المادة    
نحن وضحنا هذا الأمر -أمر أقسام الولاية- وهو واضح؛ لأننا نريد أن نبني عليه معرفة التقسيم البدعي عند الصوفية وأمثالهم.
  1. ادعاء الصوفية أن أصل التصوف مأخوذ من أهل الصفة

    يقول: (وقد روي أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة ) يعني: من أهل الصفة بعد أن تكلم عن أهل الصفة -لعلنا نلم بهذا- يزعم الصوفية أن أصل التصوف مأخوذ من الصفة، وهذا غير صحيح من ناحية اللغة، كيف تكون النسبة إلى الصفة صوفياً؟! كان يكون صفياً، وهذا لم يعرف في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، فكيف تصح النسبة؟ فهم يجعلون هؤلاء منهم، ثم يذكر عنهم زعمهم أن الأقطاب والأبدال والأوتاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم أهل الصفة، مع أن أهل الصفة بالإجماع كانوا يصومون ويصلون ويطيعون الله ورسوله، وكانوا من جملة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: ما خرجوا عن شريعته، هم من أتباعه، ثم إن الصفة ليست علماً على فئة أو على طائفة، إنما هي مكان يأوي إليه الفقراء، فإذا وجدوا من يأويهم انتقلوا وارتحلوا عن هذا المكان، فليست علماً على فئة لها أوصاف معينة، إنما كانت مأوى الفقراء وعابري السبيل وضيوف الإسلام ونزلائه، فكانوا ينزلون فيه، ثم إذا آواهم الله أو سكنوا أو ذهبوا إلى أحد لم يبق فيها منهم أحد، فيفترون على النبي صلى الله عليه وسلم أن غلاماً كان للمغيرة بن شعبة من أهل الصفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه وقال: هذا واحد من السبعة، أي: السبعة الأولياء السريين، كما يعتقد هذا كثير من الناس الآن؛ أنك أنت تمشي في الطريق وتنظر إلى الناس وما تدري ويمكن يكون واحد منهم ولياً لله.
    وفي يوم عرفة يقولون: من المؤكد أن الولي أو القطب الأكبر يحضر ومعه الأولياء، ويقولون: يمكن تكون ماشياً وتنظر إلى واحد قد يكون هو القطب وأنت لا تدري.
    وفي رمضان في العشر الأواخر منه يمكن يكون القطب ظاهراً فيها وأنت لا تدري، ويمكن أن يكون القطب في البيت الحرام، وقد ترى الناس يطوفون وهو واحد منهم، هو الولي السري الذي لا أحد يدري عنه، لكن هو يدري.. وهكذا!
    نقول: هذه أوهام اختلقوها، فيقول الشيخ رحمه الله: (وهذا الحديث -كذب باتفاق أهل العلم).
  2. الأحاديث الواردة في عدد الأولياء والأبدال والنقباء... لدى الصوفية والحكم عليها

    قال: (وكذا -هنا الشاهد- كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة (الأولياء) و(الأبدال) و(النقباء) و(النجباء) و(الأوتاد) و(الأقطاب)، مثل: أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ، إلا بلفظ (الأبدال).
    فهذه الكلمة هي التي جاءت عن السلف، تكلم بها بعض السلف، وكانوا يقولون: فلان من الأبدال، ومستندهم في ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وأشار الشيخ إليه هنا.
    قال: (وروي فيهم حديث: ( أنهم أربعون رجلاً وأنهم بـالشام )، وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن علياً ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بـالشام ).
    أي: أن شيخ الإسلام رحمه الله يرد الحديث من جهة السند ومن جهة المتن، أما من جهة السند فيقول: إنه منقطع وليس بمتصل، لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح متصل، بل هو منقطع.
