المادة    
  1. موافقة الشارع في اللفظ والمعنى في إطلاق الإيمان والشرك على الفرد في آن واحد

    يقول: (وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع) يريد الشيخ بهذا الكلام ما تقدم من كلام مرجئة الفقهاء ليس الأشاعرة ، إذ إن الأشاعرة من المرجئة الغلاة ، لكن ما تقدم في موضوع الخلاف بين عامة أهل السنة والجماعة وبين المرجئة الفقهاء ، هل هو لفظي مطلقاً أو معنوي مطلقاً، أو لفظي من وجه ومعنوي من وجه؟ هذا قد تقدم، يقول: (كما تقدم في الإيمان، ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده) أي: مع وجود هذا الخلاف، أو مع القول بأن -فرضاً- الخلاف لفظي صوري من كل الوجوه، فإنه ينبغي لنا أن نوافق الشرع في اللفظ والمعنى، وعلى هذا نكون مع جمهور السلف، يقول الشيخ مستدلاً على هذا بقوله تعالى: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))[يوسف:106]، فأثبت لهم الخلتين معاً: الإيمان، والشرك، فهم من جهة يؤمنون بأن الله تعالى هو الإله والخالق والرازق وما أشبه ذلك، ومع ذلك يشركون، كنحو قولهم: لولا الله وفلان، وما شاء الله وشئت، ولولا البط في الدار لدخل اللصوص وما أشبه ذلك، ولذلك قل من يسلم وينجو من الشرك إلا من وفقه الله، وتحرز منه ظاهراً وباطناً.
  2. منزلة الإسلام من الإيمان

    قال رحمه الله تعالى: (وقال تعالى: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين)، إذ إن هذه الآية ليست في المنافقين؛ لأنه كما تقدم القول بأن من أهل السنة من يقول: إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، وعلى هذا قالوا: إن هذه الآية في المنافقين، والإمام البخاري رحمه الله جعل عنوان الباب في هذه الآية: (باب: إذا كان الإسلام على الاستسلام وليس على الحقيقة). فجعله مجرد استسلام، وكأن قولهم: (أسلمنا) أي: استسلمنا فقط، وليس على حقيقة الإسلام؛ لأن حقيقة الإسلام عنده هي حقيقة الإيمان، إذ لا فرق بينهما عنده، لكن هذا القول مرجوح، والقول الراجح الذي عليه عامة السلف وأهل السنة والجماعة : أن الإسلام مرتبة ودرجة دون الإيمان، وعليه فإنه يصح أن تنفي عن أحد الإيمان وتثبت له الإسلام، وعلى هذا جاءت الآية، وهي دليل على ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا ))[الحجرات:14]، فالدعوى التي ادعوها هي: دعوى الإيمان، ثم قال: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ))[الحجرات:14]، فنفى عنهم الإيمان، ثم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يقولوا فقال: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، ثم أوضح ذلك بقوله: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14]، فدل على أن الإيمان مرتبة ودرجة أعلى، وأنهم إن ثبتوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وازداد إيمانهم، فإنهم سيصلون إلى مرتبة الإيمان بإذن الله، ولهذا قال: و(لما)، وهي تختلف عن: (لم)؛ لأن (لم) للنفي المطلق، فهي تدخل على الفعل المضارع فتجعل معناه ماضياً، فإذا قلت: لم يقم زيد، فكأنك قلت: ما قام زيد فجعلت معناه ماضياً، أما إذا قلت: لما يقم زيد، فالمضارع على بابه، والقيام قريب يوشك أن يقع.
