عنهم وإن كان كثيراً، فهو قليل إلى جانب فضلهم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أعظم إيماناً، وأصدق وأعلى مقاماً من أن يثبت إيمانهم بالكرامات، والكرامات إن شاء الله سيأتي فيها باب مستقل بإذن الله. ومن أعظم فوائد الكرامات: تثبيت الإيمان في قلب المؤمن، والصحابة رضي الله تعالى عنهم أعظم إيماناً، وأجل من أن يحتاجوا إلى ما يثبت إيمانهم، ولذلك فهم لم يكونوا محتاجين إلى هذه الكرامات أو خوارق العادات الظاهرة، فقد أغناهم الله تبارك وتعالى عن هذا بما أعطاهم من الحقائق، والعلوم الباطنة، فإن الواحد منهم يكون راعي غنم أو راعي إبل لا قيمة له على الإطلاق: لا عند قبيلته، ولا عند أحد من الخلق، فيأتي فيسلم فتتدفق ينابيع الحكمة في قلبه، وعلى لسانه، فيأتي بالعجب العجاب الذي لم يصل إليه أحد من الخلق ممن لو تعلم وأفنى السنين الطويلة في تعلم علوم أهل الكتاب، أو علوم أهل الحكمة والفلسفة وما أشبه ذلك، فمن أين جاءهم هذا العلم؟ ومن أين جاءهم هذا النور في قلوبهم؟ فهذه كرامة عظيمة بسبب إيمانهم. فهذه الحقائق الباطنة عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم أعلى درجة، وأعظم من الكرامات الظاهرة، ومع ذلك فقد أوتوا رضي الله تعالى عنهم من هذا ومن هذا؛ حتى يعلم من بعدهم أنهم أسبق الناس إلى كل خير، حتى في الكرامات أو خوارق العادات الظاهرة.
  9. استجابة الله تعالى لدعاء رجل من السلف في عهد أبي موسى

    وهو أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه حدثت قصة في أيامه، وهو وال على البصرة ، وذلك أنه احترق خصاف بـالبصرة -وهو جمع خصف، وهو الذي يسمى الآن: العشة، فاحترقت لأنها عادة تكون مصنوعة من الخشب، فسرعان ما تحترق- فبقي في وسطها خصف لم يحترق، فقال أبو موسى لصاحبه: ما بالك لم تحترق؟! أي: أنه تعجب، والرجل مطمئن، والناس كل واحد منهم يخاف على خصفه، فقال له أبو موسى : ما لك؟ فقال: إني أقسمت على ربي ألا يحرقه، فقال أبو موسى : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( في أمتي رجال طلس رءوسهم، دنسة ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم )، فجعل ذلك الرجل من هؤلاء الذين لو أقسم أحدهم على الله لأبره كما جاء في حديث أنس المتقدم.
  10. إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار، وعدم تأثره بذلك

    وكان أبو مسلم الخولاني مشهوراً بإجابة الدعوة، فعندما خرج الأسود العنسي وادعى النبوة؛ ألقى بـأبي مسلم الخولاني رضي الله تعالى عنه في النار، ففعل به كما فعل بإبراهيم عليه السلام، فأعطاه الله تبارك وتعالى آية أن النار لم تحرقه، فلذلك فرح به الصحابة، حتى كان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: [ الحمد لله الذي أعطى واحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى الخليل إبراهيم عليه السلام ]؛ فهذا شرف وكرامة لهذه الأمة، فكان له كرامات، وكان مجتهداً في العبادة رضي الله تعالى عنه، وكان مشهوراً بإجابة الدعوة قال: فكان يمر به الضب فيقول له الصبيان: ادع الله أن يحبس علينا هذا الضب، فيدعو الله فيحبسه؛ حتى يأخذوه بأيديهم فأصبح معروفاً حتى عند الأطفال أن هذا الرجل مستجاب الدعوة إجابة فورية وقتية، وهذا من فضل الله، (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54].
  11. استجابة الله لدعاء أبي مسلم في المرأة التي خببت عليه زوجته

    ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له، فقد كان له امرأة، وكان هو وإياها على أحسن حال، فجاءت امرأة نمامة واشية فأفسدت زوجته عليه، والنساء غالباً يستجبن للوشاية، فدعا على هذه المرأة التي خببت عليه زوجه فذهب بصرها في الحال. أي: دعا الله عليها فأعمى الله بصرها؛ حتى لا تعرف مرة أخرى أين تذهب، وكيف تسير، ولا تنقل النميمة والوشاية بين الخلق، فجاءت فجعلت تناشده بالله، فرحمها ودعا الله تبارك وتعالى فرد عليها بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها معه.
  12. استجابة الله لدعاء مطرف بن عبد الله بن الشخير

