المادة    
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمْع العبد وبصره) أي: استشكل ذلك بعض الشراح، وقد أتضح لنا أن المعنى صحيح -وهو الذي تؤيده الروايات وإن كان فيها ضعف- فبي يسمع، وبي يبصر، والراوية أخرى رواية أنس التي ذكرها أيضاً قال: ( ومن أحببته كنت له سمعاً، وبصراً، ويداً، ومؤيداً )، فالمقصود التأييد والنصرة والتوفيق والتسديد، فتصبح جوارحه لا تنبعث إلا بطاعتي، ولا تتحرك إلا لي وبي، هذا هو المعنى وغيرهم استشكله.
  1. المذهب الأول: مجيء الحديث على سبيل التمثيل

    فقال بعضهم: جاء الحديث على سبيل التمثيل، والمعنى: (كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي، ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح) أي: أن معناه عندهم: كما أنك أنت تحب سمعك، وتحب بصرك، وتحب يدك؛ فهذا العبد الصالح يحب الله عز وجل كما يحب جوارحه، ويحب طاعة الله كما يحب جوارحه.
  2. المذهب الثاني: شغل كليته بالله تعالى وبما يرضيه

    الثاني: أن المعنى: (كُلِّيّته مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به) وهذا قريب من المعنى الذي ذكرنا أنه الصحيح.
  3. المذهب الثالث: إعطاء الله للعبد مطالبه ومقاصده

    المعنى الثالث: (أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره) أي: أعطيه مطالبه، ومقاصده، فالمقصود من السمع: أن تسمع شيئاً، وتستخدمه في جلب منافعك، والبصر: أن ترى به، فتعيش فتكون بك مصالح ومنافع؛ لأن الإنسان إذا منع منه السمع والبصر واليد أصبح لا شيء، فلا يستطيع أن يستفيد من هذه الحياة، لكن إذا أعطاه الله تعالى السمع، وأعطاه البصر، وأعطاه اليدين، وأعطاه هذه الجوارح، فكأن المقاصد والمنافع التي ينالها بهذه الجوارح هو الذي ينيله ويعطيه إياها.
  4. القول الخامس: تقدير مضاف وهو (حافظ)

    (وخامسها: قال الفاكهاني -وسبقه إلى معناه ابن هبيرة -: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير: كنت حافظ سمعه، وحافظ بصره كذلك)، وحافظ يده، وحافظ رجله، فيصير المعنى: أني أحفظ هذه الجوارح له، فإذا أحببته حفظت جوارحه.
  5. القول السادس: التوفيق لخير الأعمال

    السادس: (قال الفاكهاني : يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو: أن يكون معنى سمعه: مسموعه، وذكر بعض الدلائل اللغوية على ذلك، يقول: فمعنى ذلك: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك).
    وهذا قريب من المعنى الذي ذكره ابن رجب ، والذي ذكرنا أنه المعنى الراجح.
    يقول: وقال الطوفي : اتفق العلماء ممن يعتد بقوله: أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد، وتأييده، وإعانته، حتى كأنه سبحانه يتزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: ( فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ).
  6. المجاز والكناية والفرق بينهما

    وهناك فرق بين المجاز والكناية، فمثلاً قوله تعالى: (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ))[يوسف:82] فهو مجاز على قول أهل البلاغة، والصحيح الذي نرجحه نحن: أنه لا مجاز مطلقاً.
    وأما الكناية فمثل قول الخنساء :
    طويل العماد عظيم الرما            د ساد عشيرته أمردا
    فالعرب إذا أرادت أن تصف أحداً بالكرم قالت: فلان كثير الرماد، أي: هو كثير الضيوف، وكثير الإكرام، ومن كثرة إكرامه وكثرة ضيوفه يطبخ كثيراً، ويوقد الحطب كثيراً، فيكثر أيضاً رماده، فهم يجعلون هذا كناية عن الكرم.
    وأما المجاز عند أهل المجاز فمثاله: إذا ذهبت إلى رجل كريم قلت ذهبت إلى البحر، أو: رأيت البحر، أو: أعطاني البحر.
    فهذان الأسلوبان كلاهما مدح، فالكناية لا يمتنع أن يكون اللفظ فيها حقيقة، فعند العرب الأوائل لو ذهبت إلى مضاربهم وخيامهم فإنك تجد الرماد الكثير، متكوم، وأما البحر فإنك ترى الرجل ولا تجد قطرة ماء ولا ملوحة ولا شيء، هذا هو المقصود فالكناية إذاً لا تمنع الحقيقة بخلاف المجاز فإنه لا يريد الحقيقة.
    ومثال ذلك أيضاً: لو قال أحد: إن استواء الله على العرش كناية عن سعة الملك، والعظمة والسلطان، فليس في هذا نفي للاستواء، فقد يكون استوى، وهو أيضاً واسع العظمة، فالعرش هو أعظم المخلوقات، فمن عدل أهل السنة والجماعة أنهم يفرقون بين قول من يقول في بعض الصفات: إنها مجاز مطلقاً، وبين قول من يقول: إنها كناية، وهذا ليس موضع ذكر الصفات.
    والشاهد: أن الطوفي يقول: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله، وليس هناك اتفاق ولا أي شيء، وإنما المقصود أن المجاز غير ظاهر فهذه المسألة في الظاهر والمقصود بالظاهر.
    ولهذا وضع شيخ الإسلام رحمه الله القاعدة العظيمة في كتابه الإكليل في الظاهر والتأويل في المراد بالظاهر، فبعضهم كثيراً ما يقول: وظاهر هذا الحديث غير مراد فيقول: (إن ذات الله تعالى ليس هي يده، ولا هي بصره، ولا هي سمعه) ومعنى كلامه أن من قال لك: إن هذا هو الظاهر أنت فهمت هذا نحن ما نفهم أن هذا هو الظاهر وإنما هذا هو الظاهر في ذهنك أنت فقط، وأما العرب الخلص الفصحاء، أو من وفقهم الله لمعنى الحديث فإنهم لا يفهمون مثل هذا الظاهر الذي فهمته أنت.
    وإلا كما فهم النصارى ، فقالوا: إن الله تعالى يقول (إنا نحن) قالوا: إذاً هذا يدل على ثلاثة أقل الجمع، فنقول هذا غير صحيح فأنتم فهمكم هو الضعيف لأن الرجل الواحد من العرب قد يقول عن نفسه: أنا ويقول أيضاً نحن، فما يلزم هذا.
  7. مدى صحة وجود المجاز في اللغة