    إذاً هو أثبت لهم الإسلام ويوشك أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وعلى هذا ليسوا بمنافقين، وبالتالي قد لا يكون في الآية شاهد إلا على القول الآخر، أي: أنه يجتمع النفاق والإيمان، لكن الحديث صريح في هذا: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة -خصلة- منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها )، فإذا تركها فإنه يرجع إلى استكمال وصف الإيمان، وينتفي عنه وصف النفاق، إذاً هو من جهة مؤمن باعتبار إيمانه بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، ومنافق من جهة قيام هذه الشعبة به، ولذلك قال: ( إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر )، وفي رواية: ( وإذا اؤتمن خان ) فذكر هذه الصفات وهي في الأخلاق، وفي المعاملة، ولا يمكن لمؤمن على الحقيقة أن تجتمع فيه هذه الخلال، وأن يستديمها، وأن تصبح خلقاً له، أي: أنه قد يخلف الوعد مرة، أو يكذب مرة، أو يخون مرة، وهذا وارد في البشر، لكن أن يتطبع بها العبد فتكون فيه هذه الأربع الخصال؛ فإنه والعياذ بالله منافق تمحض قلبه للنفاق، بغض النظر أنه بهذا التمحض قد خرج من الملة أو لم يخرج، إذ ليس المقصود من هذا الحديث بيان ذلك؛ لأن هذه أصلاً من الأمور التي ليست مما يجري به الحكم الظاهر، وإنما هي أمر باطن، والأمور الباطنة علمها عند الله، ومن الصعب لو أردت أن تحكم ظاهراً أن تجزم بأن هذا الإنسان متطبع بهذه الطباع الأربع في كل أخلاقه وأعماله وأقواله، ولذلك يعد من كان هذا شأنه من المنافقين، والمنافقون يأخذون في الدنيا أحكام من كان في دار الإسلام ممن يظهر الإسلام، ولذلك نقول: الشاهد من هذا: أنه يمكن أن يكون في الإنسان ما يوالي وما يعادي معاً، فهذا الذي فيه هذه الخصلة نواليه من جهة أنه مؤمن، ولكن نبغضه ونعاديه من جهة أن فيه هذه الخصلة، وليس معنى العداوة: المقاتلة مثلاً أو التشهير، وإنما المقصود أن هناك جانباً مقابلاً للجانب الآخر، فهنا جانب محبة يقابله جانب بغض، أي: لا تعطيه المحبة والولاء والحقوق الكاملة التي هي حق للمسلم على أخيه؛ لأن هذه الخلة أو هذه الخصلة عائق عن تحقيق الكمال له، فإذا كانت فيه إحدى هذه الخصال أو إحدى هذه الخلال؛ فإن حقه عليك ينقص بمقدار ذلك، حتى لو أنك رأيت أن من أدام هذه الخصلة أو نحوها، فقد ترى مثلاً أنك لا تبدأه بسلام إذا كان ذلك أدعى للحكمة ولمصلحته، وأن ينزجر ويكف عما هو عليه، أو لا تحسن إليه بعض الإحسان الذي تحسن به إلى غيره من المسلمين، أو إن مرض لا تعوده، أو إن مات لا تشهد جنازته -المهم الحقوق التي جعلها الشرع- كل هذا بسبب الخصلة الموجودة فيه؛ فإن هذا جائر، وأنت في حل من أن تلتزم له بحق المسلم على المسلم، فإذاً من جهة تحبه ومن جهة تبغضه، من جهة تعطيه بعض الحقوق ومن جهة تمنع عنه بعض حقه، وهذا من مقتضى العدل والإحسان الذي أمر الله به في كل شيء، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء -حتى في أشد الأمور إيلاماً- فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة )، وهي إيلام، وهي غاية ما يمكن أن يقع بالحيوان من الألم، ومع ذلك أُمر الإنسان أن يحد شفرته فقال: ( وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته )، وعليه فالعدل مأمور به ومطلوب في كل شيء، ومن العدل أن لا تعامل من فيه خصلة من هذه الخصال معاملة الذي لا ولاية له مطلقاً، أو أن تعامله معاملة المؤمن الطاهر التقي النقي الذي يخلو من هذه الصفات المذمومة.
