المادة    
يقول الشعراني (بيان أن أكبر الأولياء بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم القطب، ثم الأفراد -على خلاف في ذلك- ثم الإمامان، ثم الأوتاد، ثم الأبدال رضي الله تعالى عنهم).
وهذا الكلام يقوله الشعراني في كتاب: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ، كما أنه يقول في مقدمة كتابه: (إنه وجد الناس طائفتين: طائفة أهل المعقول، وطائفة أهل الكشف). فأراد في كتابه هذا أن يجمع بين المذهبين: مذهب العقل، ومذهب الكشف، فألف كتاب: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ، أي: أكابر القوم، فعقد منه هذا المبحث في بيان أن أكبر الأولياء بعد الصحابة هو القطب، فهو استثنى الصحابة حياءً أو استحياءً حتى لا يقال: إنه أكبر أو أفضل من الصحابة، وإلا فمن الأوصاف التي يقولونها: إنه أعظم من كل الأنبياء والملائكة، بل هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على مقام الألوهية، فهي أوصاف لله تبارك وتعالى.
يقول: (ثم الأفراد) على خلاف في ذلك -وبينهم اختلاف وكلها من إملاء ووحي الشياطين- (ثم الإمامان) أي: الأفراد الذين لهم مثل درجة القطب في العلم والمرتبة، لكن القطب لا يكون إلا واحداً، وكأن الإمامان نائبين عن القطب بزعمهم، (ثم الأوتاد) وهم أربعة كما سيذكر، (ثم الأبدال) وهم سبعة، يقول: (فأما القطب فقد ذكر الشيخ في الفتوحات -هذا في الباب الخامس والخمسين ومائتين- أنه لا يتمكن القطب أن يقوم في القطابة إلا بعد أن يحصل معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور، مثل: الم، المص ونحوها، فإذا وقفه الله تعالى على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة وكان أهلاً لها) وابن عربي ممن ادعى أنه عرفها كلها، ويذكر أشياء مما جرى له ووقع، فتأمل كيف علقوا هذه القطبية أو كونه قطباً على معرفة حقائق الحروف المقطعة في أوائل السور، وهذه ليست تحتها حقائق مجهولة أو غريبة كما يزعمون، وإنما نقول: إنها مما استأثر الله تبارك وتعالى بمرادها وعلمها، أو أنها قد ذكرها الله تعالى وهي من جنس الحروف التي نتكلم بها، وغالباً ما يعقب الله تبارك وتعالى بعد ذكر هذه الحروف بوصف القرآن الكريم، فمثلاً: قال تعالى: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ))[البقرة:1-2]، وقوله: (( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ))[إبراهيم:1]، وقوله: (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ))[ق:1]، فيعقب بذكر الكتاب وأوصافه؛ ليبين أن كتابه أنزله بلسان عربي مبين من جنس كلامنا وحروفنا، ومع ذلك لا نستطيع أن نأتي به ولو اجتمعت الجن والأنس على أن يأتوا بمثله، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، فتكون فيها إعجاز، وفيها تحدي للعالمين أن يأتوا بمثل هذا القرآن المركب من هذه الحروف، إلى غير ذلك من الأقوال التي يذكرها العلماء رضي الله تعالى عنهم في كتب التفسير، ولا علاقة لها بهذه الخيالات الباطلة الفاسدة التي يدعيها هؤلاء، والمهم أن هذا شرط عندهم. ‏
  1. علامة القطب عند الشاذلي