    وأما مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه فقد كذب عليه رجل، (فقال له: [إن كنت كاذباً فعجل الله حتفك]، فمات الرجل مكانه).
  13. استجابة الله لدعاء الحسن البصري في رجل من الخوارج

    قال: (وكان هناك رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن البصري فيؤذيهم، فلما زاد أذاه قال الحسن: [اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت]، فخر الرجل من قامته، فما حمل إلى أهله إلا ميتاً على سريره).
  14. تعنت الخوارج في الأسئلة واستجابة الله دعاء الحسن في أحدهم

    من المعروف أن الخوارج ظهروا في الكوفة و البصرة ، وكانوا يأتون المجالس ويؤذون العلماء بالتعنت في الأسئلة، ويؤذونهم بشغل أنظار الناس في الحلقة عن الذكر وعن الخير، ويطعنون في العلماء في حلقاتهم، فكان عبد الله بن الكواء يتعنت مع علي رضي الله عنه في كل شيء، ويلح عليه في كل شيء، وهكذا -والعياذ بالله- دأب الخوارج ، حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه لما ذكر الحديث العظيم في الذكر؛ لما ذهب هو و فاطمة رضي الله تعالى عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه التعب، فقال: ( جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بيننا في اللحاف، ثم قال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ تكبران الله أربعاً وثلاثين، وتسبحان ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين ) الحديث المعروف، قال علي رضي الله تعالى عنه: [فما تركتها ليلة قط] فهو يحدث بنعمة الله عليه، فقال عبد الله بن الكواء : ولا ليلة صفين؟ مع أنه لو تركها ليلة صفين في وقت الحرب والمشاكل فلا شيء، فقال علي رضي الله تعالى عنه: [ ولا ليلة صفين ]، وجاء في بعض الروايات أنه قال: [ أنسيتها في أول الليل، ثم قرأتها من السحر ]، يعني: تذكرتها في آخره، فكان التعنت شأن الخوارج .
    فهذا الرجل كان يؤذي الحسن البصري رحمه الله في حلقته في المسجد، فلما كثر أذاه عليهم قال: [اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت]. أي: دعا عليه بدعاء الغلام صاحب الأخدود: ( اللهم اكفنيهم بما شئت )، فجعل الأمر مفوضاً إلى من بيده ناصية كل شيء، قال الراوي: فخر الرجل من قامته، وما حمل إلى أهله إلا ميتاً والعياذ بالله.
  15. استجابة الله تعالى لدعاء صلة بن أشيم

    ومن التابعين أيضاً صلة بن أشيم رضي الله تعالى عنه، وقد كان في سرية (فذهبت بغلته بثقلها وارتحل الناس) فإن ارتحل من غير دابته وحمْلها فكيف يذهب؟ وإن بحث عنها لم يجدها، (فقام يصلي فقال: [اللهم إني أقسم عليك أن ترد علي بغلتي وثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه]، ثم ركبها ولحق بالقوم)، وهذا دليل أيضاً على عظيم قدر هؤلاء، وأنهم مجابو الدعاء عند الله تبارك وتعالى.
    (وكان مرة في برية فجاع، فاستطعم الله -أي: دعا الله تبارك وتعالى أن يطعمه-، فسمع وجبة خلفه -أي: صوتاً أو حركة- فإذا هو بثوب أو منديل فيه دوخلة رطب طري -أي: إناء أو زنبيل من الرطب الطري- فأكل منه، وبقي الثوب عند امرأته معاذة العدوية وكانت من الصالحات) وصلة بن أشيم من تلاميذ حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
  16. استجابة الله تعالى لدعاء محمد بن المنكدر وأصحابه

    وكذلك محمد بن المنكدر رضي الله عنه، وقد (كان محمد بن المنكدر في غزاة، [فقال له رجل من رفقائه: أشتهي جبناً رطباً، فقال ابن المنكدر : استطعموا الله يطعمكم؛ فإنه القادر كل شيء، وعنده خزائن كل شيء تبارك وتعالى، فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا مكتلاً مخيطاً، فإذا هو جبن رطب) في هذا المكتل المخيط، وإذا رطب من أفضل أنواع الرطب فأكلوا، (فقال بعض القوم: لو كان عسلاً! فقال ابن المنكدر : إن الذي أطعمكم جنباً رطباً هاهنا قادر على أن يطعمكم عسلاً؛ فاستطعموه، فدعوا فساروا قليلاً فوجدوا ظرف عسل على الطريق، فنزلوا وأكلوا] ).
  17. بيان الأصل في الدعاء