    ثم من جهة المعنى يقول الشيخ: (إن علياً رضي الله تعالى عنه ومن معه كانوا بـالعراق ، و معاوية رضي الله تعالى عنه ومن معه كانوا بـالشام ، فكيف يكون الأبدال بـالشام ؟) يعني: إذا كانوا بـالشام فأي الطائفتين أفضل؟
    فأهل الشام كان فيها الأبدال، ومعلوم عند المسلمين جميعاً أن الذين كانوا بـالعراق أفضل؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه أفضل من معاوية ، وكان في العراق أيضاً بقية العشرة، مثل: الزبير ، و طلحة ، و سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه بقي حياً بعد أيام الفتنة، وكان أفضل الأمة بعد علي ، لكن في أيام صفين كان أفضل من على وجه الأرض علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ثم سعد بن أبي وقاص ؛ لأن البقية قد توفاهم الله عز وجل.
    المهم عندنا هذان الاثنان وهما من العشرة، وهما كانا في العراق ، كيف يكون الأبدال أربعين وأفضل الناس ويكونون بـالشام ؟
    إذاً: لا يصح في هذه شيء، فإذا كان الأمر كذلك فمن أين أخذوا هذا الترتيب وهذه الأعداد؟ ما أصل هذا القطب؟ من أين جاءوا به؟
  3. أصل عقيدة الصوفية واختلافهم في أفضل الأولياء

    الصوفية عقيدة مركبة مختلطة من دين الهندوس واليونان والمجوس ، فمن أين أخذوا فكرة القطب الأعظم؟ لقد أخذوها من الفلسفة، والفلاسفة اليونان الذين يجعلون العقل الكلي أو العقل الأول هو العقل الفعال، وبعضهم يجعل العقول عشرة، فالعقل الفعال هو الذي يدير الكون، فهم لا يعترفون بالله، لا يقولون: إن الله سبحانه وتعالى حق كما نعتقد نحن في الله، الذي يدير الكون هي العقول العشرة، العقل الأول ثم الثاني ثم الثالث... إلى العاشر، وعن طريق العاشر يدار هذا الكون، والله في نظرهم علة لوجود الكون، وليس هو خالقاً له كما يعتقد المسلمون.
    ما الذي فعله الصوفية ؟ أحلوا محل العقل القطب، أو محل العقول جعلوا الأقطاب، ثم جاءت الأعداد مقابل مثلاً ما يوجد في بني إسرائيل اثنا عشر نقيباً، قالوا: نقول أيضاً: النقباء، والأبدال: كلمة نقلت عن السلف جاءت من الحديث السابق، فجعلوا أيضاً الأبدال، وذكروا البقية النجباء.. إلى آخره؛ ولذلك تكلفوا في العدد فيقولون: على عدد أهل بدر ، وهؤلاء على عدد العشرة، وهؤلاء على عدد نقباء بني إسرائيل، وهؤلاء على عدد كذا.. فهم تكلفوا أن يقيسوهم على شيء مما هو حق وثابت ومعلوم في الدين.
    إذاً: هذه الفرية والبدعة الكبرى التي ابتدعوها ليس لها أصل في دين الإسلام، وإنما جعلوا الأولياء فئة أو طبقة معينة من الناس، طبقة خرافية خيالية افتراضية توهموها لا حقيقة لها، وهم فقط الموصوفون بالولاية، بغض النظر عن درجاتهم أو رتبهم، فهؤلاء هم الأولياء عندهم، أما بقية المسلمين المؤمنين فليس لهم ذكر عندهم، أو لا يعدون من الأولياء عندهم.
    ثم بعد ذلك إذا مات العبد الصالح ممن يزعمون أنه ولي اتخذوا قبره مسجداً وعظموه وبنوا عليه، واستغاثوا به من دون الله .. وهكذا، ويظنون أن هذا مقتضى كونه ولياً، فإذا أُنكر عليهم هذا الشرك، قالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا قيل لهم: لماذا تبنون هذا المسجد على القبر؟ قالوا: هذا ضريح ولي من أولياء الله، فأصبحت الولاية -بناء على هذا المفهوم- هي الذريعة التي توصلوا بها إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، وغلب ذلك على سائر أنحاء العالم الإسلامي.