    يقول الشعراني: (فإن قلت: ما علامة القطب؛ فإن جماعة في عصرنا قد ادعوا القطبية، وليس معنا علم يرد دعواهم؟) فكلما يظهر رجل يدعي أنه القطب، ويدعي أنه معصوم، فيفعل ما يشاء، ويستحل ما يشاء من المحرمات، ولا يتقيد بأمر ولا نهي، ولا يلتزم بحضور جمعة ولا جماعة ولا قراءة قرآن ولا طلب علم، ومع ذلك يدعي أنه قطب، أو تدعى فيه القطبية، حتى إذا مات بنيت على قبره أكبر القباب، وأخذوا يطوفون ويدعون ويستغيثون، حتى في حياته يطلبون منه المدد والعياذ بالله، فإذا عثر أحدهم أو ضل أو فقد ضالة فإنه لا يستغيث بالله، وإنما يستغيث به، فيقول: (كثر هؤلاء) وفعلاً كثروا كثرة عظيمة في كل مكان، فكيف نعرف القطب من غيره؟
    والجواب أشد من السؤال، قال: (فالجواب: قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه -معنى ذلك أن الشاذلي قطب، وأنه يعرف حقيقة الأقطاب-: إن للقطب خمسة عشر علامة: أن يمد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة وحملة العرش العظيم، ويكشف له عن حقيقة الذات) أي: ذات الله! تعالى الله وتبارك عن ذلك، فهو الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا يحيطون به علماً سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تدرك حقيقته أفهام البشر: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11]، ومع ذلك يقول: (يكشف له عن حقيقة الذات، وإحاطة الصفات) أي: صفات الله سبحانه وتعالى، (ويكرم بكرامة الحلم، وأيضاً بالفضل بين الموجودين، وانفصال الأول، عن الأول ومن فصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه) ومعنى هذا: أن هؤلاء يعتقدون بتوالد المخلوقات كما يدعي ذلك الفلاسفة ، أي: أن كلاً منهم ينفصل عن الآخر، أو ينشأ العقل الأول عن الثاني أو الثالث أو عن الرابع، فيكون من علامته انفصال الأول عن الأول، وأيضاً أن يعلم ما انفصل عنه إلى منتهاه، وما ثبت فيه لم ينفصل كما يبدو، يقول: (يعطي -القطب- حكم ما قبل وما بعد، وحكم ما لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم، ما بدا من السر الأول إلى منتهاه، ثم يعود إليه) والعياذ بالله.
    فهذه الأوصاف لا يمكن أن يستحقها أحد إلا الله تبارك وتعالى، ومع ذلك يقولون: هذه من علامات القطب.
  2. القطب عند ابن عربي

    ثم يقول: (وقال ابن عربي في الفتوحات : القطب في كل زمان عبد الله، أو عبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة) أي: متخلق ومتحقق بجميع الأسماء الإلهية، وأحد الصوفيين المعاصرين الذين يدعون إلى الشرك والضلال في البلد الحرام والعياذ بالله يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم متحقق فيه هذا الشيء، وهم يجعلونه للنبي صلى الله عليه وسلم وللأقطاب ولمن شاءوا، فتحقق فيه النعوت أو الأسماء الإلهية نسأل الله العفو والعافية.
    ثم قال: (وهو مرآة الحق تعالى -تعالى الله عما يصفون-، ومجلي النعوت المقدسة، ومحل المظاهر الإلهية، وصاحب الوقت وعين الزمان، وصاحب علم سر القدر -نعوذ بالله- وله علم دهر الدهور).. إلى آخر هذا الكلام الذي لا يصح أن يوصف به أحد كائناً من كان.
    قال: (إلى أن يقول: فالقطب هو الرجل الكامل الذي حصل الأربعة دنانير، والتي كل دينار منها خمسة وعشرون قيراطاً، وبها توزن الرجال، والأربعة الدنانير هم: الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون، فهو وارثهم كلهم رضي الله عنه).
    فتأمل كيف جعل الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين أربعة دنانير، وكل دينار فيه خمسة وعشرون قيراطاً، والقطب وارث هؤلاء جميعاً؟!