    ونلاحظ -وهذا يجب أن ننبه إليه- أن الأصل والأساس في الدعاء هو الاضطرار والافتقار، فالإنسان عندما يدعو وهو جالس منعم ومرفه فإنه يؤجر إن شاء الله على ذلك، والدعاء لا يترك على أية حال، لكن ذلك ليس كدعائه في حال الاضطرار والافتقار والضنك، كما دعا يونس عليه السلام، فلا ملجأ من الله إلا إليه، وتنقطع الحيل، وتنقطع السبل، وليس هناك منقذ، ولا مخلص، ولا منجا إلا أن يضرع إلى الله، ففي هذه الحالة يكون ذلك أرجى للقبول، وكذلك الانقطاع في مكان خال، وفي برية من البراري لا شيء فيها، وضياع الدابة بما فيها، مثل ذلك الرجل أيضاً الذي أضاع دابته، فهذه حالات اضطرار؛ ولهذا يقول تعالى: (( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ))[النمل:62]، فالمضطر يدعو الله سبحانه وتعالى دعاء خالصاً بعبودية صادقة؛ لأنه قد انقطعت به الحيل، ولم يبق له ملاذ إلا الله تبارك وتعالى.
    فلذلك مما يجب أن يعلم -ونحن إن شاء الله تعالى في باب آت سنذكر الدعاء، وشروطه، وآدابه، وأن من أعظم مظان وأسباب إجابة الدعاء أن يكون عن اضطرار وافتقار، وشدة حاجة وكرب.
  18. استجابة الله تعالى لدعاء حبيب العجمي

    قال: (وكان حبيب العجمي أبو محمد معروفاً بإجابة الدعوة، فمر يوماً فوجد غلاماً طفلاً أقرع الرأس، أي: ليس عليه شعر، فجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام) أي: أنه رثى له، وأشفق عليه، وحنا عليه لما رآه بين الأطفال وهو أقرع، والكل يزدريه ويحتقره، وينظر إليه نظرة لا ترضي ذلك الطفل، فأخذ يدعو الله تبارك وتعالى ويبكي؛ ليستمطر ويستنزل رحمة الله، ويمسح رأس الطفل بدموعه، (فما قام عنه حتى أسود رأسه إلا وعاد كأحسن الناس شعراً)، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، فإذا تعامل الناس برحمة الله تبارك وتعالى، وإذا رحموا عباد الله رحمهم الله عز وجل، فالواجب على كل إنسان -وهذا من شيم المؤمن، وهو دليل على الإيمان في قلبه- أن يكون رحيماً عطوفاً شفوقاً على الضعفاء والمساكين، والمنقطعين والمحرومين، والذين لا يجدون من يقوم بشأنهم إلا الله عز وجل.
    (وأتي أيضاً حبيب العجمي برجل زَمِن في محمل)، أي: أنه رجل لا يستطيع الحركة، وقد أتي به محمولاً (فدعا له بأن يعافيه الله عز وجل، فقام الرجل على رجليه، فحمل محمله -أي: الذي جاء محمولاً فيه- على عنقه ورجع إلى عياله) وقد عوفي بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بدعاء هذا العبد الصالح.
    (واشترى في زمن مجاعة طعاماً كثيراً، فتصدق به على المساكين) وهذا أيضاً جانب من جوانب الرحمة، فالراحمون يرحمهم الرحمن، ويكرمهم عز وجل، وهذا أمر مستفيض، فمما يقوي إيمان العبد أن يقول ذلك، فمن يرحم خلق الله عز وجل يرحمه الله، و(من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه من كربات يوم القيامة) ما هو أعظم وأشد.
    فاشترى طعاماً كثيراً ووزعه على الفقراء، (ثم خاط أكيسة فوضعها تحت فراشه، ثم دعا الله تعالى) أي: أنه عاد إلى بيته فخاف من الدين إذا جاءوا ماذا يقول لهم، فصنع أكيسة، ودعا الله تبارك وتعالى، فلما جاء أهل الدين وأتى كل منهم يطلب دينه أخذ تلك الأكيسة (فإذا هي مملوءة دراهم، فوزنها فإذا هي قدر حقوقهم، فدفعها إليهم)، حتى أعطى كل واحد منهم دينه الذي عليه، وهذا من فضل الله عز وجل عليه.
    وكان هناك رجل يعبث به كثيراً، أي: من أهل الأذى، ومن السفهاء الذين لا يعرفون قدر العلم، ولا قدر أهل الخير والفضل، فهذا الرجل جاء يعبث بـحبيب العجمي ويتسفه عليه، فدعا عليه فأصابه البرص، نعوذ بالله.
    يقول: (وكان مرة عند مالك بن دينار ، فجاء رجل فأغلظ لـمالك ؛ من أجل دراهم قسمها مالك).
    أي: أن مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه كان لديه دراهم، فقسمها ووزعها، فجاء هذا الرجل فأغلظ عليه كحال كثير من الخلق، ويقول له: لماذا أعطيت فلاناً؟ ولماذا لم تعط فلاناً؟ وأنا لم تعطني؟ مثلاً، فشدد عليه في القول حتى آذاه، (فرفع حبيب العجمي يديه إلى السماء وقال: اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك، فأرحنا منه كيف شئت، فسقط الرجل على وجهه ميتاً) نعوذ بالله.
  19. استجابة الله تعالى لدعاء رجال من السلف في الجهاد