    ومن أعظم الأدلة على كذبهم اختلافهم الشديد في الأولياء وأفضلهم، فكل طائفة تفضل وليها أو شيخ طريقتها، فلو قلت للقادرية : من أفضل الشيوخ؟ لقالوا: الشيخ عبد القادر الجيلاني، وليس عندهم في هذا شك، ولو قلت للشاذلية : من أفضل الأولياء؟ لقالوا: أبو الحسن الشاذلي ، ولو قلت للرفاعية : من أفضل الأولياء؟ لقالوا: الشيخ أحمد الرفاعي ، ولو قلت لأتباع البدوي : من أفضل الأولياء؟ لقالوا: السيد البدوي ، ولو قلت للمهدية من أفضل الأولياء؟ قالوا: السيد المهدي، وهكذا التيجانية لقالوا لك: الشيخ التيجاني ، والنقشبندية يقولون: الشيخ شاه نقشبند ، إلى آخر الطرق الكثيرة جداً التي تعد بالمئات وليس بالعشرات، وكل طريقة تدعي أن شيخها هو القطب الأعظم، وهو الغوث الأكبر والعياذ بالله، وهو أفضل الأولياء قاطبة.
    ومن هنا بنوا ما بنوا كما يزعمون، فمثلاً: الشاذلية يقولون: إن ميزة الشاذلي أنه يأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيأتيه النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، ويخاطبه ويكلمه ويعلمه، فكل إنسان له شيخ وله إسناد متصل إلا شيخنا -كما يزعمون- فإنه يأخذ مباشرة..! وهكذا.
    والمهدية التي ظهرت في السودان كان يدعي المهدي أن الخضر عليه السلام يأتيه مباشرة ويعلمه ويلقنه الدعوة، وهكذا كل طائفة، و التيجاني جاء بأشنع من هذا، وهكذا كل طائفة منهم تدعي أنها تتلقى العلم مباشرة، حتى إن بعضهم ادعى أن الله تعالى خاطبه وكلمه، وقال له: يا عبدي فلان! افعل كذا، كما يذكرون من مخاطبة عبد القادر الجيلاني وأن الله تعالى كلمه، و الشاذلي قال له: يا رب لم سميتني بـالشاذلي ولست بشاذلي؟ قال الله له: ما سميتك بالشاذلي أنت الشاذ لي. يعني: هكذا يفترون والعياذ بالله، لا نستطيع أن نأتي على أوهامهم كلها، وإن شاء الله تعالى نفصل ما يحتاج إلى تفصيل فيما بعد، والمقصود أننا نعلم كيف حصروا مفهوم الولاية بهذه الفئة المعينة المخصوصة، وما يترتب على ذلك من الشركيات والضلالات والخرافات والبدع، نسأل الله العفو والعافية.
  4. حصر الصوفية الولاية في طائفة معينة

    فالأولياء عندهم طائفة معينة مخصوصة من الأمة، وليس عموم الأمة، وهذا مع الأسف كما ترون هو الفهم الموجود عند عامة الناس، يتركون ما جاء في القرآن وما جاء في السنة، ويفهمون هذا الفهم، مع أننا لو تأملنا الحديث ( من عادى لي ولياً ) وإن شاء الله سنوضحه كما قلنا ووعدنا، يقول الله سبحانه وتعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ثم قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) هؤلاء الذين يأتون بالفرائض، ويؤدون الواجبات ولا يزيدون عليها من الأمة هم المقتصدون!
    ثم قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) هؤلاء المتقربون إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائص، وبترك المكروهات بعد ترك المحرمات هم السابقون.