    إذاً: لا شك أنه -والعياذ بالله- كما يزعمون أفضل من جميع الرسل مجتمعين، ومن جميع الأولياء والأنبياء، ومن جميع المؤمنين مجتمعين، إلى أن يقول: (فإن قلت: فهل يحتاج القطب في توليته إلى مبايعة في دولة الباطن؟) فهنا يتساءل الشعراني ويجيب من كلام ابن عربي فيقول: هل القطب الذي يحكم الباطن يحتاج إلى مبايعة، مثل الخليفة، أي: ما دام أن هذا له مرتبة الخلافة والنيابة عن الله كما يزعمون، فالخلافة في الظاهر يحتاج الخليفة إلى أن يبايعه أهل الحل والعقد، ويجتمع الناس عليه، وهم يريدون من هذا أن يكثروا من الأوصاف مما يمليه الخيال والشياطين.
    قال: (فالجواب: نعم، كما قاله الشيخ ابن عربي في الباب السادس والثلاثين وثلاثمائة، وعبارته: اعلم أن الحق تعالى لا يولي قط عبداً مرتبة القطابة إلا وينصب له سريراً في حضرة المثال يقعده عليه) وينبئ صورة ذلك المثال عن صورة المكانة، كما ينبئ صورة الاستواء على العرش عن صورة إحاطته تعالى، فإذا نصب له ذلك السرير فلا بد أن يخلع عليه جميع الأسماء التي يطلبها العالم أو تطلبه، إلى أن يقول: (فإذا قعد عليه قعد بصورة الخلافة، وأمر الله العالم ببيعته على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، فيدخل في تلك البيعة كل مأمور من أدنى وأعلى، إلا العالون وهم المهيمون في جلال الله عز وجل، العابدون لله تعالى بالذات، لا بأمر إلهي ظاهر على لسان رسول).
    فتأمل تجد أن من يعبد الله بالذات من غير واسطة الرسول، وأن أراد به الملائكة أو نوعاً من الملائكة فمن الممكن أيضاً أن يقال هذا، أي: أن الله تعالى خلقهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فلا يحتاجون أن يبعث إليهم رسولاً، لكن أيضاً يدخل في كلامه بعض البشر الذين يعبدون مباشرة، أي: يعبدون بالذات الإلهي من غير واسطة رسول، فيقول: (فهؤلاء كلهم يبايعون القطب ما عدا هؤلاء، فأول من يدخل عليه: الملأ الأعلى على مراتبهم الأول فالأول) يعني: جبريل وميكائيل وإسرافيل، (فيأخذون بيده على السمع والطاعة) قال: (ولا يتقيدون بمنشط ولا مكره)! وهنا ظهر التناقض مع قوله السابق: يبايعون في المنشط والمكره، ثم يقول هنا: (لأنهم لا يعرفون هاتين الصفتين فيهم) إذ لا يعرف شيء إلا بضده، فهم في منشط لا يعرفون لها طعماً لعدم ذوقهم للمكره.
    ثم يبين كيف أنه كلما يأتي واحد من هؤلاء يبايع القطب يسأله بمسائل من العلم ويجيبه القطب، ومعنى ذلك أن القطب يعلم كل شيء، وأشد من هذا يقول الشيخ: (وقد ذكرنا جميع سؤالات القطابة في جزء مستقل ما سبقنا إليه أحد)، أي: أن ابن عربي يعلم حتى بالأسئلة التي يسألها الملأ الأعلى وغيرهم للقطب، فهو قد أحاط علمه بهذه الأمور التي لا يعلمها إلا خاصة الخاصة في الملأ الأعلى، ولا يجيب عليها إلا القطب والعياذ بالله.
    يقول: (قال الشيخ: وأول من يبايعه: العقل الأول)، وهذا كلام اليونان، (ثم النفس التي يسمونها النفس الكلية، ثم المقدمون من عمار السموات والأرض من الملائكة المسخرة، ثم الأرواح المدبرة للهياكل التي فارقت أجسامها بالموت) وهذا أيضاً من عقائد الفلاسفة والباطنية وأمثالهم، (ثم الجن، ثم المولدات، ثم سائر ما سبح الله تعالى من مكان ومتمكن ومحل وحال فيه إلا العالون من الملائكة).