  3. معاملة المؤمن بقدر ما فيه من شعب الإيمان

    قال رحمه الله: (وحديث: شعب الإيمان تقدم) ذكره الشيخ ابن تيمية رحمه الله، وهنا اختصر أو أشار إليه بـ: تقدم، والحديث هو الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، كما اختلفت الروايتان في الصحيحين ، وليس من شرط المؤمن أن تجتمع فيه كل هذه الخصال، كما أنه ليس من شرط المنافق أن يخلو من كل هذه الخصال، والعدل أن تعامله بمقدار ما ترى فيه من شعب الإيمان، فبمقدار ما تزداد لديه تزداد محبتك وولايتك له، وهو أيضاً عند الله سبحانه وتعالى تكون ولايته وقربه منه بمقدار ازدياد هذه الشعب عنده، وشعب الإيمان يمكن أن نوجزها في ثلاث -وقد مر معنا الحديث الذي يدل على أن شعب الإيمان ثلاث- الأركان، والواجبات، والمستحبات.
    فالركن: شهادة أن لا إله إلا الله، والواجب: الحياء، والمستحب: إماطة الأذى عن الطريق.
    وعليه فكل شعب الدين لا تخرج عن هذا، فبمقدار ما يفعل من هذه الشعب تكون ولايته كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه )، وهذا أول شيء من الواجبات والأركان التي يأتي بها العبد، قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ).
    وهذه هي الدرجة الأعلى، وهي من اكتملت لديه درجة أو مرتبة الإيمان أو الإسلام، بأن أضاف أو ضم إلى امتثال الفرائض فعل النوافل، وتقرب إلى الله بها، والحديث أيضاً يدل على أن الإنسان تكون فيه الولاية لله، أو العداوة التي هي المعصية والفسق والفجور بمقدار ما فيه من الشعب، والصوفية عندهم إذا كان الرجل من الأولياء فإن معنى ذلك أنه لا معصية لديه، بل حتى لو رأوه لو قالوا: فلان ولي، ثم رأوه يرتكب أي فاحشة أو معصية لتأولوها بأي طريقة كانت، أو ربما خوطب أو كوشف بذلك، أو ربما تكون هذه الخمر خمر في الظاهر، لكن في الحقيقة يبدلها الله له شيئاً آخر! فما يدريك يا مسكين؟! فأنت من أهل الظاهر، ومن أهل الغفلة المحجوبين إلى آخر هذا الكلام والعياذ بالله، وبالتالي يتأولون عمل هؤلاء المجرمين الضالين، ولا يقولون: إن هذا قد حرمه الله، بل يعملون بالتأويل ولا يعملون بالنص الصريح الواضح؛ لأنهم قرروا قاعدة مطلقة وهي: ما دام أنه ولي فلا يمكن أن يرتكب شيئاً من ذلك، وزاد بعضهم بأن ظن أن الولي لا يخطئ حتى في النظر والاجتهاد، ولذلك من العجب أنهم أصبحوا يقرنون في العقائد أرباب الكشف مع أرباب النظر والبحث، فيقولون مثلاً: قالت المعتزلة كذا واستدلت بكذا، وقالت: الخوارج كذا واستدلت بكذا، وقالت أهل السنة في العقيدة الفلانية كذا ودليلهم كذا، وقال أرباب الكشف كذا فصار شيئاً آخراً، وكأن له مصدراً آخر غير الأدلة، وغير النصوص التي يستدل بها من يسمونهم أهل الظاهر، أي: جملة طوائف وفرق الأمة الأخرى، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) هذا من أحاديث الشفاعة، وهو يدل على أن الإنسان قد يقل إيمانه إلى حد أنه لا يكون لديه إلا مثقال ذرة أو أدنى مثقال ذرة من إيمان، وقد يرقى فيكون إيمانه بحيث لو وزن بإيمان الأمة كلها لرجح بهم كما هو إيمان أبي بكر رضي الله عنه، فهكذا يتفاضل الناس في هذا تفاضلاً عظيماً، فليست ولاية الله تعالى لهذا أو ولايته لله كولاية الآخر.
    يقول: (فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك) أي: إن كثر ما لديه من نفاق وفجور ومعصية وضلال طال عذابه، قال: ثم يخرج من النار، وإن قل أو يعفو الله تعالى كما قال الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].