    إذاً: نجد الآيات والأحاديث تدل على هذا المعنى، وهو أن كل من أتى بما افترضه الله تبارك وتعالى عليه وأداه فهو من الأولياء قطعاً؛ لنص الحديث أو لمفهومه، لكن هؤلاء يقولون: لا، الأولياء فئة مخصوصة، أو طائفة مخصوصة من المسلمين، وبقية المسلمين لا يقال عنهم: أولياء، نقول لهم: فمن هذه الفئة؟ كيف ترتبونها؟
  5. ترتيب الأولياء عند الصوفية

    وفي الحقيقة هم مختلفون، لكن نحن نريد الأغلب، أعلى الأولياء وأفضل الأولياء عندهم هو القطب الأعظم، الذي يسمونه: القطب الغوث، ويقولون عياذاً بالله: لا يسمى الغوث إلا عندما يستغاث به والعياذ بالله، والاستغاثة بغير الله شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة والعياذ بالله، لكنهم يقولون: هذا القطب الأكبر أو القطب الغوث الذي يستغاث به.
    فهو أعظم الأولياء ورأس الأولياء، والذي سماه بعضهم: خاتم الأولياء، وإن تعجبوا فاعجبوا لمن يقارن أيهما أفضل: خاتم الأنبياء أو خاتم الأولياء والعياذ بالله؟ بل ربما يصرحون بأن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، انظر الضلال والعياذ بالله، وهذا هو مذهب ابن عربي و ابن الفارض وأمثالهما، وعلى ذلك جرى الشعراني وأمثاله ممن كتبوا عن طبقات الأولياء، أو كتبوا في كرامات الأولياء، ولعلنا إن شاء الله نذكر نقولاً عنهم لإيضاح هذا بإذن الله، لكن الآن نبين أصل الفكرة.
    إذاً: عندهم رأس الهرم: القطب الأعظم، ثم عندهم الدرجة الثانية: القطب، وعلى كل حال كل منهم يرتبها كما يشاء، لكن الغالب هكذا: الأقطاب بعدهم الأبدال أو الأوتاد، إذا جعلنا الأوتاد أربعة دائماً فكلما قل العدد فهو أعلى، القطب الهرم هو واحد، وتحته الأبدال مباشرة وهم أربعون، وإذا قلنا: إن الأوتاد أربعة أو اثنا عشر، فإنهم يكونون بعد القطب مباشرة؛ لأنه كلما قل العدد يكون أعلى.
    وعندهم أيضاً النقباء أو النجباء، فإذا كان عدة النجباء أو النقباء كعدة نقباء بني إسرائيل يكون عددهم اثنا عشر، فيكون ترتيبهم هكذا: واحد، أربعة، اثنا عشر، أربعون، أما إذا كان كما يقول بعضهم: النقباء عدتهم كعدة أصحاب بدر فيكونون أدنى شيء ثلاثمائة وأربعة عشر، ويقولون: لا تخلو الأرض منهم، أي: لا يخلو زمان ولا يخلو المكان من هؤلاء، فيكون كل عصر له نبيه وفي نفس الوقت له وليه، وكما أن أفضل الناس من أهل الظاهر الأنبياء، فهناك أفضل الناس من أهل الباطن أو من أهل الحقيقة وهم الأولياء.. وهكذا.
  6. تفضيل الولي على النبي عند الصوفية

    ولديهم شبهة دائماً يكررونها: وهي أن موسى عليه السلام كان أفضل الناس من أهل الشريعة، فهو كان نبياً مرسلاً من أولي العزم، وأما الخضر فقد كان كما يزعمون مجرد ولي فقط، وهو من أهل الباطن ومن أهل الحقيقة، فعلى هذا يكون الولي أفضل من النبي، هذا من جملة شبهاتهم في تفضيل الولي على النبي، أو تفضيل مقام الولاية على مقام النبوة، وبين العبارتين فرق، إذا قلنا: تفضيل الولي على النبي، يعنون به أنه لا بد أن يكون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، أما إذا قالوا: إن الولاية أفضل من النبوة فيجوز أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، لكنه أفضل باعتباره ولياً لا باعتباره نبياً، فلهذا يقولون:
    مقام النبوة في برزخ            فويق الرسول ودون الولي
    يعني عكسوها تماماً، جعلوا أفضل شيء الولي بعد ذلك النبي ثم الرسول أدنى شيء، والعكس هو الصحيح، وهو أن الأفضل هو الرسول ثم النبي ثم الولي، على اختلاف معنى الرسول عن معنى النبي.