    فكل هؤلاء يبايعون القطب في خيال هؤلاء الضلال قاتلهم الله، قال: (وكذلك الأفراد من البشر).
    وهنا وضح معنى الذين لا يبايعون القطب نوعان: العالون من الملائكة الذين يعبدون بالذات، والأفراد من البشر الذين يتعبدون مباشرة من غير واسطة رسول؛ لأن الأفراد من البشر لا يدخلون تحت دائرة القطب، وما له فيهم تصرف، أي: لا يتصرف القطب في الأفراد، قال: (إذ هم كمل مثله، مؤهلون لما ناله من القطبية، لكن لما كان الأمر يقتضي أن لا يكون في الزمان إلا واحد يقوم بهذا الأمر تعين ذلك)، أي: من هو متأهل لصفة القطبية أفراد كثيرون، لكن لا يختار منهم قطباً إلا واحداً، والذين لا يختارون فهؤلاء لا يخضعون للقطب؛ لأنهم مثله في الكمال، ولكن لا يتعبدون بأي شريعة ولا باتباع أي رسول نسأل الله العفو والعافية.
    ثم يقول: (من خصائص هذا القطب كما ذكر الشيخ في الباب الخامس والخمسين ومائتين: أن يختلي بالله تعالى وحده)، وهذا من تصور الوثنيين من اليونان وغيرهم، إذ إنهم كما يرون أن لكل ملك وزيراً أو حاجباً يختلي به وحده ويتباحث معه، ثم يوكله في تدبير المملكة، فيجعلون ذلك لله -تعالى عما يصفون- وجعلوا القطب هو الذي يختلي بالله -تعالى الله عن ذلك- ثم يقول: (وهذه المرتبة لا تكون لغيره من الأولياء أبداً، ثم إذا مات القطب الغوث انفرد تعالى بتلك الخلوة لقطب آخر، فلا تقع الخلوة لفردين أبداً).
  3. حكم القطب في عالم الباطن كحكم الخليفة في الوجود عند الصوفية

    ثم ينتقل إلى أن يقول: (ثم اعلم أنه لما كان نصب الإمام واجباً لإقامة الدين وجب أن يكون واحداً) أي: لا بد أن يكون الخليفة واحداً، لا بد أن يكون إمام المسلمين في الظاهر واحداً؛ لئلا يقع التنازع والتضاد والفساد، وكما قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: [لا يجتمع سيفان في غمد]، أي: لا بد أن يكون الخليفة واحداً، ويريدون بهذا أن يقولوا: فحكم هذا الإمام في الوجود حكم القطب في عالم الباطن.
    قال: (وقد يكون من ظهر من الأئمة بالسيف أيضاً قطب الوقت)، إذاً: ربما يجتمع في بعض الخلفاء الظاهرين أن يكون هو القطب في الباطن وفي الظاهر هو الخليفة، قال: (كـأبي بكر و عمر في وقته)! فهو أول شيء جعل أبا بكر و عمر ممن تولي بالسيف، وهذا لا حقيقة له، بل هما رضي الله عنهما ممن أجمعت عليهما الأمة قاطبة حتى ظهرت زندقة عبد الله بن سبأ اليهودي -لعنه الله- وادعى ما ادعى، حتى علي رضي الله عنه الذي ينتمي إليه السبئية ومن اقتفاهم من الشيعة الإمامية وغيرهم أجمعوا على بيعة أبي بكر ثم بيعة عمر رضي الله تعالى عنه، وكذلك الخوارج لا يخالفون ولا يجادلون في بيعة الشيخين وإمامتهما وخلافتهما رضي الله تعالى عنهما.