  4. شعب الإيمان وشعب الكفر

    يقول: فـ الطاعات من شعب الإيمان -كما في حديث الشعب- والمعاصي من شعب الكفر، وإن شئت فقل: فالإيمان شعب، أولى من قولنا: الطاعات من شعب الإيمان؛ لأن موافقة النص النبوي في اللفظ والمعنى أولى: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة.. )، وكذلك الكفر يكون شعباً، ومن شعبه المعاصي، ونحن نقول هذا احترازاً من أن يفهم أحد أن الإيمان شيء، وشعب الإيمان شي آخر، إذ إن ذلك مذهب المرجئة ، فهم يتخيلون أن الإيمان شيء، وشعب الإيمان شيء آخر، وأن الإسلام شيء، وشرائع الإسلام شيء آخر، فيقولون مثلاً في حديث جبريل عندما سأله عن الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، أنه إنما سأله عن شرائعه وعن حقيقة الإسلام، فلذلك يجعلون الإيمان والإسلام في المعنى شيئاً واحداً، فيجعلون هذه الأركان شرائع، ونحن ننبه إلى هذا لأن العبارات والألفاظ الشرعية دائماً هي الأصح والأقوم، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على الالتزام بها ما استطعنا، فنقول: إن الطاعات هي شعب الإيمان، وكذلك المعاصي هي شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، أي: أن الكفر ليس شيئاً واحداً كما يرى المرجئة ، إذ إنه عندهم هو الجحود فقط، فإذا ارتكب أحد الكفر قالوا: هل هو جاحد؟ هل هو مستحل أو غير مستحل؟ مع أن هذا ليس مذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأن الكفر عند أهل السنة والجماعة كما هو في القرآن وفي السنة أنواع: كفر الإباء، والاستكبار، والإعراض، والشك والريب، والجحود، والإنكار، والاستهزاء، وقد يكون الكفر عملياً يدخل تحته صور كثيرة منها: كفر الظن.
    وعليه فـ لا يشترط أن يكون الكافر جاحداً، بل قد يكون مقراً لكنه مستهزئ أو معرض أو مستحل، وكل هذا ممكن، وأعظم أنواع الكفر في الدنيا هو كفر إبليس، ولم يكن كفر إبليس من نوع الجحود؛ فإنه لم يجحد أمراً أمره الله به، وإنما كما ذكر الله تعالى أبى واستكبر واعترض على الأمر وعاند بقوله: (( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12]، وقوله: (( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ))[الإسراء:61].
    وبالتالي فالاعتراض على حكم الله، وإن كان المعترض مقراً بأن هذا هو حكم الله، أو أمر الله، هو نوع من أنواع الكفر والعياذ بالله، وكذلك الاستهزاء بدين الله، فقد يأتيك شخص ما أنكر أو جحد أن القرآن كلام الله، لكنه يستهزئ به، فإن ذلك كفر، ولا نقول: هل أنت مقر أو غير مقر؟! إذ إن الاستهزاء كفر برأسه، ولنا أن نسأله: هل أنت عامد أو غير عامد؟ جاهل أو غير جاهل؟ وعليه فهو ما كفر كفر جحود وإنما كفر كفر استهزاء، وهذا باب آخر، ولو جعلنا الكفر كله محصوراً في الجحود لخالفنا عقيدة أهل السنة والجماعة في أن الكفر أنواع، مع أن الجحود أو التكذيب هو الأصل، ولا بأس بأن يقال ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى نسب إلى الأمم جميعاً تكذيبهم لرسلهم، لقوم نوح وعاد ولوط، وليست بالضرورة أن يكون مقابلها التصديق، لكن في الواقع هناك تلازم بين التكذيب والاستهزاء أو الإعراض أو الرد؛ لأن من رد فهو مكذب، لكن ليس شرطاً أن نفسر ذلك بالتكذيب المعروف المصطلح عليه الذي يعبر عنه أحياناً بالجحود، وإنما التكذيب في الحقيقة أعم من ذلك، فإن كل من أنكره أو أباه أو أعرض عنه فهو في الحقيقة مكذب، والكفر ملة واحدة، أي: أن أهل الكفر على دين واحد، ولا يعني هذا أن الكفر ليس أنواعاً، لكن هو كفر كله، فلا نفرق بين من كفر استهزاء أو كفر جحوداً، إذ إن كلهم كفار عند أهل السنة والجماعة ، وكذلك إذا كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو بوذياً أو هندوسياً فكلهم كفار، وهذا في التعامل له تفصيل.