    فإذاً: هم يجعلون النبوة درجة أو مقاماً أدنى من الولاية، فهؤلاء الأولياء لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، وصفاتهم هي صفات غير ما يعرفه البشر، يعني أن الأنبياء يعيشون ويتزوجون ويموتون كما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه جعل لهم أزواجاً وذرية، ويموتون: (( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ))[الزمر:30].. وهكذا، أما الأولياء فكأنهم عالم آخر، وشيء آخر، وحياة أخرى، وما يسري من نواميس هذا الكون أو سنن الله تعالى في هذا الكون لا تسري عليهم؛ ولهذا يعتقد بعضهم أن الخضر عليه السلام هو القطب الأعظم في جميع العصور، يعني: منذ أول التاريخ إلى نهايته هو القطب، وهو لا يزال يظهر ويلتقي بالأولياء ويحادثهم ويكاشفهم ويخاطبهم .. إلى آخره، فلا يجعلونه بشراً كسائر البشر عاش ومات، بل الخضر عليه السلام كان نبياً، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، وجعلوا القول بأنه مجرد ولي من الأقوال الشاذة المخالفة للإجماع، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال عندما ذكر قصة موسى وفتاه من أول القصة: (( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] فالرحمة هذه تطلق على النبوة، كما في قوله تعالى: (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[الزخرف:32] فهذه الآية نزلت لما قالوا: (( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ))[الزخرف:31]، قال تعالى رداً على ذلك: (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ))[الزخرف:32] فالنبوة التي هي إنزال القرآن هذه رحمة الله، وكذلك أيضاً في قول نوح عليه السلام: (( وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ))[هود:28] ، وقوله: (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ))[يونس:58].
    أيضاً إذا قلنا: إن فضل الله هو إنزال القرآن ورحمته هي النبوة.. وهكذا، فتكون الرحمة جاءت في القرآن بمعنى النبوة.
    وقوله: (( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] معنى ذلك: أنه يوحى إليه، يقولون: إن العلم اللدني هو الوحي، هم لا يزعمون الوحي لماذا؟ يقولون: إن الرسول أو النبي يأتيه الروح الأمين -روح القدس جبريل عليه السلام- يأتيه بالوحي من الله، أما الولي فقالوا: يقرأ من اللوح المحفوظ مباشرة، تعالى الله عما يصفون، هذا من افتراء الصوفية وأكاذيبهم ودجلهم، يزعمون أنه يطلع ويقرأ مباشرة من اللوح المحفوظ.
    نقول: قول الله عز وجل: (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] العلم الذي يسمونه (اللدني) هو الوحي الذي آتاه الله الخضر عليه السلام، كما روى الإمام البخاري رحمه الله عدة روايات عن الخضر ولقائه موسى عليهما السلام: ( قال: يا موسى! أنت على علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني إياه لا تعلمه ) فهذا نبي وهذا نبي، لكن لدى هذا من العلم ما يحتاج إليه هذا، ولدى هذا من العلم ما يحتاج إليه ذاك.
    أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل المرسلين وسائر الخلق علماً، ولا يحتاج صلوات الله وسلامه عليه إلى أن يعلمه أحد، بل كل طريق إلى الله مسدود منذ أن بعثه الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فلا طريق يوصل إلى الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الخلق كافة، وإنما كان رسولاً إلى قومه خاصة: (( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:5] بينما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: (( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:1] في أول سورة إبراهيم، فانظروا الفرق بين العبارتين، بين من قال الله تعالى: (( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:1] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبين من قال: (( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:5] وهو موسى عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى أرسله إلى فرعون وملئه، وجعل أتباعه هم بني إسرائيل بعد أن أغرق فرعون وملأه، وأنجاهم إلى الأرض التي كتب الله تعالى لهم، فأتباعه هم بنو إسرائيل والأنبياء من بعده، وأفضلهم وأعظمهم موسى عليه السلام، فهو أفضل وأعظم أنبياء بني إسرائيل كلهم، فقد جاء من بعده أنبياء لبني إسرائيل، وكان آخرهم -وهو أفضل الأنبياء من بعد موسى عليه السلام عيسى عليه السلام، قال: (( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ))[آل عمران:49].
    إذاً: فلا يمنع أن يبعث الله تبارك وتعالى رسلاً في الأمم الأخرى كالفرس أو الترك أو اليونان.. أو غيرهم، قال تعالى: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24]، في نفس الوقت الذي يكون فيه رسول من رسل بني إسرائيل في أمته، ويكون لدى هذا من العلم ما ليس لدى هذا.. وهكذا كان الأمر.
    ولذلك في أول الحديث السابق موسى عليه السلام سئل وهو على المنبر: ( هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال: لا. ) فلم يرد العلم إلى الله عز وجل، بل نفى ذلك ظناً منه أنه لا أحد أعلم منه، فعندئذ أخبره الله عز وجل أن هناك من هو أعلم منك، وهو الرجل الذي تجده في المكان الفلاني على الصفة الفلانية، فذهب هو وفتاه إليه.
    إذاً: ما كان في إمكان موسى عليه السلام أن يقول ذلك؛ لأن الأرض فيها من لم يجب عليه أن يتبعه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107] فببعثته سد الله تعالى كل طريق يوصل إليه، إلا من طريق اتباعه صلى الله عليه وسلم.
    ثم إن الخضر عليه السلام لما فعل ما فعل، وأنكر عليه موسى ما أنكر، كما بين الله تعالى وقص علينا، وأخذ يبين لموسى عليه السلام تأويل ما لم يستطع عليه صبراً، قال من جملة ما قال: (( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ))[الكهف:82] أي: أنني قد كلفت وأمرت من الله عز وجل، فهو قد فعل ما فعل بما يقتضي العلم الذي قال الله تعالى عنه: (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] وهو الوحي الذي أوحى الله تعالى إليه، وما فعل ما فعل إلا بأمر الله ولم يفعله بأمره.
    إذاً هو نبي يوحى إليه من الله عز وجل، ولديه من العلم ما لم يكن لدى موسى، كما أن موسى عليه السلام أعلم بشرائع التوراة ، وهو كتاب الله الذي أنزله عليه، وهو أعلم بحلالها وحرامها وما فيها من الخضر عليه السلام، وهذا بشر وهذا بشر، (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ))[الأنبياء:34] كلهم ميتون موسى وكذلك الخضر ، وكلهم ملاق الله عز وجل.
    فما يزعمه الصوفية من أن الخضر عليه السلام كائن أسطوري خيالي وهمي، لا أول لحياته ولا آخر، ويتشكل ويتقلب، ويأتي كلَّ أناس ويذهب إلى أولياء، وأحياناً يعتقدون أنه يذهب إلى جملة من الأولياء في وقت واحد، ثم ما يعتقدون أن الأولياء والأقطاب والأوتاد والأبدال يجتمعون كلهم في ليلة السابع والعشرين من رمضان، أو ليلة النصف من شعبان في مكة ، ويلتقون ويتحادثون.. كل هذه خيالات وأوهام؛ ولهذا يذكر الشيخ رحمه الله في الرد على هذه البدع: أنه لم يصح ولم يثبت من هذه الأسماء شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس أو الصالحين إلى أقطاب وأوتاد وأبدال.. وغير ذلك...