    إذاً: قد يكون كذلك، وقد لا يكون قطب الوقت، فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يكون إلا بصفة العدل، ويكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نواب القطب في الباطن، أي: إما أن يكون الخليفة الظاهر للمسلمين هو القطب كما كان أبو بكر و عمر ، وإما أن يكون القطب هو الباطن، والخليفة الذي يحكم المسلمين في الظاهر نائباً عن القطب في الباطن، وكل هذا الكلام تخريفات لم يدعيها لا خليفة ولا حاكم ولا محكوم، بل ولا جاءت في كتاب ولا في سنة ولا في كلام صحابي ولا في كلام تابعي، لكن ملايين من الناس في العالم الإسلامي يعتقدون هذا والعياذ بالله، فيتعبدون ويقدسون ويعظمون هؤلاء الرجال على أنهم أقطاب أو أوتاد أو أبدال إلى غير ذلك من الضلالات.
  4. القطبية في الأئمة المجتهدين عند الصوفية

    فيقول: (واعلم أن القطبية كما أنها قد تكون لولاة الأمور -من الحكام- فهي كذلك قد تكون في الأئمة المجتهدين) أي: كما أن الخلفاء قد يكون فيهم أقطاب فكذلك الأئمة المجتهدون في الفقه قد يكون فيهم أقطاب، بل هي فيهم أظهر، (ويكون تظاهرهم بالاشتغال بالعلم الكسبي حجاباً عليهم؛ لكون القطب من شأنه الخفاء) أي: اشتغال الأئمة الأربعة وغيرهم بالعلم الكسبي الظاهر، كأن يطلب العلم فيرحل إلى الشيخ الفلاني، فمثلاً الإمام الشافعي رحمه الله يذهب إلى الإمام مالك ويتعلم منه، ثم يذهب إلى بغداد ويقابل الإمام أحمد ويسأله عن مسائل وعن أحاديث، وهكذا الأئمة يتعلم بعضهم من بعض، يقول: إن هذا اشتغالهم بالعلم الظاهر حجاب فقط، وهم في الحقيقة أقطاب، ويصلون إلى العلم من غير أن يشتغلوا به، ومن غير أن يطلبوه ويرحلوا إليه ويأخذوه من أهله، والعلم الذي يعطوه علماً لدنياً، لكن يشتغلون بالعلم الظاهر، وبالرحلة في طلب العلم، وبالأخذ عن المشايخ والحلقات والحفظ والتأليف على سبيل الحجاب عليهم؛ لأن القطب لا يكون إلا مخفياً، إذاً كيف يظهرون؟ ولمن يظهرون؟ إن هذا شيء لا يعلمه أحد، حتى عن أهله لم يذكروه ولم يدعوه، ثم كيف عرفتموه أنتم بعد هؤلاء بقرون؟!
    يقول: (قال الشيخ محيي الدين : وقد اجتمعت بالخضر عليه السلام!) وهذا أحد الخرافات التي يذكرها كثيراً، (وسألته عن مقام الإمام الشافعي رحمه الله؟) أي: هل هو قطب أو وتد أو بدل؟ فقال: (كان من الأوتاد الأربعة)! إذاً هناك قطب، وهناك أفراد فيهم صفات القطبية، لكن لم يبايعوا، وتحت الأفراد الأوتاد الأربعة، قال: (فسألته عن مقام الإمام أحمد؟ فقال: هو صديق) ولا أدري ما يقصده؟ فهو ليس بوتد أو قطب أو بدل، والمهم أن هذا جوابه، ثم أطال في ذلك الكلام عن الأقطاب وأنواعهم.
    ثم يقول ابن عربي في بيان جعل الأوتاد أربعة: (إن الله تعالى جعل أربعة من الرسل في الدنيا أحياء بأجسادهم: ثلاثة مشرعون، وهم: إدريس وإلياس وعيسى، وواحد حامل للعلم اللدني وهو الخضر عليه السلام، وإيضاح ذلك أن الدين الحنيفي -الإسلام- له أربعة أركان كأركان البيت، وهي: الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون، أي: أن الدنانير الأربعة صارت هي الأركان الأربعة، والرسالة هي الركن الجامع للبيت وأركانه، فلا يخلو زمان من رسول يكون فيه، وذلك هو القطب الذي هو محل نظر الحق تعالى من العالم كما يليق بجلاله).