    فبعض العلماء يرى أن الكفر ملة واحدة، ومعنى ذلك أنه لا فرق بين أهل الكتاب وغيرهم، وبعض العلماء يفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من أحكام أهل الذمة والجزية، والإقرار على الدين، ونحو ذلك -أمور تفصيلية- من أحكام الفروع، لكن الأصل العقدي أن الكفر ملة واحدة، وأنهم كلهم كفار.
    قال: ورأس شعب الإيمان التصديق، وذلك كما قلنا في الكفر: أنه لا يمكن أن يكون أحد مؤمناً أو مسلماً إلا بأن يصدق، والعمل أو أنواع الإيمان الأخرى -شعب الإيمان- أو فروع الإيمان الأخرى هي تبع لهذا التصديق، ولهذا سواء على الإنسان الذي يدخل في الإسلام كما نجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: أسلمت أو صدقت أو أقررت أو اتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم أو دخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك، فهي من الألفاظ الشرعية المترادفة بهذا المعنى، وليس بالمعنى الاصطلاحي الدقيق.
  5. اجتماع الولاية والعداوة في المؤمن

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المؤلف رحمه الله: (ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع كما تقدم في الإيمان، ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))[يوسف:106]، وقال تعالى: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] الآية -وقد تقدم الكلام على هذه الآية- وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر )، وفي رواية: ( إذا اؤتمن خان ) بدل: ( وإذا وعد أخلف )، أخرجاه في الصحيحين ، وحديث: (شعب الإيمان) تقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ).
    فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار.
    فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق.
    وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه )، فلا أصل له، وهو كلام باطل، فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق.
    وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:62-64] الآية.
    والتقوى: هي المذكورة في قوله تعالى: (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ))[البقرة:177]، إلى قوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[البقرة:177]).
    بعد أن تبين لنا حقيقة الولاية، وأنها من الأسماء التي تطلق في الشرع على عامة المؤمنين، فهي مثل: التقوى والهدى والبر والصلاح فتطلق على عامة المؤمنين من غير أن تميز بها فئة أو طائفة مخصوصة بأسماء وألقاب ونعوت كما فعل الصوفية ، فبعد أن أتضح هذا يظهر ويتضح بناءً عليه ما قاله الشيخ رحمه الله وهو: (أنه يجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه)، أي: أنه قد يجتمع في المؤمن ولاية لله تعالى وللمؤمنين من وجه، وعداوة لله وللمؤمنين من وجه آخر، وبالتالي يلزمنا أن نعطيه الولاية من وجه والعداوة من وجه آخر، وهذه قاعدة مهمة في التعامل مع المؤمنين، أما أن توالي الإنسان موالاة مطلقة في كل شيء، أو تعاديه عداوة مطلقة، فهذا هو الذي فهمه الخوارج ، ومعلوم ما ورد فيهم من الذم، وقريب منه وإن كان بمنحى آخر: الشيعة ، إذ إنهم قالوا: لا بد أن توالي المسلم كامل الإيمان الذي لا ترى عليه أي معصية، فإذا ما ارتكب ذنباً أو كبيرة أو خطئاً من وجهة نظرك فإنه يعادى عداوة مطلقة، ولهذا صدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم: ( يحاربون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان )، فأكثر ما يعادون ويحاربون أهل الإسلام؛ لأنهم في نظرهم ارتكبوا كبائر فأخرجوهم من الولاية مطلقاً، وأعطوهم العداوة مطلقاً، وهذا لا يصح ولا يجوز، وهو مبني على أن الإيمان عندهم