    إذاً ليس كل ما يراه الناس ظاهراً هو الظاهر وما عداه مجاز هذا هو المقصود، ولذلك (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ))[يوسف:82] ليس فيها مجاز؛ لأن القرية تطلق على أهل القرية وهم السكان، وتطلق على البيوت المسكونة، فإن مررنا على بيوت خراب لا سكان فيها فإننا نقول: مررنا على قرية ونسكت؛ لأن المستمع يفهم أنك مررت على أناس، فلابد أن تقول: خربة، كما قال تعالى: (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ))[البقرة:259]، فإذا لم يقل الله عز وجل: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) فإننا نفهم أنها قرية فيها أناس.
    إذاً: فليس هناك مجاز ولا شيء، وإنما الأمر -كما قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله- أسلوب عظيم من أساليب العرب في الفصاحة والتعبير، وما قعده المعتزلة وأشباههم من أن هذا مجاز، وهذا استعارة؛ فكله مردود عليهم، فهذه الآيات ليس فيها مجاز، فإن أطلقنا القرية على المساكن، أو أطلقنا القرية على أهل القرية فكلا المعنيين صحيح، ولكل منهما في موضعه نكتة بلاغية ليس هذا موضع تفصيلها.
    قال الحافظ رحمه الله: (وقال الخطابي : هذه أمثال، والمعنى: توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء) أي: أنه يوفق في أعماله، وتيسير له المحبة فيها؛ وذلك بأن يحفظ عليه جوارحه ويعصمه عن مواقعة ما يكره سبحانه من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله.
    فمعناه: أن الله يحفظه، أي: كنت حافظه، وهذا قريب من القول الذي فيه تقدير المضاف.
    قال: (وإلى هذا نحا الداودي ، ومثله الكلاباذي ، وعبر بقوله: أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي؛ لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه).
  8. القول الرابع: النصرة والمعاونة

    (رابعها: كنت له في النصرة كسمعه، وبصره، ويده، ورجله؛ في المعاونة على عدوه). يعني: أنا أنصره كما تنصره وتؤيده أعضاؤه، أي: كما يبطش بيده فتنفعل لذلك؛ فأنا أؤيده، فلو دعاني وأراد أن أبطش بعدوه فأنا أحقق له ذلك.
  9. القول السابع: كناية عن سرعة إجابة الدعاء له

    القول السابع: (قال الخطابي أيضاً: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء له، والنجح في الطلب، وذلك أن مساع الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة) أي: تكون بالسمع واليد والرجل، فيحقق الله تعالى له ذلك كله وكأنما جوارحه هي التي تعمل.
    يقول: (وقال بعضهم -وهو منتزع مما تقدم-: لا تتحرك له جارحة إلا في الله، ولله، فهي كلها تعمل بالحق للحق) وهذا كما تقدم.
    (وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي) و الحيرة في جنوب العراق ، وأما الجيزة فهي في مصر وهو أحد أئمة الصوفية ، قال معناه: (كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع، وعينه في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي).
  10. القول الثامن: أن معناه الفناء والمحو