    إذاً: لا بد أن يكون القطب دائماً موجوداً، وهو ركن الرسالة ويمثلها، ثم يقول: (فبالواحد منهم يحفظ الله تعالى الإيمان، وبالثاني يحفظ الله الولاية، وبالثالث يحفظ الله النبوة، وبالرابع يحفظ الله الرسالة) فتكون أربعة أركان وأربعة أوتاد، يقول الشيخ ابن عربي: (ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه نائباً عنه مع وجودهم، وأكثر الأولياء لا يعرفون القطب والإمامين والأوتاد لا النواب ولا هؤلاء المرسلون)، إذاً بالإضافة إلى هؤلاء الأربعة كل واحد له نائب، وبهذا نكون قد عرفنا تقريباً شكل الهرم: القطب والأفراد، ثم الأوتاد، وكل واحد من الأوتاد له نائب على مثل قلبه، يقول: أكثر الأولياء لا يعرفون القطب ولا الإمامين ولا الأوتاد ولا النواب، ولا هؤلاء المرسلون الذين ذكرناهم، ولهذا يتطاول كل أحد لنيل هذه المقامات، فكثير من شيوخ الطرق كل منهم يدعي أنه قطب أو بدل أو وتد إلى آخره، فيعلل ابن عربي هذا بأنهم يجهلون هؤلاء، يعني: أنه هو الوحيد الذي يعرف هذه الأقطاب والأوتاد، وشيوخ الطرق لا يفقهون ولا يعرفون هذا.
  5. مراد الصوفية بالقطب

    ثم يقول: (فإن قلت المراد بقولهم: فلان من الأقطاب) -بناءً على مصطلحهم- أي: ما دامت القطبية بهذه الدرجة العميقة فلماذا يقول الصوفية : فلان من الأقطاب، ويلحظ ذلك من قرأ أي كتاب من كتب هؤلاء القوم، فيجده يقول: وكان من الأقطاب؟! فكيف يكون من الأقطاب مع أنه واحد وصفاته بهذا الشكل؟! قال: (فالجواب: أن مرادهم بالقطب في عرفهم: كل من جمع الأحوال والمقامات وإن لم يكن هو القطب الحقيقي) وقد يتوسعون في هذا الإطلاق فيسمون القطب في بلدهم: كل من دار عليه مقام ما من المقامات، وانفرد به في زمانه على أبناء جنسه، فرجل البلد قطب ذلك البلد، ورجل الجماعة قطب تلك الجماعة وهكذا.
    ولكن الأقطاب -المصطلح عليهم- فيما بين القوم لا يكون منهم في الزمان إلا واحد وهو الغوث، أي: أن القطب الحقيقي واحد، ولذلك يتساهلون في الاصطلاح فيزعمون أنه ما من أحد أو جماعة أو بلد إلا ولها قطبها، وعلى هذا يذكرون الحديث الذي ذكره الشيخ هنا، وذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه )، أي: أي جماعة تجتمع فإن فيهم ولياً، فيجعلونهم رجال غيب مجهولين موهومين، فأي جماعة اجتمعت، وأيما فئة من الناس في أي مكان بأي شكل ففيهم ولي، لكن لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه!