لا يتبعض ولا يتجزأ، فهذا من فروع تلك، فلما كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة يتبعض ويتجزأ فيكون في الرجل شعبة من الإيمان، ويكون فيه شعبة من النفاق أو من المعاصي، فكذلك الولاية تتبعض، وكذلك الهدى والصلاح والبر، وهكذا كل هذه الألفاظ الشرعية، فيكون في الرجل شعبة من الهدى، شعبة من البر، شعبة من الخير، شعبة من الصلاح، شعبة من التقوى، كأن يكون مجاهداً في سبيل الله، أو عابداً ذاكراً لله محافظاً على فرائض الله، مرابطاً لأدائها في بيوت الله، ومع ذلك فيه بغي أو ظلم أو حسد أو أكل لأموال الناس أو ما أشبه ذلك، أو العكس، فقد يكون الرجل -وهذا مشاهد في الأمة كثير جداً- مهملاً في صلاته، مؤخراً لها، لكنه متصدق، غيور على الدين، محب لأهل الخير والصلاح عن عاطفة وعن غيرة، أما هو في ذاته فهو ضعيف التمسك بما يجب أن يكون عليه المؤمن، فهل هذا يعادى مطلقاً أم يوالى مطلقاً؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما يعادى بقدر ما فيه، ويوالى بقدر ما فيه، ومن هنا يجتمع في الإنسان الواحد الولاية من وجه والعداوة من وجه.
    ولذلك كما قال الشيخ: (قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان)، وليس المقصود من الكفر أو الشرك أو النفاق: الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر المخرج من الملة؛ لأنه لو كان هذا الرجل خارجاً عن الملة، أو كان كفره وشركه ونفاقه مخرجاً له من الملة؛ فإنه لا ولاية له بوجه من الوجوه، لكن الكلام في اجتماع الشرك أو الكفر أو النفاق الذي لا يخرج صاحبه من الدين، وقد سبق أن بينا أنواع ذلك، مع ذكر بعض الأحاديث والأدلة في ذلك، وطائفة منها مذكورة هنا في موضوع إطلاق الكفر أو تسمية بعض الذنوب والمعاصي كفراً، وإن كانت ليست الكفر الأكبر المخرج من الملة، ومنها: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )، وقوله تعالى: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44]، وذلك في حالة القاضي المسلم الملتزم بشرع الله إذا خرج عن حكم الله، وليس فيمن لا يؤمن بشرع الله ولا يحكم به ابتداءً كما فصلنا، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، أي: كفر العشير، وقوله: ( من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فقد كفر )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثنتان في الناس هما بهم كفر... )، والأدلة كثيرة.
    وأصل هذا الكلام الموجود في الشرح أخذه الشيخ رحمه الله من كلام شيخ الإسلام في رسالة الفرقان، إذ إنه قد ذكر رحمه الله كلاماً طويلاً في هذا، وذكرنا بعضاً منه سابقاً، وهذه الرسالة حبذا لو يعتنى بها أكثر من ذلك؛ لأن موضوعاتها غير مرتبة، إذ إن الشيخ رحمه الله كان يكتب فتنساق له المعلومات انسياقاً، فذكر عصمة الولي وذكر كلام الصوفية ، كما ذكر في مجموع الفتاوى الجزء الحادي عشر، فقال رحمه الله: ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق.
    فالشارح هنا أخذ هذا الكلام من كلام شيخ الإسلام، فيقول: (ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق) كما جاء في الصحيحين ، وذكر الحديث الذي ذكره الشيخ هنا: ( أربع من كن فيه... )، ثم قال: ( الإيمان بضع وستون.. )، ثم قال: وثبت في الصحيح عنه أنه قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية... )، أيضاً هناك زيادة لفظة وهي: أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من الجاهلية، وشعبة من الإيمان أو من الإسلام، وبالتالي نستطيع أن نقول: شعبة من الكفر، أو شعبة من النفاق، أو شعبة من الشرك، أو شعبة من الجاهلية، إلى آخر ما ذكر مما هو مذكور هنا، ثم قال: (وأولياء الله على طبقتين) كما ذكر الشيخ هنا.