    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: بعد أن ذكر هذه الأقوال: (وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو) وهنا بدأنا ندخل في المشكلات التي أتى بها هؤلاء، فبعضهم صرح بالحلول والاتحاد كما أشار الحافظ ابن رجب رحمه الله، والبعض دون ذلك فلا يقول بالحلول والاتحاد، ولكنه يقول بالفناء، فكأنه فني عن نفسه، فأصبحت أعضاؤه لا تنفعل إلا في طاعة الله، ولا تفعل إلا ما يرضي الله فهو قد فني عن نفسه.
  11. معنى الفناء وحكمه

    والإشكال هنا يأتي من أن الإنسان لو فنيت إرادته فعلاً، ولكن أعضاءه لا تعمل إلا في طاعة الله؛ فهل يكون هذا له من الأجر والفضيلة مثل أجر الذي يعمل الطاعات بإرادته؟
    الجواب: لا، لكنهم يظنون أن هذا غاية أو أنه مرتبة زائدة، وهذا ليس بصحيح، وقد قال بعضهم:
    أصبحت منفعلاً لما يختاره             مني ففعلي كله طاعات
    وعلى قول من يؤوله فإنه يقول: المقصود: أن إرادته لا تأثير لها، ولذلك لما سئل الجنيد : [ما الإرادة؟ قال: ترك الإرادة، قالوا: وما هي الحيلة؟ قال: ترك الحيلة]، فكيف يترك الإنسان إرادته؟! قالوا: يفنى، بحيث إن الأعضاء والجوارح تتحرك، ولكن ليس له فيها إرادة، فنقول: إذا كان كذلك فقد جن، أو خبل، أو مرض، أو فيه حالة من الحالات غير الطبيبعية، ولنفرض أنه ليس بجنون ولا مرض، وقرأ القرآن مثلا فاشتدت عليه معاني هذه الآيات العظيمة حتى أصبح يتحرك ويتصرف ولا يدري عن نفسه؛ فإننا نقول: إن هذا الرجل غاية ما يقال عنه: إنه معذور، وأفضل منه المأجور، وهو من كان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقد كانوا يبكون ويخشعون، لكن بإرادتهم، ففعل هؤلاء مرتبته أقل من مرتبة النبي وصحابته، فهم في أعلى الدرجات في كل خير وفضل، ولا يشك في ذلك عاقل.
    وكثير من الناس يتصورون أن الذي يسمع الآية فيغمى عليه أن حاله أفضل من ذلك الذي يسمعها فيكون قلبه كالمرجل الذي يغلي، وهذا غير صحيح، فالآخر أفضل، فقوة التأثر عندك مثل قوة التأثر عند الآخر؛ ولكنه ملك نفسه ولم يسقط، فهو أقوى عزيمة، وأقوى إرادة.
    فـالصوفية يقولون: إن مقام الفناء والمحو هو الغاية، وليس وراءه عندهم غاية، وهو أن يكون قائماً بإقامة الله له، محباً بمحبته له، ناظراً بنظره له؛ من غير أن تبقى معه بقية تناط باسم، أو تقف على رسم، أو تتعلق بأمر، أو توصف بوصف. وهذا الكلام الأخير فيه عدة مشاكل، والأول كان قريباً من كلام السلف، لكن أن يفني نفسه، ويفني رسمه، ويفني ذاته؛ فلا يمكن هذا، ولو حصل ذلك -وإن أطاع- فهو ليس في درجة من أطاع بكامل إرادته.
  12. القول التاسع: قول أهل الحلول والاتحاد

    التاسع: قال ابن حجر رحمه الله: (وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفني نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد لنفسه، المحب لنفسه).
    فهذا هو حال أهل الحلول والاتحاد، وهذا القول زندقة وكفر والعياذ بالله، وهو مأخوذ من عباد الهند الذي يرون أن الإنسان في هذه الدنيا يجب عليه أن يصفي نفسه، ويخلص الجوهر، فيقولون: إن الإنسان مكون من جوهر وهذا البدن، فيصفي الجوهر -وهي الروح- بتعذيب البدن، فإذا صفيت من الكدورات فإنها تتحد بالإله، ويصبح -كما قالوا- إن ذكر فالذاكر هو الله، وإن نطق فالناطق هو الله، وإن تكلم فالمتكلم هو الله، ولهذا قال بعضهم: سبحاني سبحاني! ما أعظم شأني. عياذاً بالله تبارك وتعالى من هذا الكفر.
    وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله، وهذا هو الكفر الصريح الذي ليس من دين الإسلام في شيء.
  13. الرد على أهل الحلول والاتحاد

    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ، ولا القائلين بالوحدة المطلقة؛ لقوله في بقية الحديث: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن أستعاذني.. ) ، فإنه كالصريح في الرد عليهم) يعني: أنه ذكر سائلاً ومسئولاً، ومستعيذاً ومستعاذاً به، إذاً فكيف يكون هذا هو هذا! تعالى الله عن ذلك، فهذا لا يصح مطلقاً.
    هذه هي جملة الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وبين بعضها تقارب وتداخل، وبعضها ضلال، كما قلنا فيما ينسب إلى الصوفية ، والبعض الآخر كفر، وهو: ما ينسب إلى الاتحادية .