    إذاً: ما الفائدة؟ وما هذه الولاية؟ وما حقيقتها؟ إن هذا اعتقاد حتى يوهموا عامة الناس، ولذلك -كما قد أوضحنا- فإن من مراد الصوفية ومقاصدهم بهذا: ألا تنكر على أحد، ولا تنكر على جماعة ما فعلوا، حتى لو اجتمعوا على شرب خمر؛ لأنه ما يدريك أن فيهم ولياً لله، فإذا رأيتهم مجتمعين على أي شيء فلا تنكر عليهم؛ لأنه قد يكون فيهم القطب الأعظم، فيريدون بذلك -والعياذ بالله- إسقاط الأمر والنهي، وخاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم بكل شيء، وكل ذنب وكل جريمة تفعل، ويستشهدون دائماً بقول الله تعالى -في غير موضعه-: (( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ))[الأنعام:112]، فلا تكلمهم ولا تنكر عليهم، بل يقولون: لا بد من التماس العذر لهم، أي: اجتهد أن تلتمس له العذر، حتى لو وجدته يزني أو يشرب الخمر، بل لو كفر بالله، أو قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني، أو ما في الجبة إلا الله -تعالى الله عما يقولون- كما قال ذلك: أبو يزيد البسطامي أو الحلاج وأمثالهم، حتى يقولون لك: إن هؤلاء ما كفروا في الظاهر، بل لا بد أن تلتمس لهم العذر؛ لأن هذا كلام عظيم، وله معان خفية لا يدركها المحجوبون أو المغفلون، وهكذا يعنون بذلك أن يظهروا زندقتهم وكفرهم وإلحادهم في كل ملأ، وفي كل اجتماع، ولا ينكر أحد عليهم، فإذا جاء أحد وأنكر عليهم جابهوه بهذه الدعاوى الباطلة.
    وهنا سؤال مهم أيضاً وهو: فإن قيل: هل يكون محل إقامة القطب بـمكة دائماً كما هو مشهور ومتداول بينهم؟ ثم يختلفون في أعماله وأحواله، وكيف يكون؟ ولهذا جاء ابن سبعين الخبيث وكان يستهزئ بالطائفين بالبيت ويقول فيهم قولاً شنيعاً، ثم ذهب إلى غار حراء وتعبد واعتكف فيه ويتوقع أن ينزل عليه الوحي والعياذ بالله، إن هؤلاء في هذا الضلال المبين يعتقدون أن القطب لا يكون إلا في مكة أو كثير منهم.
    الجواب: يقول لك: هو بجسمه حيث شاء الله، لا يتقيد بالمكث في مكان بخصوصه، ويقول: ليس شرطاً أن يكون في مكة ، فيمكن أن يكون في كل مكان لا يتقيد بمكان معين، قال: ومن شأنه الخفاء، أي: ما يظهر على أنه قطب في الحقيقة، فتارة يكون حداداً، وتارة يكون تاجراً، وتارة يبيع الفول ونحو ذلك، والغرض من هذا: ألا تتكلم على أحد، ولا تنكر على أحد، واعتقد ولاية كل أحد، أو توقع ولاية كل أحد، فقد يكون حداداً، وقد يكون تاجراً، وقد يكون طباخاً، وقد يكون حمالاً وهكذا، وقد لاحظتهم بنفسي، فتجد أحياناً الواحد منهم يقول لك: انظر ذاك، ما يدريك أن يكون هذا ولياً، قد يكون القطب واحداً عادياً جداً، ويمكن أن يؤذن المؤذن ويصلي الناس وهو غافل، ويقال لك: لا تتكلم بأي شيء؛ لأنه قد يكون ما ترك الصلاة وجلس هناك إلا وهو القطب والعياذ بالله، وهذا منتشر بين العامة كثيراً، خاصة في مكة وغيرها -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا الواحد لا يستطيع أن يتكلم على أحد، ولا ينكر على أحد، ولا يعرف كيف يتعامل مع الناس؛ لأنه احتمال أن يكون هذا هو القطب كما يزعمون.
    يقول الشعراني: (فإن قيل: هل كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم أقطاب؟ وكم عددهم؟ قال: فالجواب: كما قاله الشيخ في الباب الرابع عشر من الفتوحات: إن الأقطاب لا يخلوا عصر منهم، قال: وجملة الأقطاب المكلمين من الأمم السالفة، من عهد آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون قطباً) يقول ابن عربي: (عددهم خمسة وعشرون أشهدنيهم الحق تعالى) أي: أن الله تعالى أشهد ابن عربي وأراه الخمسة والعشرين- في مشهد قدس في حضرة برزخية، بمدينة قرطبة ، وذكر أسماءهم: الفرق ومداوي الكلوم والبكاء والمرتفع والشفار الماضي والماحق والعاقب إلى آخر هؤلاء، يقول: فهؤلاء هم الأقطاب من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من هذا الضلال.