    قال: (وخرج قوم في غزاة في سبيل الله، وكان لبعضهم حمار فمات وارتحل أصحابه، فقام فتوضأ وصلى وقال: اللهم إني خرجت مجاهداً في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، فأحي لي حماري، فقام إلى الحمار فضربه، فقام الحمار ينفض أذنيه، فركبه ولحق أصحابه، ثم باع الحمار بعد ذلك بـالكوفة).
    فهذا أيضاً رجل من الصالحين وقعت له هذه الآية، وهي كتلك الآية التي جعلها الله تبارك وتعالى للرجل: (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ))[البقرة:259]، وهذا الرجل الذي مر اسمه: عزير ، والقرية: بيت المقدس بعد خرابها، ويسمونه خراب أورشليم ، فمر بها وقال: (( قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ))[البقرة:259]، فالله تعالى يريد أن يريه أنه يحيي الموتى سبحانه وتعالى، ثم أراه كيف يحيي الموتى أمام عينه بأن أحيا له حماره، فوقع لهذا الرجل من هذه الأمة كما وقع لذلك.
    قال: (وخرجت سرية في سبيل الله فأصابهم برد شديد حتى كادوا أن يهلكوا) فهؤلاء من عباد الله الصالحين خرجوا إلى الجهاد، وهم من خير الناس، ومن أقرب الناس إجابة للدعاء؛ لأنهم تجردوا عن حظوظ أنفسهم وذواتهم، وخرجوا لله عز وجل، ويريدون وجهه، ويريدون الشهادة في سبيله، فدعاؤهم من أرجى وأفضل أنواع الدعاء، وأكثره قبولاً عند الله عز وجل، فلما اشتد عليهم البرد (دعوا الله تعالى وإلى جانبهم شجرة عظيمة، فإذا هي تلتهب ناراً)، أي: أوقد الله تعالى تلك الشجرة وأشعلها ناراً، (فجففوا ثيابهم، ودفئوا بها حتى طلعت عليهم الشمس فانصرفوا، وردت الشجرة إلى هيئتها).
    فهذه آية من آيات الله جعلها لعباده المؤمنين، وهذا مما يقع ولا غرابة فيه؛ لأن الله تبارك وتعالى كريم، ولأن الله عز وجل يغار على عباده المؤمنين أن يضعف إيمانهم في لحظة من اللحظات، فيفتح الله تعالى لهم من أبواب الخير، ومن أبواب الرجاء، ويعطيهم من هذه الخوارق ما يثبت به إيمانهم.
  20. استجابة الله تعالى لدعاء أبي قلابة

    (وخرج أبو قلابة صائماً حاجاً فتقدم أصحابه في يوم صائف فأصابه عطش شديد، فقال: اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر، فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه، وذهب العطش عنه، فنزل فحوض حياضاً للماء فملأها) وهو متقدم عن أصحابه، (فلما انتهى إليه أصحابه فشربوا، وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء).
    أي: أن المطر جاء على قدره فقط، وله فقط، وهذه آية من آيات الله تبارك وتعالى.