    ابن عربي إذا ذكر عند بعض الناس وتكلم فيه قالوا: أنت على مذهب ابن تيمية ؛ ابن تيمية كفر ابن عربي ، وكأنها عداوة شخصية بين ابن عربي وابن تيمية ، ولو ذهبت إلى بلاد الشام فرأيت ما يفعلون عند قبر ابن عربي لرأيت العجب، إذ إن الصوفية يأتونه من جميع أنحاء الأرض، ويعتقدون فيه والعياذ بالله الشرك الأكبر.
    يقول ابن عربي: (واعلم أن لكل بلد أو قرية أو إقليم قطباً غير الغوث، به يحفظ الله تعالى تلك الجهة، سواء كان أهلها مؤمنين أو كفاراً) وكذلك القول في الزهاد والعباد والمتوكلين وغيرهم لا بد لكل صنف منهم قطباً يكون مدارهم عليه، حتى اليهود و النصارى، ثم يقول: (وقد اجتمعت بقطب المتوكلين، فرأيت مقام المتوكل أو التوكل يدور عليه دوران الرحى حين تدور على قطبها)، وهذا هو معنى القطب عندهم، فهم أخذوها من نظرية اليونان في دوران الأفلاك، يقول: (وهو عبد الله بن الأستاذ ببلاد الأندلس ، فقد صحبته زمناً طويلاً) يقول: (وكذلك اجتمعت بقطب الزمان سنة 593هـ بـمدينة فاس في المغرب ، وكان أشل اليد، فتكلمت على مقام القطبية في مجلس كان فيه، فأشار علي أن استره على الحاضرين ففعلت) أي: قال له: لا تتكلم ففعل! مع أنه ربما يكون شيطاناً تلبس، أو ربما أن واحداً رآه يتكلم كلاماً فارغاً فقال له: اسكت، لكنه يقول: أكيد هذا القطب الأعظم قطب الزمان، وأشار عليَّ ألا أفشي أو أتحدث بسر القطبية، يقول: (فإن قلت: فهل مدة معينة للقطبية إذ وليها صاحبها لا يعزل منها حتى تنقضي؟ فالجواب: ليس للقطبية مدة معينة، فقد يمكث القطب في قطبيته: سنة أو أكثر أو أقل إلى يوم أو ساعة؛ فإنها مقام ثقيل، وبعضهم لا يتحمل أن يكون قطباً إلا لساعة واحدة) يقول: لتحمل صاحبها أعباء الممالك الأرضية كلها، ملوكها ورعاياها.
    إذاً: هو الذي يدبر أمرهم -تعالى الله عما يصفون- وهو الذي يعمل كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يتحمل الدنيا وما فيها من الملوك والأتباع إلا مثل هذا القدر، ثم ذكر أن بعضهم قطبيته تمكث ثلاثة وثلاثين سنة، وبعضهم أكثر، وبالقطب تحفظ دائرة الوجود كله، وبالإمامين يحفظ الله العالمين: عالم الغيب، وعالم الشهادة، وبالأوتاد يحفظ الله تعالى الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، فهو يقسم رجال الغيب والأولياء الكبار على التقسيم الجغرافي تقريباً، ثم بالأبدال -وعددهم سبعة- يحفظ الله الأقاليم السبعة، وهذا علم الجغرافيا القديم قبل أن تكتشف الأمريكيتان واستراليا، ولا أدري كيف علموها؟! يقول: (وبالقطب يحفظ الله جميع هؤلاء؛ لأنه هو الذي يدور عليه أمر عالم الكون كله) ثم ذكر الوراثة فقال: (هل للقطب أن يتصرف في الوراثة فيورثها لأحد أبنائه مثل ملوك الدنيا، كما حدث أيام الدولة الأموية والعباسية؟ قال: لا؛ لأن الإرث الباطن غير الإرث الظاهر).